هل يمكن لموسيقى معينة أن تصبح عابرة للزمان، وتصير صالحة لأجيال متعاقبة؟ يبدو أن الإجابة هى «نعم»، والنموذج الأوضح على ذلك ما قدمه الموسيقار الكبير محمد فوزى.
والدليل هو ما حدث مؤخرا، عندما سجل تاريخ الرياضة العربية لحظات استثنائية فى 8 أغسطس 2024 ستظل راسخة فى الذاكرة طويلاً بعد تتويج الملاكمة الجزائرية إيمان خليف بذهبية وزن 66 كجم بأولمبياد باريس بعد فوزها على منافستها الصينية يانغ لى يو فى المباراة النهائية، ليُعزف النشيد الوطنى الجزائرى فى قلب العاصمة الفرنسية، والسلام الوطنى الجزائرى هو هدية محمد فوزى لشعب الجزائر بعد صراعه الطويل مع المحتل الفرنسي.
لقد كان لموسيقى محمد فوزى فى هذه اللحظة أمرا مغايرا، فذهبية إيمان ليست الذهبية الأولى للجزائر فى تاريخ الأولمبياد ولا حتى فى هذه الدورة إلا أن شراسة الحملة الغربية على البطلة العربية بعد التشكيك فى جنسها أكسبت الحدث زخمًا عالميًا كبيرا، كما أن أى لحظة يُعزف فيها النشيد الوطنى الجزائرى فى قلب العاصمة الفرنسية تبقى له دلالاتها مهما مر الزمن.. فالتاريخ لن يسقط بالتقادم!
فى حكاية إيمان خليف.. عاش الملايين عبر أنحاء الوطن العربى لحظات عاطفية عندما دوت كلمات نشيد «قسما» واستعادوا ذكريات من الماضى عندما رددت البطلة الجزائرية الكلمات التى كتبها الشاعر الجزائرى الكبير مفدى زكريا خلال فترة اعتقاله فى سجن بربروس عام 1955.
ربما يتعجب البعض ممن لم يسبق لهم العلم بأن فوزى هو ملحن النشيد الوطنى الجزائرى، وكلماته شديدة الحماس، فقد رددها أبطال المقاومة الجزائرية المحكوم عليهم بالإعدام من قبل سلطات الاحتلال الفرنسى قبل توجههم إلى المقصلة، وهو نفس الشخص صاحب لحن أغنية «طير بينا يا قلبى» ذات النغمات الباعثة على البهجة والسعادة.. وهنا تكمن عبقرية فوزى. وللعلم فإنه فى 19 ديسمبر2017، حصل فوزى على تكريم مستحق بعد إطلاق وزارة الثقافة الجزائرية اسمه على المعهد العالى للموسيقى، ومنحه وسام الاستحقاق الوطنى الخاص بالشخصيات التى قدمت خدمة للجزائر.
وقالت وزارة الثقافة الجزائرية وقتها إن تكريم اسم فوزى والذى رحل عن عالمنا فى 1966، بعد 4 سنوات من نيل الجزائر استقلالها، يعد وفاء وعرفانا من الشعب الجزائرى تجاه هذا الفنان المبدع الذى قدم للجزائر والعالم أروع لحن لنشيد وطنى معروف فى العالم وهو «قسما».
التقدير والعرفان الجزائرى كان شيئًا جميلاً أن يحظى به اسم فوزى بعد مرور السنوات لكنه يفتح الباب للتساؤل متى يحصل إرثه الموسيقى على ما يستحقه من تقدير فى الوطن العربى؟ لو عدنا مرة أخرى لما فعله محمد فوزى فى النشيد الوطنى الجزائرى، وما حدث يوم إعلان فوز إيمان خليف، وعزف النشيد الوطنى، حيث راحت عيوننا تتبع شفاه البطلة الجزائرية وهى تردد «قسما بالنازلات الماحقات/ والدماء الزاكيات الطاهرات/ والبنود اللامعات الخافقات/ فى الجبال الشامخات الشاهقات/ نحن ثرنا فحياة أو ممات/ وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر/ فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا».. كأنها المرة الأولى التى نسمع فيها هذا النشيد، لقد تحول الأمر إلى موسيقى تصويرية لإيمان ونصرها، كأنما محمد فوزى كان يعرف أن هذا اليوم سيأتى، وأن البطلة الشامخة التى تعرضت لهجمة شرسة قوية قادرة على الانتصار.
وربما يدفعنا هذا الموقف إلى الحديث عن محمد فوزى فعلى مدار عقود من الزمن، تحدث المتخصصون فى عالم الموسيقى عن مدى عبقرية فوزى وأن عقله وموهبته كانت تسبق زمنه، فالفنان الراحل كان متنوعًا ومتطورًا فى استخدام أدواته الفنية فهو مؤلف النشيد الوطنى الجزائرى.. وهو نفسه ملحن أشهر الأغانى الرومانسية، إضافة إلى أنه كان رائدًا فى أعمال خاصة بالطفل لادتزال نغماتها هى الأهم والأشهر حتى وقتنا هذا.. فلا يمكن إغفال أغنية «ماما زمانها جاية» أو أغنية «ذهب الليل».
ربما تكون موهبة محمد فوزى الشاملة سبب فى هضم حقه كملحن فذ، فهو مطرب رائع وممثل خفيف الظل وله أفلام مرحة وناجحة، ومنتج أيضًا، وربما تكون أعماله الموسيقية مثل «حجر رشيد» لكنها لم تجد عالما مثل الفرنسى شامبليون ليفك رموزها كى يتمكن العالم من كشف أسرارها والتعرف على مدى عظمتها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة