ربما لم يكن القرار الذي اتخذه قطاع من الجمهوريين البارزين، بدعم المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، على حساب مرشح حزبهم دونالد ترامب، في الانتخابات الرئاسية المقبلة، والمقررة في شهر نوفمبر، مفاجئا، بقدر ما كان مؤشرا صادما، حول حالة الانقسام التي تشهدها السياسة الأمريكية في اللحظة الراهنة، خاصة إذا ما نظرنا إلى مناصبهم، على غرار الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الإبن، ونائب الرئيس السابق مايك بنس، والذي عمل خلال ولاية ترامب الأولى، وهو الأمر الذي ربما لا يختلف كثيرا عن الحال داخل أروقة الحزب الديمقراطي، وهو ما بدا خلال الضغوط الكبيرة التي مارسها أيضا كبار المسؤولين السابقين، على الرئيس جو بايدن للانسحاب من المعترك الرئاسي، وعلى رأسهم الرئيس السابق باراك أوباما، ورئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي.
ولعل تداخل كبار المسؤولين السابقين، في المعترك الرئاسي بالولايات المتحدة، إلى حد الانقلاب على الذات غرار المشهد الجمهوري، أو إجبار رئيس على التنحي كما فعل الديمقراطيون، يشكل في جوهره سابقة مهمة، حيث كان دورهم في الماضي، لا يتجاوز مجرد الدعم للمرشح الذي ينتمي إلى حزبهم، خلال فترة المنافسة الانتخابية، ثم تقديم التهنئة للمرشح الفائز، دون أن يكون لهم دور بارز في سواء في توجيه الناخبين، أو حتى فيما يتعلق بالتأثير على القاعدة العريضة للحزب في اختيار مرشحه، وهو ما يعكس صورة أخرى لحالة المخاض التي تعانيها الأحزاب الأمريكية في اللحظة الراهنة.
الحالة الأمريكية الراهنة، تعبر في حقيقة الأمر عن مرحلة جديدة، تبدو في إطار إعادة هيكلة الإرث السياسي التقليدي، والذي سبق وأن صنعته الولايات المتحدة، سواء في الداخل أو الخارج، منذ عقود طويلة من الزمن، والذي اعتمد في جزء كبير منه، على مفهومي الديمقراطية، والعولمة، وما خرج منهما من مفاهيم فرعية، على غرار حرية الرأي وحرية التعبير، وتعددية الأحزاب، وحرية التجارة، وحقوق الإنسان، وغيرهم.
المفاهيم سالفة الذكر، صنعت إرثا دوليا، عبر مساعي الإدارات المتواترة، من أجل تعميمها، بصورتها النمطية، عبر التدخل في شؤون الدول الأخرى، من خلال العديد من السبل، منها تقديم المزايا للموالين، وفرض العقوبات على المارقين، مرورا بنشر الفوضى الأهلية، وحتى التدخل العسكري المباشر، على غرار غزو أفغانستان والعراق، في بداية الألفية، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن تلك المفاهيم كانت بمثابة أدوات من شأنها تعزيز نفوذ الولايات المتحدة، وتثبيت قيادتها الدولية، للمعسكر الغربي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ثم تعزيز الهيمنة الأحادية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بعد الحرب الباردة.
بينما يبقى الإرث الداخلي، بعدا آخر، عبر تعزيز صورة أمريكا باعتبارها البوتقة، التي تساع الجميع، باختلاف أديانهم وتوجهاتهم، وأعراقهم وأجناسهم، وهو الأمر الذي شهد تغييرات عميقة، في السنوات الأخيرة، في ضوء خطاب مناوئ للمهاجرين، وأحيانا لذوى الأصول الأفريقية، وامتد إلى المسلمين، وهو الخطاب الذي تبناه ترامب، منذ انطلاق حملته الأولى في 2016، وربما كان سببا رئيسيا في اعتلائه عرش البيت الأبيض، مما يعكس قبولا شعبيا لمثل هذه الدعاية، ولكن إرهاصاته بدأت مبكرا، وتحديدا منذ أحداث 11 سبتمبر، والتي شهدت صعودا كبيرا لظاهرة الإسلاموفوبيا، بينما سعى الديمقراطيون إلى تعزيز الصورة النمطية، عبر اختياراتهم، والتي تجلت في ترشيح أوباما ذو الأصول الأفريقية، ثم امرأة وهي هيلاري كلينتون، ليتكرر الأمر مع هاريس، والتي تجمع بين كونها امرأة ومن أصحاب البشرة الملونة.
وهنا يبدو أن محور الصراع في الانتخابات الأمريكية المقبلة يدور حول الدعوة إلى تجديد الإرث، والذين يمثلهم ترامب، عبر خطابه غير التقليدي، من جانب، والمتمسكين بالتقاليد الأمريكية التي تعود إلى عقود طويلة من الزمن، وهو ما يمثل خروجا عن المنافسة الحزبية التقليدية بين حزبين، بل ويخرج عن أطر الأيديولوجيا الحاكمة، والتوجهات السياسية، وهو ما يعكس التغيير الكبير في الكراسي، بين المؤيدين والمعارضين هنا او هناك.
والحديث عن الإرث، فيمثل في جوهره أحد محاور اهتمام المرشح الجمهوري دونالد ترامب، منذ اللحظة الأولى لظهوره على الساحة السياسية، حيث كان تقويض إرث سلفه أوباما بمثابة الهدف الرئيسي الذي سعى من أجله، طيلة ولايته الأولى، سواء فيما يتعلق بقوانين أوباما حول التأمين الصحي، أو الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، أو اتفاق باريس المناخي، أو حتى فيما يتعلق بإعادة هيكلة العلاقة بين أمريكا وخصومها، وعلى رأسهم روسيا والصين، من خلال مهادنة الأولى واستعداء والثانية، بينما سعى إلى حماية إرثه الشخصي من خلال تعيين قضاة المحكمة العليا من شخصيات تحمل نفس أفكاره، في حين كان كثير الهجوم على إرث أسلافه الجمهوريين، وعلى رأسهم بوش الإبن بينما حاول بايدن العودة إلى المسار بعد انتصاره بعد ذلك، وهو ما نجح فيه نسبيا على المستوى الإجرائي، وإنما ربما لم يحقق نجاحا كبيرا في إعادة صياغة العقلية المجتمعية، لتعود إلى ما كانت عليه قبل ذلك.
وهنا يمكننا القول بأن إرث واشنطن يبقى حاضرا بقوة في الانتخابات الأمريكية المقبلة، بينما تتوارى خلفه الأحزاب السياسية، وتوجهاتها وأيديولوجياتها، وهو ما يعكس تراجع دورها، وتأثيرها في الشارع السياسي الأمريكي، وهو الأمر الذي سبق وأن سلطت عليه الضوء في مقالات سابقة، حول محدودية اختيارات الناخب الأمريكي في ضوء هيمنة حزبين فقط على الحياة السياسية في الولايات المتحدة، في تعارض صارخ مع دعوات واشنطن نفسها لتعددية الأحزاب.