يبدو أن نجاح الولايات المتحدة في الاحتفاظ بهيمنتها على العالم، لثلاثة عقود كاملة، لم يعتمد في الأساس على قدرتها على إنهاء الصراعات الدولية، رغم كونه الدور الرئيسي الذي ينبغي عليها القيام به، إلا أنها اعتمدت في واقع الأمر على نجاحها في الاحتفاظ بوتيرة الصراعات الدولية، بحيث يمكنها التحكم بها صعودا وهبوطا، بحسب مصالحها، والتي تقوم في الأساس على استمرار حالة الصراع، وهو ما بدا على سبيل المثال في منطقة الشرق الأوسط، في ظل حيث نجحت خلال فترات، في تخفيف حدة الصراع العربي الإسرائيلي، عبر أدوات متنوعة، منها خلق خصوم جدد للدول العربية، وتحويل العلاقة بينهم من المنافسة إلى الصراع، أو تعزيز الفوضى في الداخل، على غرار ما شهدته حقبة الربيع العربي، بينما كان الأمر مختلفا في أقاليم أخرى، على غرار أوروبا الغربية، حيث تمكنت من الاحتفاظ بأعلى درجات الاستقرار، لدى حلفائها الرئيسيين.
ولعل السلوك الأمريكي، في الحقبة التي تبدو على أعتاب النهاية، متوائما مع العديد من المعطيات الدولية، أبرزها غياب المنافس الذي يمكنه مزاحمتها على عرش النظام العالمي، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينات من القرن الماضي، وهو ما خلق حالة من الفراغ، من شأنه تعزيز السيطرة الأمريكية على العالم، عبر خدمة مصالح حلفائها، سواء إسرائيل في الشرق الأوسط، أو أوروبا الغربية، مقابل إضفاء الشرعية الدولية على قرارتها وتوجهاتها، بينما يبقى خلق الصراعات جانبا آخر، لا يقل أهمية عن ضمان ولاء الحلفاء، لتحتفظ الولايات المتحدة بدورها، وهو ما يبدو واضحا في ظهور مفهوم صراع الحضارات بعد عام واحد من نهاية الحرب الباردة، والذي تحول بعد ذلك بثمانية سنوات من الحالة النظرية إلى التطبيق العملي، في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، وما ترتب عليها من حروب في أفغانستان والعراق، قادتها واشنطن نفسها.
الإدارة الأمريكية للصراعات الدولية، خلال العقود الثلاثة الماضية، قامت في الأساس على الاحتفاظ بها، لتحتفظ معها بوجودها في العديد من مناطق العالم، فالربيع العربي، على سبيل المثال، وما نجم عنه من صعود ميليشيات إرهابية، ذات طبيعة متجاوزة الحدود، لعب دورا رئيسيا في قيادة واشنطن للتحالف الدولي، في منطقة الشرق الأوسط، بينما ساهم في الوقت نفسه إلى تعزيز الحاجة الأوروبية للدعم الأمريكي، في ضوء ما شكلته تلك الميليشيات من تهديدات على دول القارة.
وهنا تصبح معضلة واشنطن في اللحظة الراهنة، ليست في عجزها عن إنهاء الصراع، سواء في الشرق الأوسط، خاصة فيما يتعلق بالعدوان الحالي على قطاع غزة، وما ترتب عليه من اتساع كبير في دائرة الحرب، من جانب، أو الأزمة الأوكرانية، وما تمثله من تهديد لأقرب حلفائها، في أوروبا الغربية، من جانب آخر، وإنما تتجسد في جوهرها في عدم قدرتها على السيطرة على وتيرة تلك الصراعات، إلى الحد الذي أفقدها السيطرة، ليس فقط على خصومها الدوليين، وإنما حلفائها، مما ساهم بصورة كبيرة في تراجع الدور الأمريكي لصالح قوى أخرى صاعدة، بينما بات العديد من حلفاء واشنطن يتحركون فرديا، ولو على استحياء، بعيدا عن الدوران في الفلك الأمريكي.
فلو نظرنا مثلا إلى قرار دول أوروبية، على إسبانيا والنرويج، بالاعتراف بدولة فلسطين، نجد أنه لا يمثل انسجاما مع الرؤية الأمريكية القائمة حول قضية دولية محورية، والتي تقوم في الأساس على الوصول إلى هذه الخطوة من خلال مفاوضات طويلة الأمد، بينما في الوقت نفسه يعكس حالة من الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي، والذي صنعته واشنطن نفسها، لتعزيز عمقها الاستراتيجي، ولملء الفراغ الناجم عن سقوط الاتحاد السوفيتي، وهو الأمر الذي بدأت إرهاصاته منذ أزمة الوباء، ليتفاقم تدريجيا، مع اندلاع الأزمة الأوكرانية، ثم العدوان على قطاع غزة.
من الملفت للانتباه أيضا، في هذا الإطار، هو انفلات السيطرة المؤسساتية في الداخل الأمريكي على المنافسة الحزبية، حيث كان احتدامها أحد أهم مظاهر القوة الأمريكية، لعقود طويلة من الزمن، عبر استثمارها في الترويج لفكرة الديمقراطية، وتداول السلطة بين الحزبين الرئيسيين، إلا أن الأمور يبدو وأنها تخرج عن السيطرة تدريجيا، في ضوء حروب تكسير العظام، والتي تجاوزت، مجرد المعارك الخطابية، إلى التسريبات، على غرار انتخابات الرئاسة في 2016، ثم التشكيك في نزاهة العملية الانتخابية في 2020، إلى الحد الذي وصل بمؤيدي أحد المرشحين إلى اقتحام الكونجرس، لمنع الإعلان عن منافسه رئيسا لبلاد العم سام، ثم وصلت الأمور إلى استباق انتخابات 2024، بمحاولة اغتيال أحد المرشحين، والضغط على الآخر للانسحاب من السباق الرئاسي.
وفي الواقع، تبدو خروج الصراعات عن سيطرة واشنطن على النطاق الدولي، ساهمت بصورة كبيرة في تعزيز الدور الذي تلعبه قوى أخرى، وهو الأمر الذي لا يقتصر على منافسيها على مقعد القيادة العالمية، كالصين وروسيا، وإنما بدا بصورة كبيرة في استعانتها بالقوى الإقليمية المؤثرة، وهو ما يبدو على سبيل المثال في القبول الضمني لما فرضته المستجدات الإقليمية في الشرق الأوسط، لتصاعد دور القوى الرئيسية بالمنطقة وعلى رأسها مصر، لتتجاوز مجرد وسيط تهدئة، إلى الرعاية، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وذلك بفضل الدبلوماسية الناجعة في إدارة مسألة العدوان منذ اندلاعه، لتفرض نفسها ودورها على العالم.
وهنا يمكننا القول بأن حلفاء أمريكا، باتوا الخطر الأكبر على هيمنتها المطلقة، فيما يتعلق بنظرية إدارة الصراعات، في ضوء عجزها عن إخضاعهم، وهو ما يتجلى بصورة واضحة في الخلافات مع إسرائيل، حول العدوان على غزة، بينما يبدو، وإن كان بصورة أقل، في علاقتها مع الحلفاء في أوروبا، في ظل انعدام الثقة في الإدارة الأمريكية للأزمة في أوكرانيا، وهي الأزمات المرشحة للتفاقم، إلى حد قد يصعب احتواءه، بالنظر إلى أطراف الصراع وما يمتلكونه من أسلحة ذات قدرات تدميرية عالية، قد تأكل الأخضر واليابس، حال خروج تلك الصراعات عن السيطرة، في المرحلة المقبلة.