أكرم القصاص

عبدالناصر ويوليو.. حلقات التاريخ والاستقطاب ومفارقات الحب والكراهية

الجمعة، 26 يوليو 2024 10:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

فى ضريح جمال عبدالناصر، فى ذكرى يوليو وميلاد ناصر، يمكن أن تجد أجيالا متعددة بين ثمانين وتسعة عشر عاما، بما يعنى تواصل أجيال فى الموقف تجاه يوليو 1952 وجمال عبدالناصر، وهؤلاء لديهم فرصة لتفهم هذا العهد وقراءته، بذهنية أقل استقطابا.. وكل ما يحتاجونه هو قراءة أوراق وقائع، لكن المفارقة أن العصر يتيح معلومات، لا يترك فرصة للتفهم والقدرة على امتلاك منهج للمعرفة وليس للكيد والشجار الضائع.

ثورة يوليو كانت تحولا فى التاريخ والجغرافيا، بصرف النظر عن موقف الشخص منها، ثم إنها بعد أكثر من 7 عقود لا تزال محل تأثير وجدل، يعنى أهميتها وجمال عبدالناصر الراحل قبل 54 عاما  يفرض وجوده ، ويبقى حاضرا مع أجيال لم تعاصره وولد بعضهم بعد رحيله بعقد وربما عقدين أو ثلاثة، من زاوية المصلحة يمكن تفهم موقف شخص ما من ثورة 23 يوليو، كبار الملاك أو الرأسماليين، وكل من فقد وضعه أو ميزاته، الموقف هنا يتعلق بالمصلحة المباشرة، فى المقابل فإن الطبقة الوسطى وبعض الطبقات الدنيا التى ارتقت تتخذ موقفا مؤيدا منها.

فيما يتعلق بالموقف من الثورة وعبدالناصر هناك مفارقات، هناك فئات يفترض أنها أضيرت من الثورة تقف فى صف التجربة، بينما ترتفع الانتقادات من فئات استفادت مباشرة، ويروج بعضهم لصورة مصر الملكية، دولة متقدمة وجميلة، يقيسون على وسط القاهرة والقصور، ويتجاهلون أغلبية كانت مكبلة بالفقر والمرض ومعزولة عن «جنة الملكية»، وتكشف روايات طه حسين وكتابات توفيق الحكيم، ومطالب الوفد حزب الأغلبية عن فوارق طبقية واجتماعية، وحتى الإصلاح الزراعى كان مطلبا لتيارات سياسية واجتماعية، ومع هذا هناك مقولات مجهولة النسب عن كيف كان الجنيه المصرى يساوى عشرات الجنيهات الإسترلينية، وأن إنجلترا كانت مدينة لمصر، واحتياطيات مصر من الذهب وحالة الرفاهية والثراء التى يعيشها المصريون، مرفق بصور من شارع فؤاد، والقاهرة الإسماعيلية، أو العكس حيث ينفى البعض أى ميزة للعهد الملكى، ويتجاهلون أن يوليو كانت حلقة من حلقات التاريخ الحديث يفترض قراءتها بمفردات عصرها.

وتظل النقطة الفاصلة فى النقاش الاستقطابى، هو أن بعض منتقدى يوليو يصورون الواقع فى العهد الملكى على أنه كان جنة على الأرض ويتجاهلون الفوارق والاجتماعية والاقتصادية والانقسام الاجتماعى بين طبقة مترفة، وأخرى معدمة، وفى المقابل يرى قطاع من أنصار الثورة، أن العهد الملكى كان يخلو من أى مميزات، والواقع أن مصر لم تكن تخلو من طبقة متوسطة واعية، وأن الفترة من ثورة 1919 حتى يوليو 1952 شهدت تطورا اجتماعيا واقتصاديا واتسعت رقعة التعليم الإلزامى والمتوسط والجامعى، بشكل أدى لتشكيل طبقة وسطى كانت هى الرافد الذى اعتمدت عليه دولة يوليو فى بناء المشروع السياسى والاجتماعى، وحتى الضباط الأحرار بقيادة جمال عبدالناصر كانوا من الطبقة الوسطى الذين دخل أبناؤهم الكلية الحربية بجهود الوفد وما بعد معاهدة 1936، كما كان تكوين وعى الضباط الأحرار فى سياق الحركة السياسية الثرية فى الثلاثينيات والأربعينيات، بل إن مبادئ فى الإصلاح الزراعى والعدالة والتصنيع ومجانية التعليم، استمدت من أدبيات ومطالبات الحركات الاجتماعية والسياسيين قبل يوليو.

وبالتالى فإن جمال عبدالناصر لم يخترع أفكار الاشتراكية والتنمية المستقلة، بل كان يترجم الأفكار التى صاغتها نخبة سياسية وثقافية وفكرية واقتصادية للاستقلال والتنمية، وتبنى عبدالناصر أفكار كبار السياسيين والمفكرين الاقتصاديين، وعلى رأسهم طلعت حرب «أبو الاقتصاد المصرى»، الذى كان أول من لفت النظر وسعى الى تمصير الاقتصاد والصناعة، ولم يكن مجرد اقتصادى ورجل بنوك، ولكنه  كان مفكرا يؤمن بالاستقلال، شارك فى ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول، وأنشأ «شركة التعاون المالى» بهدف إقراض المصريين، وأسس «بنك مصر» عام 1920، والشركات العملاقة التى تحمل اسم مصر مثل الغزل والنسيج بالمحلة، ومصر للطيران، والتأمين، والمناجم والمحاجر، والبترول، والسياحة، واستوديو مصر، حتى أجبر على الاستقالة، فانعزل ومات عام 1941، بعد أن وضع أسس الاقتصاد الوطنى، ومثلت أفكاره القاعدة التى قام عليها نموذج التنمية بعد يوليو، وكان هذا متزامنا مع دور حزب الوفد فى نقل التحديث ودعم انضمام أبناء الطبقى الوسطى والفقراء إلى التعليم والوظائف والجيش والشرطة، وتكشف كتابات ونقاشات السياسيين أنهم لم يكونوا راضين عن الفقر والظلم واستئثار المحتلين وأصحاب الامتيازات بكل شىء.

وبالرغم من تضاعف أدوات المعرفة والبحث ومصادر التاريخ، يظل الجدل «صداميا» يفتقد للتوثيق ويميل إلى الاستسهال، ونجد أجيالا ولدت بعد رحيل عبد الناصر بثلاثة عقود ترث جدلا عقيما، الأفضل هو أن يعتصم العقلاء بالمنطق والعقل، ويتجاوزوا جدلا عقيما إلى محاولة للتفهم، خاصة أننا أمام حدث لا يمكن استرجاعه أو استعادته، أو استنساخه.


مقال أكرم القصاص فى عدد اليوم السابع

 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة