نواصل سلسلة مقدمات الكتب ونتوقف اليوم مع كتاب "الزمن النوعي.. وإشكاليات النوع السردي" للدكتور هيثم الحاج علي، فما الذي جاء في المقدمة؟
على سبيل التقديم:
تعد القصة القصيرة الفن السردي الأحدث في مجال فنون السرد كافة: الرواية، والملحمة والحكاية الخرافية ... وغيرها، وقد أثرت الحداثة النسبية لهذا النوع السردي على الرؤية النقدية له، الأمر الذي أسهم في النظر إلى القصة القصيرة بوصفها تابعا نوعيا للرواية التي تعد هي النوع الأكثر استقرارًا، وإذا كانت القصة القصيرة تتميز عن باقي أخواتها بذلك التحديد الذي يدل عليه مصطلحها، فهي قصة من حيث إنها تتتبع أحداثا وشخصيات في فضاء مكاني وزماني، وهي قصيرة من حيث كونها تشغل حيزا أقل بالضرورة من باقي فنون السرد، فقد أسبغت سمة القصر هذه على هذا النوع سمات فنية وتقنية يمكن الانطلاق من كونها مميزات للنوع الأدبي.
وقد شاعت في الآونة الأخيرة اتجاهات تهدف إلى تحطيم الفوارق بين الأجناس الأدبية؛ من أجل إحداث تداخل بينها؛ للخروج بما يسمى الكتابة عبر النوعية، وإذا كان من الممكن النظر إلى هذه الاتجاهات بوصفها طرقا للإبداع، فإن واحدا من أهم وظائف النقد الأدبي، أن يسير في عكس الاتجاه؛ ليحدد الفوارق، ويحلل الخواص، في صورة تقترب به من روح العلم.
من ناحية أخرى ارتأت الدراسة - التي بين أيدينا أن القصة القصيرة - وإن تميزت بسماتها الخاصة النابعة من كونها أشد ذاتية وأعقد من ناحية الأداء التقني، فلا ينظر إليها بوصفها نوعًا مستقلا، لذلك فقد انطلقت الدراسة من أهمية الوقوف على السمات المميزة للقصة القصيرة عن باقي الأنواع السردية، سدا لنقص واضح في النظرية النقدية، ومحاولة للوقوف على مميزات نوع أدبي شاع وازدهر في القرن العشرين، لا سيما نصفه الأخير، تعبيرا عن رؤى فردية في مجتمعات قاهرة للفرد.
وإذا كان السرد عموما يعتمد على جوانب لا يتحقق إلا بها، فإن القصة القصيرة من ناحيتها - وإن تحققت فيها هذه الجوانب - فهي تعد فنا له ارتباط خاص بالزمن، من حيث حشدها لأكبر كم ممكن من المعلومات السردية في فضاء زمني ونصي ضيق، ومن حيث تداخل أبعاد الزمن فيها بشدة، وبصورة يصعب معها الفصل أحيانًا بين أنواع الزمن خارج النص وداخله.
لذلك فقد اهتمت الدراسة بعنصر الزمن بوصفه مفجرا للسمات النوعية للقصة القصيرة في ارتباطه - أحيانًا - بباقي عناصر النص السردي، وفي تجليه زمنا طبيعيا خاصا بالمؤلف والقارئ، وزمنا حدياً خاصا بالسارد والمتلقي الضمني، وزمنا سرديا خاصا بالشخصية داخل النص، وهو ما يمكنه أن يفرز آليات جمالية خاصة بالقصة القصيرة، بوصفها نضا، ومن ثم بوصفها نوعا أدبيا.
ولذلك فقد انطلقت الدراسة من الرؤى الزمنية للسرد، وتحققها في صورة آليات، محاولة الوقوف على جوانب نظرية يمكن عن طريقها إنتاج إجراءات تحليلية خاصة بالقصة القصيرة، وقد اختارت الدراسة تطبيق هذه الرؤية النظرية على نماذج من القصة القصيرة المصرية في الستينيات، وذلك لعدة اعتبارات أهمها أن فترة الستينيات شهدت تطورا واضحا في إنتاج القصة القصيرة، وهو التطور الذي جعل من هذه الفترة حقبة القصة القصيرة التي تداخلت فيها الاتجاهات وتيارات الكتابة القصصية، وأن هذه الفترة كانت على درجة عالية من حرارة التحولات الاجتماعية والسياسية، لاسيما في ثلثها الأخير، وهو ما العكس بدوره على الإبداع الأدبي عموما، والقصصي على وجه الخصوص، كما أن فترة الستينيات قد شهادت - على مستوى العالم - موجات تمرد شبابية أدت إلى خلخلة العديد من الرؤى الثابتة، وهو ما تحقق في مجال الأدب.
العربي بوضوح، فيما نتج عن صرخة شهيرة أطلقها أحد كتاب القصة القصيرة المصرية - محمد حافظ رجب - حين قال: «نحن جيل بلا أساتذة».
من هنا فقد حددت الدراسة مجالها التطبيقي في القصص القصيرة المنشورة في مصر بين عامي 1960: 1970 وكان اعتمادها كبيرا على القصص المنشورة في مجلة جاليري 68 على اعتبار تعبيرها الشديد، وبلورتها للعديد من الاتجاهات القصصية في هذه الفترة، بما يحقق مجالا تطبيقيا متنوعا يتم الاختيار منه عشوائيا؛ لتطبيق المقولات النظرية والإجراءات التي تتوصل إليها الدراسة.
ويسبب من هذا التأكيد على الرؤية النظرية فقد تعاملت الدراسة مع مادتها استنادا إلى مقولات جيرار جينيت حول نظرية السرد، لا سيما تطبيقه على الزمن السردي، مدعمة إياه بروی لوسیان جولدمان حول البنيوية التكوينية وذلك رغبة في الوقوف على سمات نوعية للقصة القصيرة، شريطة ألا تكون مقطوعة الصلة بالتطورات المجتمعية حولها.
وإذا كانت هذه الدراسة قد هدفت - في أهم أهدافها - إلى وضع حدود نوعية مميزة للقصة القصيرة، وتفجير الأسئلة حول أسس نظرية خاصة بها تنتج إجراءاتها الخاصة، فإنها قد صادقت عدة صعوبات، لعل أهمها دوران معظم المقولات النظرية السردية حول الرواية، على اعتبار أنها الجنس الأكثر استقرارا في مجال السرد، وهو ما حاولت الدراسة التغلب عليه بنقل هذه المقولات إلى مجال القصة القصيرة، وملاحظة الفروق.
وفي النهاية يجب الإقرار بأن هذه الدراسة قد حاولت اختبار فرضية تميز القصة القصيرة في معالجتها لآليات سردها عن باقي الأنواع السردية؛ في معرض تفجيرها لسؤال النظرية الخاصة بها وإجراءاتها، ولعل الدراسة بهذا لم تطمح إلى تقديم إجابات نهائية، بقدر ما تطمح إليه من طرح وتفجير أسئلة من شأنها دفع عجلة الدراسة النقدية نحو محاولة وضع وإرساء مفاهيم نقدية خاصة بالقصة القصيرة، وهو طموح ترجو الدارسة أن تكون قد حققته.
وهنا يجب علي أن أتوجه بالشكر إلى العديد من الشخصيات التي أسهمت بالإشارة والتوجيه لخروج هذا الكتاب في صورته النهائية ومنهم د. صلاح السروي ود. محمد عبد الله ود محمد فكري الجزار ود. أحمد درويش ود. محمد سلامة ود. جابر عصفور وكل الأصدقاء والكتاب الذين سمحوا باقتباسات من إبداعاتهم ومؤلفاتهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة