تبدو المستجدات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط على صفيح ساخن، مع اتساع دائرة الصراع جغرافيا، ليتجاوز قطاع غزة، والذي يمثل نقطة الانطلاق، في أعقاب أحداث طوفان الأقصى، نحو دول أخرى، سواء لبنان أو سوريا مرورا باليمن، ووصولا إلى إيران، والتي يبدو العالم بانتظار ردها الانتقامي، على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على أراضيها، وهو ما يعكس حقيقة الأهداف التي يتبناها الاحتلال الإسرائيلي، والتي لا تقتصر على مجرد القضاء على الفصائل، وإنما خلق حالة من الفوضى الإقليمية، وهو ما يمثل امتدادا للدعوات التي تبنتها الدولة العبرية منذ بدء العدوان، وأبرزها تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، بهدف تصفية القضية، وهو الأمر الذي تصدت، ومازالت تتصدى له، القوى الإقليمية، وعلى رأسها مصر.
والفوضى الإقليمية تمثل في جوهرها الأداة الأساسية في يد الاحتلال حتى يحقق أهدافه، وعلى رأسها تصفية القضية الفلسطينية، وتقويض أي أمل من شأنه تحقيق الشرعية الدولية، والتي تقوم على أساس حل الدولتين، وهو ما بدا بوضوح خلال العقد الماضي، بالتزامن مع ما أصاب المنطقة من خلل، جراء ما يسمى بـ"الربيع العربي"، والذي كان بمثابة فرصة استثنائية، لتدشين المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية، وهو ما يساهم في حرمان الدولة المنشودة من أرضها، وهو ما يعكس الاستراتيجية التي تتبناها الدولة العبرية، والتي تقوم في الأساس على تقويض فلسطين من كل أركان الدولة، والمتمثلة في الأرض، عبر الاستيطان، والشعب، من خلال التهجير، بينما تبقى السلطة محلا للنزاع بين أطراف المعادلة الفلسطينية.
ولعل الحديث عن الفوضى التي تسعى إسرائيل لخلقها، لا تقتصر على مناطق الصراع، وإنما تمتد إلى المنطقة بأسرها، بحيث يمكنها تجريد فلسطين من كافة شركائها في المنطقة، عبر تصدير الأزمات لهم وحرمانهم من أي فرص من شأنها تحقيق التنمية، خاصة وأن البعد التنموي بات سلاحا يمكن استثماره في تعزيز مفهوم "المقاومة"، وهو ما سبق وأن تناولته في مقال سابق، وبالتالي يبقى البعد التنموي أبرز الرهانات الإقليمية، والتي تسعى إلى تعزيزها العديد من القوى الرئيسية في الشرق الأوسط، وعلى رأسها مصر، خلال السنوات الأخيرة.
إلا أن البعد التنموي في الرؤية المصرية، ربما لا يقتصر على مجرد تحقيق التنمية الذاتية، وإنما يقوم في الأساس على خلق الشراكات، في هذا الإطار، وهو ما يبدو واضحا على العديد من المسارات، ربما تبدو في دائرتها الأولى في الداخل الإقليمي، من خلال تعزيز التعاون مع دول الخليج، والأردن، والعراق وغيرهم، بينما تحمل في مسار آخر بعدا دوليا، من شأنه خلق حالة من التداخل بين الأقاليم الجغرافية على أساس من المصالح المشتركة، وهو ما تجلى في التعاون الثلاثي مع اليونان وقبرص، وما أسفر عنه من منتدى غاز شرق المتوسط، والذي يجمع في عضويته دولا عربية وأوروبية بالإضافة إلى الولايات المتحدة، بينما تتواجد فيه أيضا إسرائيل نفسها، مما يساهم بصورة او بأخرى في تعزيز الحالة التفاوضية.
ولم يقتصر البعد التنموي، الذي تعتمده الدولة المصرية على خلق الشراكات، وتنويعها، وإنما أيضا استخدام التنمية كأداة لمجابهة الفوضى المتعمدة، خاصة وأن غياب الحالة التنموية ساهم بجلاء، خلال العقد الماضي، في تأجيج الأزمات الإقليمية، وبالتالي يبقى التحدي الأكبر الذي تخوضه القاهرة، وشركائها الإقليميين، في اللحظة الراهنة، متجسدا في عدم الاستجابة لرغبات الاحتلال، والقائمة في الأساس، على خلق أولويات أخرى، من شأنها توقيف مسيرة التنمية، والعمل على خلق بيئة إقليمية طاردة للاستثمار، عبر تعزيز الفوضى، وتوسيع نطاق الحرب، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن الحالة التنموية التي شهدها الإقليم في غضون سنوات قليلة كانت بمثابة هاجسا إسرائيليا، خاصة في ضوء ما أحدثته من تأثير بدا واضحا في الشراكات المصرية العملاقة مع قوى كبرى، بعضها يبدو مهددا للهيمنة الأمريكية الأحادية، سواء الصين أو روسيا أو الاتحاد الأوروبي، مع احتفاظها بعلاقتها مع الولايات المتحدة.
الشراكات المصرية مع القوى الدولية، سواء القائمة فعلا أو الصاعدة، أتت بثمار كبيرة وغزيرة، منذ بدء العدوان على قطاع غزة، ربما كان أولها الاستجابة منقطعة النظير لدعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي لعقد قمة القاهرة للسلام بعد أيام قليلة من اندلاع العدوان على غزة، بينما تجلت بعد ذلك مع التغيير الكبير في المواقف الدولية، تجاه الاحتلال، حتى وصلنا إلى نقطة الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل قوى أوروبية بارزة ومحسوبة على المعسكر الموالي لإسرائيل.
وفي الواقع، تبدو الأحداث التي تشهدها الأراضي المصرية في الآونة الأخيرة، ومنها على سبيل المثال مهرجان العلمين، والذي يمثل طفرة كبيرة في صناعة الترفيه، والتي باتت ركنا أصيلا من أركان التنمية، تزامنا مع المستجدات الإقليمية، بمثابة جزءً لا يتجزأ من النهج الجديد، والقائم في الأساس على مواجهة الفوضى بمزيد من العمل التنموي، خاصة وأن مثل هذه الأحداث فرصة للترويج إلى إمكانات الدولة في العديد من القطاعات، وعلى رأسها السياحة، حيث تسعى الدولة إلى تعزيز قدرة هذا القطاع المعروف بحساسيته الشديدة للمستجدات الداخلية والإقليمية، على مجابهة ما يطرأ عليه من تحديات، بينما في الوقت نفسه تمثل ترويجا للإقليم بأسره حول قدرة دول المنطقة على استيعاب الاستثمارات، ومواصلة العمل، رغم ما يواجهها من تحديات.
وهنا يمكننا القول بأن تحركات الدولة المصرية لتحقيق التنمية، تحمل في طياتها بعدا جماعيا على المستوى الإقليمي، عبر الشراكات، وكذلك من خلال تقديم نفسها كنموذج إقليمي يمكن تعميمه في دول المنطقة، لمجابهة محاولات الاحتلال لنشر الفوضى، وتقويض ما تحقق في العديد من دول المنطقة في السنوات الأخيرة، من أجل تحقيق أهدافه، خاصة في ضوء إدراكه للحالة المركزية التي تتمتع بها القضية الفلسطينية بين الدول العربية، وبالتالي فإن نجاحاتها التنموية تمثل تعزيزا لها.