الجيوسياسية أو ما تسمى بالجيوبولتيك قد نطلق عليها إطار مفاهيمي علمي مخطط ومقصود، يتضمن نسقًا مترابطًا من الأفكار والمعتقدات والمبادئ التي تحدد صورة المعطيات الطبيعية والبشرية، والتي بواسطتهما تحدث تأثيرًا في المسار السياسي بهدف السيطرة على مجال أو محيط بعينه، وهنا نستخلص أو بالأحرى نرصد حالة تأثير السلوكيات السياسية ودورها في تغير الأبعاد الجغرافية بصورة علمية ممنهجة؛ حيث الرؤية الواضحة بأن الدولة تشبه الكائن الحي.
وهناك من ينظر إلى الجيوسياسية باعتبارها أحد أدوات تقييم الدول من الناحية السياسية؛ حيث الغور في التركيبة المجتمعية للكشف عن صورة الروابط وقوة النسيج؛ فتتحدد طبيعة المجتمعات بأوزان يحسب لها حسابات خاصة في التعامل معها، ناهيك عن حصر للمشكلات التي تواجهها بكل أنماطها، يأتي بعد ذلك الخصائص الطبيعية لهذه الدولة وما تمتلكه من موارد وما تفرزه من إنتاج بتنوعاته، ثم النظرة الشمولية التي تستهدف التعرف على ثقل ومدى تأثير تلك الدولة على المستويين الإقليمي والعالمي.
ومن يرى أن الجيوسياسية علم ينبري في قواعده على آليات ومنهجيات مقننة تستهدف دراسة التفاعلات بين المساحة الجغرافية وحالات التعارض بين القوى الناشئة فيها، ومن ثم فإن هذا العلم يؤكد أهمية دراسة الموقع السياسي للدول أو الأقاليم يساعد على معرفة حقيقية بتأثيرات موقع هذه الدول أو تلك الأقاليم في حالتي السلم والحرب على السواء.
وبناء عليه نرى أن علم الجيوسياسي يهتم في غايته الرئيسة بتحديد الظاهرة الجغرافية لدولة ما أو لإقليم بعينه والعكوف على دراسة تلك الظواهر واستكمال محدداتها وآثارها، بالتزامن بدراسة طبيعة المجتمعات داخل إطار الدولة أو الإقليم بما يحدد أحجام قدرات تأثير البشر فيها ومقدرتهم على التغيير في ضوء ما يمتلكون من فكر وما يتبنون من معتقد وما يمارسون من سلوكيات وما يتبنون من نسق قيمي يشاهد في صورة التعاملات الداخلية والخارجية، ولا نتناسى دراسة وتحليل مقومات الدولة أو الإقليم المستهدف من الجيوسياسية فيما يرتبط بالمقدرات المادية الطبيعية منها وغير الطبيعية والتي لها دلالات كثيرة تؤخذ في الحسبان.
وثمة فروق يتوجب أن ننتبه لها بين ماهية الجيوسياسية أو الجيوبولتيك والجغرافيا السياسية والتي نعني بها ما هو ملك للدولة وما هو متاح لها، في مقابل أن الجيوسياسية أو الجيوبولتيك تهتم في المقام الرئيس بآليات البحث المستدام عن احتياجات الدولة لتنمو وتتمدد خارج حدودها، ومن ثم فالواقع الفعلي هو ما تهتم به وتنشغل الجغرافيا السياسية، بينما الجيوسياسية نظرتها مستقبلية لما تود تحقيقه من أهداف وغايات بغض النظر عن صورة الاستراتيجيات التي تتبعها؛ حيث قد تلجأ للتغيير أو التزييف لتحقيق مآربها.
والدول التي تهتم بجغرافيتها السياسية تنظر إلى ما لديها نظرة ثابتة، بينما الدول التي تتبنى فكرة الجيوبولتيك ترى أن حدودها ينبغي أن تكون متحركة نحو تحقيق غاياتها؛ فالتطور والامتداد أصل من أصولها، ومبدأ يعد راسخًا في سياستها، وفي ضوء ذلك نرى أن صورة الدولة تمثلها جغرافيتها السياسية، في مقابل أن الجيوبوليتك تسخر الجفرافيا في خدمة مصالح الدولة مهما تباينت الطرائق والاستراتيجيات وتبدلت من حين لآخر وفق طبيعة الموقف وديمومة الصراعات بصورها ومستوياتها المختلفة.
ورغم التباين بين ماهية الجيوسياسية أو الجيوبولتيك والجغرافيا السياسية؛ إلا أن الأولى تقوم على مأرب مطالعة تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والصحية والتعليمية والعسكرية والخطط الاستراتيجية التي تتبناها الدولة وتعمل على تحقيقها بصورة فعلية، وهنا تحدد العامل الجرافي لترصد من خلاله الرقعة التي تشغلها دولة ما ومدى تأثيرها وقوتها في حيزها المكاني والمجاور لها، وما بها من موارد تشكل صورة اقتصادياتها، والتحديات التي تشكل حجر عثرة في استدامة التنمية لديها؛ بالإضافة لبعض المتغيرات المورفولوجية التي تخض للدراسة والتحليل وفي ضوءها تتخذ قرارات مباشرة أو غير مباشرة.
ونوقن بأن ما تقدمه الجيوسياسية من معطيات تمخضت عن دراسات مستفيضة، تُعد لبنة صناعة واتخاذ قرارات لدى دول ترسم سياستها الخارجية وتعمل على مراجعتها وفي ما تمت الإشارة إليه، وما نرصده الآن من نزاعات على الصعيدين الإقليمي والدولي وما نعيشه من تغيرات مناخية وما نشاهده من صور للإرهاب الرقمي منه والدموي وما نلاحظه من تحولات اقتصادية وسياسية واجتماعية غيرت حياة العديد من الأمم والشعوب، وما عاصرناه من نوازل أكدت عوارًا وضعفًا لدى إنسان استشعر أنه ملك الكون بحذافيره وتَحكم في مقدراته، كل ذلك وغيره مما يصعب حصره يعد من صور التحديات الجيوسياسية.
والقيادة السياسية المصرية ومؤسسات الدولة الوطنية تبذل الجهود كي تواجه التحديات الجيوسياسية؛ فالسعي أضحى على قدم واق تجاه حل النزاعات ووقف نزيف الدماء، والديبلوماسية الرئاسية تعمل على مدار الساعة كي تعزز التعاونات وتجلب الشراكات وتجذب الاستثمارات التي تقوي الاقتصاد المصري لتخرج البلاد من حالة العوز لحالة الاكتفاء وفيما رسم لها في برنامج الإصلاح الاقتصادي ومخطط التنمية المستدامة في المجالات المختلفة.
لم تترك مصر بابًا إلا وطرقته بهدف تحقيق غاياتها ومصالحها العليا التي تصب قطعًا في مصلحة الشعب المصري العظيم؛ فشاركت في كافة المعاهدات والمؤتمرات والقمم التي تضمنت قضايا التغير المناخي، والأمن الإقليمي والدولي، ومسارات التنمية المستدامة، وقدمت وما زالت كافة وصور المساعدات الإنسانية للأشقاء وغير الأشقاء، وحرصت على تعزيز العلاقات التجارية مع جل دول العالم، وهذا وغيره من الممارسات ساهمت وتساهم في تعظيم دور القطر المصري بما يحفظ أمنه وأمانه ويؤدي إلى استقراره ويحد من الآثار والتحديات الجيوسياسية.
إن ما يعانيه الشرق الأوسط الآن من حالة ضعف واستكانة وهشاشة، بل وإن شئت فقل حالة من الانهيار التام؛ نتيجة للتغيرات الجيوسياسية التي غمرت المنطقة ومناطق أخرى وشكلت تحديات لا حصر لها؛ فنرصد ونتابع ونشاهد الأزمات تلو الأخرى، مما تأكد في الوجدان سراب كينونة تماسك واصطفاف دول كما كانت من ذي قبل، وبات الحل الوحيد التي تنادي به الجيوبوليتك محورة الأقاليم.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.