يحتل سيدنا إسماعيل، عليه السلام، مكانة مهمة في التراث الإسلامي، فهو جد سيدنا محمد عليه الصلاة والإسلام، وأبو العرب في التاريخ، لكن كيف اختلفت قصته بين النصين القرآن الكريم وكتاب التوراة.
نعتمد في ذلك على ما ورد في كتاب القصص القرآني ومتوازياته التوراتية: أساطير الأولين لـ فراس السواح:
إسماعيل
(١) في الرواية التوراتية
كان إبراهيم في سن الخامسة والسبعين من عمره عندما ارتحل من حران إلى كنعان. ولما كانت امرأته عاقرًا لا تُنجب، فقد أمضى إبراهيم في كنعان عشر سنواتٍ دون أن يُرْزَق ولدًا. ولما يئس الزوجان من الإنجاب قالت له زوجته ساراي أن يدخل على جاريتها المصرية هاجر عساهما يُرزقان منها بذُريةٍ. فسمع إبراهيم لقول ساراي ودخل على هاجر فحملت منه، وعندما رأت هاجر أنها قد حملت صغُرت مولاتها في عينيها، فتظلَّمت ساراي إلى إبراهيم فقال لها: هو ذا جاريتك في يدك، افعلي بها ما يحسن في عينَيك. فأذلَّتها ساراي فهربت من وجهها، فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية، على العين التي في طريق شور، وقال: يا هاجر، جارية ساراي، من أين أتيتِ وإلى أين تذهبين؟ فقالت: أنا هاربةٌ من وجه مولاتي ساراي. فقال لها ملاك الرب: ارجعي إلى مولاتكِ واخضعي تحت يدَيها. وقال لها ملاك الرب: تكثيرًا أكثِّر نسلكِ فلا يعدُّ من الكثرة. وقال لها ملاك الرب: ها أنتِ حبلى فتلدين ابنًا وتدعين اسمه إسماعيل؛ لأن الرب قد سمع لمذلَّتك، وإنه يكون إنسانًا وحشيًّا يده على كل واحدٍ ويد كل واحدٍ عليه، وأمام جميع إخوته يسكن (التكوين ١٦).
وبلغ إبراهيم سن التاسعة والتسعين دون أن يُنجب ولدًا من سارة. فظهر له الربُّ وقال له: «أنا الله القدير. سِرْ أمامي وكن كاملًا فأجعل عهدي بيني وبينك … وقال الله لإبراهيم: ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل اسمها سارة، وأباركها وأعطيك منها ابنًا، فقال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك. فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابنًا … وتدعوه إسحاق، وأقيم عهدي معه عهدًا أبديًّا لنسله من بعده. وأما إسماعيل فقد سمعتُ لك فيه. ها أنا أُباركه وأثمِّره وأكثِّره تكثيرًا جدًّا» (التكوين ١٧: ١–٢٠). وبعد زيارة الضيوف السماويين وتوكيد الرب وعدَه لإبراهيم في الإنجاب القريب، وافتقد الرب سارة كما قال وفعل الرب لسارة كما تكلَّم، فحبلت سارة وولدَت لإبراهيم ابنًا في شيخوخته في الوقت الذي تكلَّم الله عنه، ودعا إبراهيم اسم ابنه المولود له، الذي ولدَته له سارة، إسحاق، وختن إبراهيم إسحاق ابنه وهو ابن ثمانية أيام، كما أمره الله، وكان إبراهيم ابن مائة سنةٍ حين وُلد له إسحاق ابنه (التكوين ٢١: ١–٥).
ورأت سارة ابن هاجر المصرية يمزح، فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها؛ لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق. فقبُح الكلام جدًّا في عينَي إبراهيم بسبب ابنه، فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينَيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك. في كل ما تقوله لك سارة اسمع لقولها. فبكَّر إبراهيم صباحًا وأخذ خبزًا وقربة ماءٍ وأعطاهما لهاجر واضعًا إيَّاهما على كتفها، والولد، وصرفها. فمضت وتاهت في برية بئر السبع. ولما فرغ الماء من القِرْبة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار، ومضت وجلست مقابله بعيدًا نحو رمية قوسٍ؛ لأنها قالت لا أنظر موت الولد. فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت، فسمع الله صوت الغلام، ونادى ملاكُ الله هاجر من السماء وقال لها: ما لكِ يا هاجر؟ لا تخافي لأن الله سمع لصوت الغلام حيث هو. قومي احملي الغلام وشدِّي يدك به؛ لأني سأجعله أمةً عظيمةً. وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماءٍ فذهبت وملأت القِرْبة وسقت الغلام. وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوسٍ. وسكن في برية فاران وأخذت له أمه زوجةً مصرية (التكوين ٢١: ١–٢١).
وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم فقال له: يا إبراهيم. فقال: ها أنا ذا. فقال: خُذ ابنك وحيدك الذي تُحبُّه إسحاق واذهب إلى أرض المُريَّا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك. فبكَّر إبراهيم صباحًا وقام إلى الموضع الذي قال له الله، فلما أتيا الموضع بنى هناك إبراهيم المذبح ورتَّب الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب، ثم مدَّ إبراهيم يده، وأخذ السكين ليذبح ابنه، فناداه ملاك الرب من السماء وقال: إبراهيم، إبراهيم. فقال: ها أنا ذا. فقال: لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئًا؛ لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تُمسك ابنك وحيدك عنِّي. فرفع إبراهيم عينَيه ونظر، وإذا كبش وراءه ممسكًا في الغابة بقرنَيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضًا عن ابنه. ونادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء وقال: أباركك مباركة وأُكثِّر نسلك كثيرًا كنجوم السماء، ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي (التكوين ٢٢: ١–١٨).
(٢) الرواية القرآنية
يرد ذكر إسماعيل في القرآن الكريم على أنه واحدٌ من أنبياء الله الكرام: قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ … (٢ البقرة: ١٣٦)
قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ … (٣ آل عمران: ٨٤).
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ … (٤ النساء: ١٦٣).
أما أخبار إسماعيل فقليلةٌ ومختصرة، وليس هناك من خبرٍ عن مولده سوى قول إبراهيم: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (١٤ إبراهيم: ٣٩). وهذا يعني أن الرواية قد قفزت فوق كل التفاصيل المتعلِّقة بزوجتَي إبراهيم؛ هاجر وسارة، ونزاعهما. وأخبار إسماعيل لا تتجاوز الثلاثة، وهي تتفقُ مع أخباره التوراتية، عدا إقامته في منطقة الحجاز وتعاونه مع إبراهيم أبيه على بناء الكعبة، على ما تُبيِّنه لنا المقارنة التالية:
(٢-١) إبعاد هاجر وابنها إلى الصحراء
في سورة إبراهيم، هناك إشارةٌ غائمةٌ ودون تفاصيل إلى قصة إبعاد هاجر وابنها إسماعيل إلى بريةٍ قاحلةٍ، حيث نقرأ على لسان إبراهيم: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون (١٤ إبراهيم: ٣٧)
وهناك إجماعٌ بين المفسرين استنادًا إلى أحاديث متواترةٍ على أن مَنْ أسكنهم إبراهيم من ذريته في الوادي القاحل هما هاجر وابنها إسماعيل. والقصة الكاملة تُرْوَى عن الصحابي عبد الله بن عباس وهذا ملخصها:
لما وجدت سارة أنها لن تحمل من إبراهيم، طلبت منه أن يدخل على جاريتها المصرية هاجر. فحملت هاجر وأنجبت لإبراهيم غلامًا دعاه إسماعيل، ولكن سارة بدأت تغار من هاجر وطلبت من إبراهيم إبعادها. فأوحى الله إلى إبراهيم أن يأخذ هاجر وابنها إسماعيل إلى الحجاز. قاد جبرائيل إبراهيم ومَن معه إلى مكة حيث كان المقام الذي بناه آدم. وكانت قبيلة العماليق أول مَنْ سكن في هذه المنطقة، حيث أقاموا في الجبال المحيطة بالمقام. هناك صنع إبراهيم لأسرته كوخًا من القشِّ، وتركهم لكي يعود إلى موطنه، ولكن هاجر نادته قائلة: إلى مَن تتركنا؟ فقال: أترككم إلى الله. فقالت: هل طلب منك الله أن تفعل ذلك؟ قال: نعم. ثم مشى إبراهيم خطواتٍ والتفت إلى الوراء وقلبه يتمزق على زوجته وابنها، ثم تابع طريقه وهو يقول: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ … الآية.
بعد بضعة أيام نفد ما لدى هاجر من التمر والماء، وجفَّ الحليب في صدرها وساءت حالة إسماعيل. فقالت في نفسها: لن ألبث هنا وأراه يموت. فصعدت إلى تلة الصفا وضرعت لله من أجل المعونة، ثم هبطت وسارت نحو تلة المروة فارتقتها وراحت تنظر إلى حيث كان إسماعيل. ثم إنها سعت بين الصفا والمروة سبع مراتٍ وهي قلقةٌ حائرةٌ. وسمعت صوتًا فمشت نحو مصدره حتى وصلت إلى إسماعيل، وهناك ظهر لها الملاك جبريل فضرب الأرض بكاحله فانبثق من الموضع نبع ماء، فشربت هاجر وتدفَّق الحليب في صدرها فأرضعت ولدها. ولخوفها من أن يضيع الماء، أحاطته بحاجزٍ ترابي فتحوَّل إلى بئر هي بئر زمزم. فقال لها الملاك بأن هذه البئر لن تنضب، وأن ابنها سوف ينشأ ويكبر في هذا المكان، ولسوف يزوره أبوه ويعملان معًا على بناء مقامٍ تقصده الناس من كل الجهات تلبيةً لنداء الله، ويطوفون حول المقام ويشربون من ماء البئر.
بعد ذلك مرَّ بالقرب شابان من قبيلة جرهم يبحثان عن ناقةٍ شاردةٍ، فتعجبا لرؤية طيور تحوم في سماء المكان؛ لعلمهما بعدم وجود ماءٍ هنا، فتبعا أثر الطيور حتى وصلا موضع البئر، واجتمعا بهاجر التي روت لهما قصتها. فعاد الشابان إلى قومهما وأخبروهم بالأمر، فجاءت قبيلة جرهم وسكنت في جوار سارة التي سعدت بوجودهم.
(٢-٢) القربان والفداء
في بضعة أسطرٍ تُعبِّر عن الأسلوب القرآني المختزل، تحافظ الرواية القرآنية للقربان والفداء على أهم عناصر الرواية التوراتية الطويلة والمليئة بالتفاصيل:
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ٢ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا٣ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ٤* وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا٥ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ٦* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * … إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٧ الصافات: ٩٩–١١٢).
وكما نُلاحظ من قراءة النصَّين، فإن الرواية القرآنية قد جعلت من إسماعيل موضوعًا للقربان بدلًا من إسحاق في الرواية التوراتية، وذلك على الرغم من عدم ذكرها لإسماعيل بالاسم. ونستدلُّ على ذلك من قوله تعالى في نهاية القصة: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. أي إن إسحاق لم يكن قد وُلِدَ حينئذٍ، وبطل القصة هنا هو إسماعيل. كما نلاحظ أن إسحاق كان في الرواية التوراتية طفلًا غافلًا عمَّا يجري من حوله، وقد استسلم للربط على المحرقة دون مُساءلةٍ أو توقُّع لما سيحدث له، أما في الرواية القرآنية فقد كان إسماعيل فتًى يافعًا وضرب مثلًا في الخضوع للمشيئة الربانية عندما قال لأبيه: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.
(٢-٣) بناء الكعبة
لقد جعلت الرواية التوراتية من برية فاران موطنًا لإسماعيل، وهي تلك المناطق الصحراوية الواقعة إلى الجنوب من فلسطين، أما الرواية القرآنية فتجعل موطنه في الحجاز، وتنسِب إليه وإلى أبيه بناء الكعبة المشرفة: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ … وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢ البقرة: ١٢٥–١٢٧).
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة