يبدو مفهوم "التدخل الخارجي" في الشؤون الداخلية قديما، يرتبط في نشأته مفاهيم الدولة الوطنية والسيادة، ويضاهي في عمره العلاقات الدولية، في ضوء طغيان نظريات النفوذ والهيمنة، وإن كان قد اتخذ العديد من الأشكال، منها ما هو عسكري، على غرار الغزو والاستعمار، ثم اتخذ منحى اقتصادي، عبر أدوات المساعدات الممنوحة والعقوبات المقروضة من قبل القوى الكبرى للدول الأخرى، مقابل تبعيتها الكاملة، وهو ما المشهد الذي هيمن بصورة كبيرة على النظام الدولي، في عقوده الثلاثة الأخيرة، وتحديدا منذ انطلاق حقبة الهيمنة الأحادية، وإن شابه أيضا أبعادا سياسية، عبر التلويح بسلاح الديمقراطية تارة، وحقوق الإنسان تارة أخرى، لاستخدامهما كأدوات في إثارة الفوضى والحروب الأهلية، وهو ما شهدناه في منطقتنا خلال العقد الماضي، خلال ما يسمى بـ"الربيع العربي".
والتدخل الخارجي، في شؤون الدول الأخرى، وإن كان محظورا بحكم المواثيق الدولية المعترف بها، وعلى رأسها ميثاق الأمم المتحدة، إلا أنه يبقى مرتبطا بالعلاقات الدولية، في ضوء التنافس بين القوى، من أجل تحقيق المزيد من النفوذ، سواء على النطاق الإقليمي الضيق، أو الدولي الأكثر اتساعا، حيث تبقى قدرة الدولة على فرض كلمتها ورؤيتها على محيطها، بمثابة دليلا دامغا على قوتها وهيمنتها، ولكن يبقى الاختلاف في صورة التدخل، حيث ارتبط زمن الاستعمار بتعددية القوى الحاكمة للنظام الدولي، في ظل التنافس بين الامبراطوريات الغربية، وبالتالي كانت السيطرة العسكرية على الأرض بمثابة البرهان على القوة، بينما كانت المساعدات الاقتصادية أو العقوبات هي الأداة الحاكمة في زمن الهيمنة الأحادية، كافية لتبسط واشنطن نفوذها على العالم، في ضوء غياب المنافسة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
إلا أن ثمة تغييرات تبدو واضحة في أشكال "التدخل الخارجي" باتت تطغى على المشهد العالمي، في لحظة المخاض الحالية، ارتبطت في مجملها بالتغيير الكبير في شكل النظام الدولي، مع صعود قوى أصبح بإمكانها التنافس مع الولايات المتحدة، على قمة النظام الدولي، منها الصين وروسيا، بالإضافة إلى قوى أخرى تسعى لتوسيع نفوذها الدولي، منها الاتحاد الأوروبي، في صورته الجمعية، وبعض القوى الفردية في القارة العجوز، على غرار فرنسا وبريطانيا، ناهيك عن العديد من القوى الآسيوية المؤثرة، كالهند وغيرهم.
ولعل التغيير الملموس في النظام الدولي، وإن كان لم يصل إلى ذروته بعد، تزامن مع تغييرات كبيرة في أدوات النفوذ، منها الطفرة الكبيرة في مجال التكنولوجيا، وصعود الذكاء الاصطناعي، لتتحول إلى أهم الأسلحة المستخدمة من قبل القوى المستخدمة، وهو الأمر الذي ساهم في ظهور الحروب السيبرانية، باعتبارها نموذج مهم للصراع الدولي الجديد، وتتحول إلى أداة مهمة من أدوات التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول، وهو ما يعكس الحديث المتواتر عنها في مواسم الانتخابات الأمريكية، على سبيل المثال، وهو ما بدا أولا خلال انتخابات 2016، عندما تناولت تقارير صحفية مسألة اختراق البريد الإلكتروني للمرشحة الديمقراطية آنذاك هيلاري كلينتون، بينما أشارت أصابع الاتهام إلى روسيا في تلك الفترة، بهدف إسقاطها لصالح منافسها الجمهوري دونالد ترامب.
وبعيدا عن صحة الاتهامات الأمريكية لروسيا من عدمها، فإن المشهد ربما أنبأ عن عصر جديد من عصور الصراع الدولي، وشكل جديد من أشكال التدخل الدولي، والذي بات يتجاوز مجرد إخضاع المنافسين وإجبارهم على الدواران في فلك معين، وإنما تشكيل إداراتهم الحاكمة، وهو ما يمثل ذروة السيطرة عليهم.
و"التدخل الخارجي"، في واقع الأمر لم يقتصر على المنافسين، فقد ارتبط بالحلفاء، وهو ما بدا في الحديث عن محاولات التجسس من قبل قوى بعينها على زعماء الدول الحليفة لها، إلا أنه بات ممتدا كذلك إلى محاولات تشكيل أنظمتها، وهو ما يبدو على سبيل المثال في الخطاب الأخير الذي ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الكونجرس الأمريكي، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، في محاولة لزيادة حالة الاستقطاب الموجودة أساسا في المجتمع، والتي بلغت ذروتها مع محاولة اغتيار المرشح الجمهوري دونالد ترامب، ثم انسحاب بايدن، ناهيك عن الجدل حول المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، وغير ذلك من الأزمات والتي تمثل نتاجا لتراكمات شهدتها بلاد العم سام في السنوات الأخيرة.
خطاب نتنياهو الأخير، والذي انطلق من منبر الديمقراطية الأمريكية، يمثل أحد أهم صور التدخل الخارجي، في الشؤون الأمريكية، مستغلا تلك المساحة التي تمنحها له ثوابت واشنطن تجاه إسرائيل، بالإضافة إلى شعاراتها حول حرية الرأي والتعبير، ليساهم في حشد التأييد لمرشح بعينه، وهو الأمر الذي ربما استشعره قطاع كبير من النواب الذي يمثلون حزب الإدارة الحالية، فآثروا مقاطعته، وعلى رأسهم هاريس نفسها، والتي كان ينبغي أن تتواجد، ليس فقط بحكم كونها مرشحة رئاسية، وإنما باعتبارها نائبة الرئيس والتي تترأس جلسات مجلس الشيوخ وهو أحد غرفتي الكونجرس.
وهنا يمكننا القول بأن مفهوم "التدخل الخارجي" في الشؤون الداخلية للدول، لم قاصرا على مجرد السيطرة على سياسات الدول الأخرى، وإنما بات أوسع نطاقا إلى الحد الذي يمكن لقوى خارجية أن تلعب دورا رئيسيا في تشكيل حكوماتها، عبر التدخل في العملية الانتخابية، وتوجيه الرأي العام تجاه حزب أو مرشح على حساب منافسيه، بينما لم يعد محدودا باقتصاره على صورة واحدة، وإنما بات متنوع الأدوات، بعضها جديد، يعتمد على عنصر التكنولوجيا، وبعضها يقوم في الأساس على المبادئ التي أرساها النظام الدولي، على أساس الديمقراطية، من خلال الحشد لصالح فريق على حساب آخر، على غرار المشهد الأخير في الكونجرس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة