يبدو المشهد الانتخابي في الولايات المتحدة مختلفا بصورة كبيرة، خلال الانتخابات الرئاسية المرتقبة في 2024، ليس فقط في إطار ما تحظى به من "نوادر"، على غرار ترشح ترامب عن الحزب الجمهوري للمرة الثالثة على التوالي، ليكون أول رئيس سابق يخوض المعترك الرئاسي، رغم إخفاقه في الحصول على ولاية ثانية، أو تنحي المنافس، الذي لم يسعى للتجديد رغم حصوله على ولاية واحدة، أو حتى ما أحاط بها من ظروف استثنائية، على غرار محاولة اغتيال مرشح، ناهيك عن الانقسام الكبير في الداخل الأمريكي، وإنما أيضا في إطار طبيعة المنافسة، بين مرشحي الرئاسة في الولايات المتحدة، والتي لم تعد قاصرة على مجرد مناظرات، ومعارك خطابية، وإنما في واقع الأمر باتت أكثر تعقيدا، بما يتواكب مع الظروف التي تمر بها الولايات المتحدة.
وبالنظر إلى المشهد الانتخابي الأمريكي، نجد أن ثمة صعودا ملحوظا، لمنصب نائب الرئيس، فالمرشحة الديمقراطية، كامالا هاريس، هي نائبة الرئيس في الإدارة الحالية، والتي يترأسها جو بايدن، والذي كان بدوره نائبا للرئيس باراك أوباما، لثماني سنوات، وهو الأمر الذي ربما ليس جديدا تماما في السياسة الأمريكية، فقد سبق لأصحاب منصب نائب الرئيس الترشح، عدة مرات، خلال القرن الماضي، ربما أبرزهم ليندون جونسون، والذي تولى السلطة لسنتين بعد اغتيال جون كينيدى، ليترشح بعدهما، ويفوز بعدها بولاية أخرى في الستينات من القرن الماضي، وجورج بوش الأب، والذي فاز بولاية واحدة، في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، بعدما كان نائبا لسلفه رونالد ريجان، وهناك ريتشارد نيكسون، والذي دخل البيت الأبيض كرئيس، بعد خروجه منه كنائب للرئيس بحوالي 8 سنوات كاملة، بينما لم يكمل سوى شهور معدودة في ولايته الثانية، على خلفية فضيحة سياسية شهيرة ارتبطت بفوزه في انتخابات الرئاسة في عام 1968، مما دفعه إلى الاستقالة في أغسطس ليتولى نائبه جيرالد فورد لفترة واحدة.
وهنا تبدو العديد من المقاربات، في صعود نواب الرئيس الأمريكي إلى عرش البيت الأبيض، إذا ما نظرنا إلى القرن الماضي، حيث تتشارك في جزء كبير منها انتقال السلطة لهم، جراء وفاة الرئيس أو استقالته، بينما لم يتمكنوا من الفوز بالانتخابات الرئاسة سوى مرة واحدة، ليكون معظمهم من أصحاب الولاية الواحدة، وهو الفريق الذي انضم إليه مؤخرا الرئيس جو بايدن، بعد قراره بالتنحي عن الترشح لولاية ثانية بعد ضغوط كبيرة ليس فقط من القاعدة العريضة للحزب الديمقراطي الذي سيمثله، وإنما أيضا من أقرب أصدقاءه، وعلى رأسهم أوباما ورئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسى.
وعلى الرغم مما يبدو من أهمية كبيرة يحظى بها منصب نائب الرئيس الأمريكي، يطغى عليها الجانب البروتوكولي، إلا أن ثمة صعودا كبيرا في أهميته خلال السنوات الأخيرة، وربما منذ ولاية ترامب الأولى، والتي اختار خلالها مايك بنس نائبا له، وما ارتبط به هذا الاختيار من دراما سياسية، بدءً من الدور الكبير الذي لعبه الرجل في فوز المرشح الجمهوري في 2016، رغم انعدام خبرته السياسية آنذاك، وعلى حساب شخصية مخضرمة، على غرار هيلاري كلينتون، سبق لها تقلد منصب وزيرة الخارجية، ناهيك عن كونها السيدة الأولى في الولايات المتحدة لثماني سنوات، خلال حقبة زوجها، بيل كلينتون في العقد الأخير من القرن الماضي، كما أنه لعب دورا مهما خلال ولاية ترامب، في العديد من الملفات، منها ملف التقارب مع كوريا الشمالية، وقاد مؤتمر وارسو في 2019، لحشد الدعم ضد إيران، بالإضافة إلى دوره في المعركة التي خاضتها واشنطن ضد فنزويلا.
إلا أن عبقرية بنس، والتي ساهمت في صناعة ما يمكننا تسميته بـ"إرث" نائب الرئيس، تجسد في قدرته على الاحتفاظ باستقرار العلاقة مع الرئيس، فلم تطاله يوما انقلابات الرئيس، ذو النزعات المزاجية، والتي طالت كبار مسئولي الإدارة، وهو ما يتجلى في حملات الإقالة أو الاستقالة، والتي شملت كبار الوزراء، ومستشارى البيت الأبيض، بدءً من وزير الخارجية السابق ريكس تيرلسون، مرورا بمستشار الأمن القومى جون بولتون، وحتى وزير الدفاع مارك إسبر، مرورا بعشرات المسئولين الذين أطاح بهم الرئيس السابق، والمرشح الحالي في الانتخابات الرئاسية، فلم يدخل الرجل في أي صدام مع الرئيس خلال فترة ولايته، حتى جلسة الإعلان عن الرئيس الجديد في أعقاب هزيمة ترامب في انتخابات 2021، عندما أبى بنس الرضوخ لرغبة رئيسه بعدم الإعلان عن فوز غريمه آنذاك بايدن، بينما هاجم أنصاره الكونجرس لتقويض الخطوة، ليكون أول صدام مباشر بين الرئيس ونائبه، قبل نهاية الولاية بحوالي 14 يوما فقط.
وإذا ما نظرنا إلى ترشح كامالا هاريس، في انتخابات الرئاسة الأمريكية، نجد أنه يحمل في طياته، مسارا بروتوكوليا، جراء عدم قدرة الرئيس على استكمال المعترك الرئاسي، لتحل محله نائبته، في سيناريو يبدو مشابها، إلى حد ما، لأمثلة أسلفت ذكرها، لتعيد من جديد حالة من الزخم للمنصب الذي مازالت تشغله، خاصة وأنها، رغم عدم قدرتها على الحفاظ على إرث سلفها مايك بنس في التأثير داخل الإدارة الأمريكية، لكنها نجحت إلى حد كبير في غضون أسابيع معدودة، في تقويض حالة الانفراد المطلق التي حظى بها ترامب، خاصة بعد مناظرته الأولى مع بايدن.
وبين بنس، باعتباره النائب المؤثر، وهاريس، المرشحة التي قلبت موازين استطلاعات الرأي قبيل الانتخابات الرئاسية، يبدو من المهم الالتفات إلى الدور الذي يلعبه المرشحين لمنصب نائب الرئيس خلال الانتخابات المقبلة، في ضوء المنافسة الكبيرة التي ستجمع بين جيمس فانس، والذي اختاره ترامب نائبا له، وتيم مالز، والذي اختارته هاريس، وذلك بالنظر إلى ردود الأفعال القوية في الداخل الأمريكي على اختيارهما من قبل المرشحين، وهو الأمر الذي يسلط الضوء بقوة على أهمية المنصب، ليس فقط في إطاره البروتوكولي، وإنما في تشكيل مستقبل أمريكا، خلال المرحلة المقبلة.