إن أية مطالعة سريعة لبعض المواقف المتنوعة، عربيا، إزاء ظاهرة العولمة، خصوصا عند مناقشة علاقتها بالهوية وبالثقافة العربيتين، تكشف بسهولة عن اختلاف وتباين واضحين، حيث يمكن بوضوح رؤية مشهد يكاد ينتمي إلى مسرح قديم، مبنيّ على بنية الثنائيات التبسيطية.. وفي هذا المشهد المسرحي نري ونسمع من يهتف: "تحيا العولمة" يواجه من يصيح: "تسقط العولمة".. والتمعن فى هذا المشهد يكشف زوايا شتي لتحليل هذه الظاهرة وتقييمها، وعلى هذا المستوى يمكن إدراج ما أصبح يسمي "خطاب العولمة المضادة"، أو الخطاب "الذي أنتجته الثقافة العربية الراهنة حول علاقة الثقافة عامة بالعولمة". وفضلا عن أن هذا المشهد، ثم هذا الخطاب، يفصحان عن تعدد المواقع التي يمكن منها الإطلال على هذه الظاهرة، فإنهما يكشفان أيضا، فى الوقت نفسه، عن التباسات عدة كامنة في مكونات أبعادها، سواء على مستوى طرفيها: الفاعل المؤثر المهيمن، ثم المتلقي المتأثر المهَيمن عليه، وأيضًا على مستوى تاريخ العلاقة بينهما وملابسات هذه العلاقة وكيفية أو كيفيات تحققها.
ولعل مما يزيد المواقف من العولمة تعارضا أو تضاربا، ويجعل هذه المواقف تتخطي الاختلاف التقليدي، الذى استمر لزمن ليس قصيرا، في فهم علاقة "الأنا"/ الآخر" أو علاقة "الشرق/الغرب"، أن ظاهرة العولمة تأتي في سياق أكثر تعقيدا من ذلك الذي أثيرت فيه، لفترة زمنية طويلة، علاقة "الأنا"/ الآخر" أو "الشرق/الغرب"، فضلا عن أن العولمة (التي ينظر إليها البعض على أنها نوع من هيمنة جديدة، بلغة جديدة وبأدوات جديدة) تلوح شاخصة بتعقيدات شتى، وتطل مدججة بأسلحة الاتصالات الحديثة بما تمتلكه من قدرات هائلة، جاذبة ومبهرة، وبما يصاحبها من متغيرات جذرية.
لقد مرت عقود قليلة، فحسب، على بداية استخدام جهاز المذياع (الراديو) الذى لاح، فى زمن ما، وسيلة تكنولوجية مستحدثة فعالة في "توجيه" الرأي العام لأهل لغة ما، أو الذى مثّل – بتعبير فيلسوف الاتصال مارشال ماكلوهن- "البديل المعاصر للطبول البدائية القديمة"، تلك التي كانت تستخدم كي تحشد القبيلة القديمة وتدفعها فى اتجاه بعينه، للمشاركة في حفل أو طقس أو للانخراط في حرب. ولكن تلك العقود القليلة التى مضت حملت معها من ابتكار وسائل "التوجيه" المتقدمة، ومن الاختراعات الجديدة التي يمكن تسخيرها لهذا التوجيه، ما جعل جهاز "الترانزستور" نفسه يغدو جهازا بدائيا..كذلك ارتبطت تلك العقود القليلة بتغيرات هائلة فى سياقات الاتصال وكيفياته، وبتعقّد التصورات لـمفهوم الـ"توجيه" نفسه، ليتخطى مستوى تحريك الآراء السياسية والإيديولوجية إلى مستوى التأثير الخفي، ولكن الفعال، فى الثقافة وفى الذائقة الجمالية، وحتى في التعامل مع الأطعمة والملابس.. إلخ، فضلا عن أن "القبيلة" القديمة التى كانت تجمعها، فى زمن غابر، لغة واحدة، وأحيانا نطاق جغرافى محدود، ثم انفتح لها المجال لتستوعب أبناء اللغة الواحدة فى زمن لاحق، اتسعت الآن لتشمل أرجاء الكرة الأرضية كلها ولغاتها جميعا؛ فالوسائل والاختراعات المستحدثة لم تعد قانعة بالحركة داخل دائرة لغوية أو سمعية محلية بعينها، بل انتقلت إلى دوائر جديدة واسعة للتخاطب، وإلى نطاقات ثقافية بصرية غير محدودة، يمكن للجميع، عبر كل اللغات، أن يفهموها.
هذه الوسائل والاختراعات يصعب على الكثيرين النظر إليها باعتبارها أدوات محايدة مجردة؛ أو يصعب عليهم أن يفصلوا بينها وبين النزوع إلى استخدامها وتوظيفها لتحقيق أهداف ولتسييد قيم بعينها. وتزامن انبثاق هذه الوسائل والاختراعات مع صعود العولمة، قرن بين كل منهما فجعل إحداهما تلوح شارة على الأخرى، كما أضاف هذا التزامن إلى التباس المواقف من العولمة تضارب التصورات حول ظواهر أخرى ـ ليست من العولمة فى شيئ ـ تنتمي إلى العالم الحديث بوجه عام، بل إن هذا التزامن جعل العولمة تتراءى وكأنها ظاهرة جديدة تماما، رغم جذورها الممتدة في تاريخ قديم، قدم عصر النهضة الأوربية نفسه، إذ هي تراكم طبيعي لعملية التحديث التي بزغت في ذلك العصر مقترنة بما صاحبه من نموذج للمعرفة كان، فى الوقت نفسه، نموذجا للقوة. والجديد في ظاهرة العولمة، تبعًا لهذه الحقيقة، يرتبط بمسماها وليس بمحتواها أو بآلياتها، ويتعلق أيضا بسرعتها المتناهية التى تأكدت بجلاء خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين وأوائل هذا القرن، كما يتصل بشموليتها، و"بمركزية الغرب في قيادة حركتها، ثم بمركزية الولايات المتحدة الأمريكية في قيادة الغرب الذي يقود عملية العولمة". ولكن، مع ذلك، فالعولمة مع سياقها التاريخي الذى يمكن أن يكون ممتدا إلى تاريخ قديم، تلوح الآن بصورتها الحديثة مصحوبة بمتغيرات جديدة هائلة، تتداخل فيها القيم والمنجزات المبهرة مع النوايا الخفية للهيمنة.. ولعل هذا التداخل يكمن وراء تباين أشكال تقييمها، واختلاف المواقف منها أو من بعض جوانبها.