حالة من الازدواجية، باتت تشهدها معايير دول المعسكر الغربي، في الآونة الأخيرة، ربما تجلت في أبهى صورها في مواقفها تجاه العدوان على قطاع غزة، حيث أثبتت بما لا يدع مجالا للشك بأن الدفاع المستميت عن حقوق الإنسان، ليس أكثر من أداة للضغط السياسي، من أجل تحقيق مصالح القوى الكبرى المهيمنة على العالم، وحلفائها، وهو ما بدا في الدعم الكبير لدولة الاحتلال رغم ما ترتكبه من انتهاكات، طالت النساء والأطفال، إلى حد إقدام الولايات المتحدة، إلى استخدام الفيتو، لمنع تمرير قرار أممي من شأنه وقف إطلاق النار، لخدمة مصالح الحليف الإسرائيلي، وكذلك لخدمة أجندات الداخل الأمريكي في ضوء المنافسة المحتدمة، مع اقتراب انتخابات الرئاسة، بينما كانت مواقف الغرب الأوروبي تجاه العدوان مرتبكة إلى حد كبير، رغم إصرارها على التشدق بحقوق الإنسان في العديد من المناسبات التي تخدم مصالحها.
إلا أن ازدواجية الغرب، ربما لم تقتصر فقط على المشاهد السياسية، والتي يحكمها البعد المصلحي في الكثير من الأحيان، وإنما امتدت إلى المنظومة القيمية التي تتبناها الدول، وهو ما يعكس ارتباكا عميقا، في تحديد وجهة البوصلة الأخلاقية لـ"دول العالم الأول"، ففي الوقت الذي تروج فيه لفكرة القبول الإنساني للجميع، نجد إشارات تحمل إساءات لفئات معينة، وهو الأمر الذي بدأت إرهاصاته بصورة واضحة، في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، في إطار موجهة من التمييز ضد المسلمين، قادتها واشنطن، ومن ورائها الإعلام الغربي، لتتولد ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، والتي تمثل أحد أهم الصور الناجمة عما أسماه السياسي الأمريكي الشهير صموئيل هنتنجتون بـ"صراع الحضارات"، وهي الظاهرة التي فتحت الباب أمام تقويض حالة الانفتاح على الجميع التي سعى الغرب إلى تقديم نفسه كنموذج لها، بل وحاول تعميمها في العديد من دول العالم.
بينما امتدت حالة العزلة، أو ربما العزل، لقطاعات مجتمعية أخرى، بشكل تدريجي، لتتراوح من المسلمين إلى المهاجرين، وتمتد إلى الملونين، لتصل إلى أبعاد جديدة، خلال أولمبياد باريس، والتي شهدت مشهدين على درجة كبيرة من التناقض، أولهما صورة العشاء الأخير، التي كانت بمثابة الحدث الأبرز في حفل الافتتاح، وما تبعها من تعليقات وانتقادات حادة، من قبل اليمين الفرنسي، وهو ما يعني انقساما داخليا، ذو بعد وطني حول المعايير القيمية، بينما امتد موجة الغضب إلى العالم المسيحي، شرقا وغربا، في ضوء ما اعتبره إساءة بالغة لمعتقداتهم، وهو الأمر الذي برره البعض باعتباره إشارة لقبول الأخر، وتحديدا فئة المتحولين جنسيا، والذين مازالوا يعانون قدرا من التهميش أو التنمر.
بينما يبقى المشهد الأخر، متجليا في حملة التنمر، التي واجهتها البطلة الجزائرية إيمان خليف، والتي قادتها دولا وساسة، وليس مجرد منافسين في مضمار الرياضة أو حتى اتحادات رياضية، بين تشكيك في جنسها، وحتى إساءات بالغة طالت شكلها وجسدها، تعكس بجلاء حالة من ازدواجية المعايير، التي تشهدها المنظومة القيمية في الغرب، وصلت إلى حد الارتباك، الذي بات من الصعب احتواءه.
ولعل أحد ملامح الارتباك القيمي، يتجلى في المشهد الأول، مع عجز اللجنة المنظمة عن إقناع المنتقدين لها، بمبرراتها في استخدام رمز ديني، له قدسية عند قطاع كبير من سكان العالم، مما دفعها إلى الاعتذار عنه في نهاية المطاف، بينما يبدو واضحا على الجانب الآخر، مع فشل المحاولات المتواترة في إنهاء مسيرة بطلة الجزائر، التي تمكنت من تحقيق الميدالية الذهبية، لترفع اسم بلادها بين الدول خلال أحد أهم وأبرز الأحداث الرياضية في العالم.
وهنا يمكننا القول بأن الارتباك القيمي في الغرب، لم يعد قاصرا على المواقف السياسية نحو العالم الخارجي، والتي تبدو واضحة في الحرب على غزة، والتي أسفرت عن مقتل آلاف المدنيين، أكثرهم من النساء والأطفال، بينما امتدت إلى إدارة المنظومة الأخلاقية في الداخل، وهو ما يبدو واضحا في حالة من انعدام المواءمة، والتي تصل إلى حد التعارض الصريح، بين ما يتم الترويج له، من مبادئ تدور في معظمها حول قبول الآخر، ومجابهة التنمر، وبين الواقع الذي يحمل في طياته تناقضات صارخة، في الكثير من الأحيان، باتت تعجز معه الأنظمة الحاكمة عن التنظير السياسي، الذي اعتادت عليه، طيلة العقود الماضية.