أضعُ نفسى أحيانًا فى مَوضع حماس؛ فأُشفق عليها ممَّا آلت إليه أحوالٌها بعد كلِّ الشهور الماضية. النجاحُ الأكبر فى سيرتها تحول لنكبةٍ كُبرى، وما اغتبطت به فى «طوفان الأقصى» تتجرَّعُه مرارةً وخسائرَ فادحةً من يومها للآن. ربما أساءت الحسابات وقتَها، أو لم تجد بديلاً عن تفجير حالة الجمود القائمة مهما كانت التكاليف؛ لكنها بالتأكيد لم تكُن تتوقَّعُ كلَّ ما تولَّد عن السابع من أكتوبر، ولا أن تختلَّ توازناتُ الإقليم والعالم لتلك الدرجة الثقيلة، ويتخلَّى عنها «محورُ المُمانعة» فى أحوج فتراتها إلى الإسناد والتثبيت، بينما تتآكلُ الأوراقُ فى خزانتها بفعل الجنون الصهيونىِّ، وأنها استقبلت مرحلةً جديدة فى نشاطها المُقاوم، بينما يستدبرُ نتنياهو مسيرتَه السياسية الطويلة، وليس لديه ما يُجبره على التفكير فى المستقبل البعيد. ولعلَّها لعبةُ الوقت باختصار؛ فالهجمةُ القويَّة ومُتّسعة المدى على غلاف غزَّة، كان يُمكن أن تمرَّ بأعباء أقلّ، ومنافع أكبر؛ لو كانت فى زمن حكومةٍ أقلّ جنوحًا وتشابُكًا بين جناحى الصهيونية، القومية والدينية. وجرأة زعيم الليكود على تسعير الحرب حجمًا ونوعًا، وفى تمديدها على خطِّ الزمن، ما كان لها أن تُصيبَ هذا القدر من الوحشيَّة والتصلُّب؛ لولا أنَّ خصومَه قرَّروا تجديدَ شبابهم، بينما يُشرِفُ على شيخوخته المُزعجة.
الشفقةُ الأكبرُ قطعًا على العُزَّل المنكوبين. لم يُستَشَاروا فى النضال، ولا وفَّرهم العدوُّ من خزَّان أهدافه الإبادية. والقاتل إذ يُحافظ على أُصوله مهما تضرَّرت روافعُه السياسية، وتعرفُ الحركةُ أنّها بين مَدٍّ وجَزرٍ كما جرت العادة، فإمَّا يلفُّها الصمتُ أو تُعيد إنتاجَ نفسها بهيئةٍ أُخرى؛ فالناسُ لم يعُد فى حوزتهم ما يكفى لتمرير المأساة، ولا خنادقَ يحتمون بها أو قدرة على التنكُّر والهروب. لقد صاروا بين ليلةٍ وضُحاها عالقين فى فخٍّ تُطوِّقُه النيرانُ العدوّةُ والصديقة، وصارت أبدانُهم موضوعًا للتنازُع واستعراض القوَّة. لا يُؤَمِّنُ لهم المُناضلون فُرصةَ النجاة، ولا يُقصِّرُ المُحتلُّ فى تجريعهم كلَّ صنوف الإيذاء. وكلَّما تمادى الأخيرُ فى تكويم الأشلاء، يكتفى الأوَّلُ عن ثِقَل الوجيعة بالعار الذى تلصِقُه بجبين الغريم. ولومُ الحماسيِّين هُنا لا يُغيِّرُ الواقعَ أو يجبرُ الضَّرَر؛ فضلاً على أنه فى وعى البعض أقربُ لجَلْدِ الضحيَّة ومُطالبتها بالاستسلام. وبعيدًا من مُناكفات الأيديولوجيا والعاطفة؛ فالخيارُ يبدو قاسيًا فعلا: بين الأسى للضحايا والبحث عن منجىً لهم، أو ما يُخبِّئُه البحثُ عن صفقةٍ ظالمة الشروط، وقد يأخذُ من الغَدُ أكثرَ ممَّا أُخِذَ اليومَ وأمسِ، ولا يُضيفُ للقطاع شيئًا إلَّا الانكسار مخلوطًا بالموت.
استقامةُ الأخلاق والضمير لا يُمكن أن تسمحَ بالمُساواة بين غاصبٍ ومغصوب، ولا أن تحرِمَ أهلَ الأرض من حقِّهم الدائم فى المُقاومة دون قيدٍ أو شرط. هذا على مُستوى القاعدة المُجرَّدة، وحال النظر للقضية من خارجها؛ إنما النضالُ فى جوهره تعقُّلٌ وكياسة، ومُوازنة بين المنافع والمَضَار، وهو سياسةٌ أيضًا حتى فى أشدِّ صُوره عُنفًا وتسليحًا. الفارقُ فيه دائما ليس مقدارَ الدم فحسب، ولا ما يتأتَّى عن تضحيات المذبوحين من الوريد للوريد؛ بل أن تتقدَّم القضيَّةُ خطوةً واحدة للأمام، أو أقلّه ألَّا تعود للخلف. وذاكرةُ فلسطين منذ انبعاثها من رماد النكبة الأُولى، وإرساء تجربة فتح ومُنظَّمة التحرير أوائل الستينيَّات، كانت تُبطِئ حينًا وتتعثَّرُ أحيانًا؛ لكنها ما تقهقرت ولا أعادت إنتاجَ أزمانِها البائسة. بينما يعيشُ القطاعُ فى شهوره الأخيرة قطيعةً مع ميراثه الطويل، وارتدادًا خَشِنًا إلى البقعة الأكثر ظلامًا من تاريخ الارتباك والمُعاناة. لا فى الموتِ فقط؛ بل فى ترافُقه مع أعمق الشروخ الوطنية وأكثرها انقسامًا على الثوابت، وتخبُّطًا بين الأيديولوجيا والغايات الشخصية.
بُنِيَت عمارةُ المحنة الحالية مِدماكًا فوق آخر، وإذا كان جُزؤه الظاهرُ فوقَ السطح يتأسَّسُ على الطوفان، ثمَّ كلِّ ما تلاه من وحشيَّةٍ صهيونية؛ فإنَّ الأساسَ الذى تراكمت عليه بقيَّةُ الأحجار يعودُ لارتباك السلطة فيما بعد عثرات أوسلو، واغتيال عرفات، ونظرة الرئيس عباس لإدارة الصراع بمزيدٍ من الدبلوماسية كلَّما نضبت سوابقُ فيوضها؛ لكنه يقومُ فى المستوى نفسه، وربما بدرجةٍ أكبر، على محطَّةِ الانقلاب السياسىِّ التى أقلع منها قطارُ حماس لاقتطاع غزَّة والانفراد بمُقدَّراتها، ثمَّ استثمارها الطويل فى تثبيت سُلطتها على الجزء الأصغر والأضعف والأكثر هشاشة من الدولة الضائعة، واستثمار الاحتلال فيها لتُعِينَه على ما يخشاه من مخاطر الوحدة وترميم جدران البيت. والانفصال لم يتسبَّب فى شَقِّ الصفّ وتذويب الشعور الجامع فقط، ولا فى تسهيل المُغامرة بمُقدَّرات أحد الأقاليم بمعزلٍ عن بقيَّة الجغرافيا والشعب؛ بل صبغَ الكُتلةَ المُسلَّحة من المُقاومة بأصباغِ الدين والمذهب والتحالفات الإقليمية، وفتحَ ثغرةً للعدوِّ أن يحسبَها على محاورَ «فوق فلسطينية»، وأن يُحوِّلَ الأصلَ إلى فرعٍ، بمعنى أن تكون القضيَّةُ ورقةً فى ملفٍّ مُتخَم؛ وليست كلَّ الملفِّ والأوراق، وقبل الاعتقاد والأجندات المُلوَّنة.
ما عجزَ عنه الكبارُ الناضجون؛ ربما تسعِفُنا فيه الأماثيلُ وحكايا الأطفال. إنها حزمةُ الحطب التى تفرَّقت فصارت مواتيةً للكَسر، والثور الذى تخلَّى طائعًا عن فُرص النجاة عندما أشرف صامتًا على افتراس نُسخته البيضاء. عندما فُصِلَت غزَّة عن رام الله صار الطرفان أضعفَ ممَّا كانا عليه، وتآكلت فاعليَّةُ السلطة أضعافَ وهنِها فى زمن عرفات، بينما سُمِحَ للقطاع بترقية عناصر قوَّته الفرديَّة، على وعدٍ مُؤجَّلٍ بالتحطيم الكامل. لم يكُن الاحتلالُ غافلاً عن الخطر المُتصاعد، واشتداد مخالب الطائر الجارح فى حماه؛ والتكتيكُ الذى اعتمدَه عبر آليَّة «جَزّ العُشب» بين وقتٍ وآخر، والتحرُّش بحماس حينًا وبالجهاد أحيانًا، وبمعزلٍ عن بعضهما، كانت أقربَ لرعاية الأُسود فى قفص السيرك. صحيحٌ أنها تظلُّ من المُفترسات، ولا تفقدُ غريزةَ القنص والإيذاء؛ لكنها فى نطاق التحكُّم طوال الوقت، ومحميَّةٌ بالطَّوْق الخانق للأعناق والأجساد. وإذا كان القطاعُ بيئةً مثاليَّةً للتطويق والحصار؛ فالمسألةُ فى الضفَّة أعقد، وكلاهما أعصى على الهندسة الصهيونية مهما تغطرست وفعَّلت قُواها الحارقة؛ ليس بالحيِّز وكثافة السكَّان فحسب؛ بل لأنَّ السياسةَ ضعيفةٌ جدًّا دون القوّة والسلاح عارٍ تمامًا وأسهل للاصطياد خارجَ غطاء الشرعية، وما فى حوزة حماس تفتقدُه المُنظّمة، مثلما تفتقدُ الحركةُ للظلِّ القانونى والاعتراف الدولى، وهو آخر ما تبقَّى من مواريث أوسلو الباهتة.
ربما يُنظَرُ لمسألة المُصالحة باعتبارها رفاهيةً فى زمن الأزمة؛ لكنها فى الواقع أهمُّ المداخل الإلزاميَّة لتفكيك حلقة الاختناق. عشراتُ الجولات على مدى عقدين تقريبًا، من شرم الشيخ إلى القاهرة والعلمين والجزائر والسعودية وغيرها، وأحدثها فى موسكو وبكين، وكلُّها بشَّرت بالخير ولم تُنجزه. يعتصمُ كلُّ طرفٍ بما يعتبرُه مُكتسباتٍ مشروعةً: المُنظَّمة بالسَّبْق والتاريخ النضالى والصِّفَة الشرعية، وحماس بالقوَّة والشعبية والانتماءات العابرة للحدود. والآن يبدو أنَّ أُصولَ الطرفين تتآكل؛ فلم تعُد ميثاقيَّة «التحرير» على حالها، واختلف رجالُ الحاضر عن أسلافهم، وشَطَبَت إسرائيلُ على ما تبقَّى من ظلال السُّلطة وقُدراتها، كما أنَّ الحركةَ تُشرف على حلقةِ الاضمحلال المُعتادة فى سلسلة الأُصوليَّات، وخُدِعَت من أصدقاء الخارج بقدر ما طالتها نوازلُ الأعداء فى الداخل، وحتى التفاف الناس حولها فى أدنى مستوياته، لدرجة أنَّ سطوةَ الرُّعب لم تعُد فعَّالةً ولا رادعةً لهم عن نقدها وتوبيخها والحطِّ من مكانتها. القضيَّةُ مطعونةٌ فى قلبها، وورشة التشافى المطلوبة على وجه السرعة لا يُمكن أن تكتمل؛ إلَّا لو تداعَى لها بقيَّةُ الأعضاء بالسهر والحُمَّى. وإذا كان من السهل الاعتصامُ بحقيقة أنَّ الأزمةَ تتساندُ على كَتِفَى نتنياهو؛ فالأصعبُ والأَوْلَى أن يعترفَ الفلسطينيِّون بنصيبهم منها، وأن يُبادروا لتصفية التركة القديمة؛ لو كانوا مُهتمِّين فعلاً بألَّا يُستَبعَدوا تمامًا من ترتيبات المستقبل، وبعدم التفريط فيما تبقَّى من رُكام البلد بعدما ينقشعُ غبار الحرب.
لحماس خلفيَّةٌ إخوانيَّة غير مُنكَرةٍ؛ حتى مع التسليم بصحَّة ما أوردته فى ورقتها الاستراتيجية المُحدَّثة عام 2017 عن فكِّ الارتباط بالتنظيم. والجماعةُ معلومةُ الميول، تكرهُ «عبدالناصر» وتحتقر العروبة، ولا ترى الإجماعَ إلَّا على بالدِّين والمذهب، وعلى مشروطيّة «أُستاذيّة العالم» كما تصوّرها حسن البنا. الغريبُ أنْ تُطبِّقَ الحركةُ هذا بقدرٍ من التفاوتات مع المحور الشيعىِّ، وترفعُ فى الوقت نفسِه شعارَ الناصريَّة والقوميَّة بأنه «لا صوتَ يعلو فوق صوت المعركة». هكذا تُطَيِّرُ فُرصَ إصلاح ما أفسدَتْه بالانقلاب، على وعدٍ ببحث المسألة ضمن ترتيبات المُستقبل، وأملٍ فى أن تظلَّ على الطاولة؛ فلا يأتى المُستقبلُ ولا تُبحَثُ المسألةُ أصلاً. وهى إذ تداولت مع الشيعيَّة المُسلَّحة فى أمر «الطوفان» وتفاصيله ولوجستيات تفجيره؛ حتى لو فاجأتها بالمَوعد كما يُشاع، أو أخطرت حسن نصر الله فى لبنان قبل ساعةٍ أو أكثر؛ فإنها ما أخطرت الحاضنةَ العربية ولو بتلميحٍ من بعيد، ولا نسَّقت معهم فيما تلاه من تطوُّرات؛ بل تشدَّدت فى أوَّل الأمر مع جهود الوسطاء، ثمَّ عادت لتُعلِّقَ ذُيولَ خيبتها على مشاجب الأشقاء، كما لو أنها تُفتِّشُ عن طَرفٍ يتحمَّلُ عنها عبء الإخفاق، أو تُواصل مهمَّة غسل سُمعة الحليف المُمانع. معلومٌ أنها فى ورطة، وتُغفَرُ لها كثيرٌ من الزلَّات بقدر ما عانَتْه ويُعانيه الغزِّيون معها؛ لكنَّ رأفةَ النظر والتقييم لا تعفى من حاجتها للمُراجعة والتقويم، ولا تُغيِّبُ الحقيقةَ الساطعة بأنه لا خروجَ من النفق؛ قبل الوعى بطبيعته وعُمقه، وما فيه وحواليه من مخاطر وتهديدات.
مُغرَمُون جميعًا منذ البداية بالإغراق فى نزاعات الداخل الإسرائيلى، وإبراز حجم المُعارضة المُطوِّقة لأجندة نتنياهو وخياراته الصاخبة. صحيحٌ أنه من المُهمِّ وَضْعُ الاحتلال أمام تناقضاته العميقة، واستكشاف مدى الشِّقاق الذى يضربُ فى أطناب دولته وبين مُؤسَّساتها؛ لكنَّ المعنى الذى نُسقِطُه من القراءة سهوًا أو بالعَمد؛ أنها تشيرُ لحركيَّةٍ لا تغيبُ عن الغلاف الصهيونىِّ فى زمن أزمته، ولا تُكبِّلُ الأيادى والألسنة عن الاعتراض والنقد والبحث عن التصويب؛ حتى لو كان الصوابُ فى قاموسهم ينعكسُ دمارًا على واقعنا. وفى الجانب الآخر؛ مُنِعَ النقدُ بدعوى قُدسيَّة النضال، وصُودِرَت مسارات المُراجعة بزَعم أنها تُشبه سرديَّة العدوِّ، وتحوَّلت «حماس» لبقرةٍ مُقدَّسة لا تَصِحُّ مُقاربة خطاياها فى الخطاب والمُمارسة، وهذا يُجمِّدُ الميدانَ والتعاطى السياسى العاقل معه؛ حتى لو كان صادرًا عن نوايا صافية. أحوجُ ما يكون الإنسانُ للدواء المُرِّ والجراحة القاسية فى وقتِ المرض، لا أزمنة العافية والحياة العادية.
ظَلَمت «حماس» نفسَها منذ استأثرت بالقضيَّة، وصرفَتْها لأرصدة حُلفاء قدَّموا الدعمَ دون شَكٍّ، لكنه لا يكفى لحَرْفِ النظر عن أغراضها الأيديولوجية والنفعيّة، ولا عن أنها ترى فلسطين بيدقًا على رُقعةِ صراعٍ يتجاوز ترابَها. ظَلَمَتْ حماس نفسَها بالثقة الزائدة، وظُلِمَتْ عندما تُرِكَت لشيطان الأُصوليَّة وإغراءاته العاطفية عالية الصوت، ووُضِعَت فوق مستوى المُساءلة والحساب. واليومَ تدفعُ فاتورةَ الخِفَّة الطويلة منذ الانقسام، لا مُجرَّد الطوفان، ويدفعُ معها الغزِّيون أثمانًا باهظة. يرميها الاحتلالُ بالتُّهمة، وتردُّ بتحميله المسؤولية، ونُؤَمِّنُ معها على السرديَّة رغمَ المآخذ والمُلاحظات؛ لكنَّ الواقعَ الثقيل لا يتغيَّرُ، ولن يتغيَّر. ربما لا يكونُ فى يدِنا أن نُروِّض نتنياهو وقطيعَه التوراتىَّ، ولا أن نفرض على الميدان ما يُوقِفُ الحربَ أو يُسيِّرُها لصالحنا؛ لكنَّ الشِّقَّ الذى لنا ولايةٌ عليه لم نُنجزْه أصلاً، أكان فى التقييم والتقويم وتحديث الأفكار، وفَصل الوطنىِّ عن الدينى، والحركىِّ عن الأُصولىِّ، أم فى تجفيف رواكد المُستنقع الفاصل بين غزَّة والضفَّة/ السلطة وحماس، وإعادة تنشيط مُنظَّمة التحرير وإنعاش ميثاقيَّتها على صِفَةٍ استقلاليّة جامعة، دون اعتباراتٍ للمصالح السياسية الذاتيّة، ولا الالتزامات العسكرية تجاه الآخرين.
الهُدنةُ مَطلوبةٌ لغاياتٍ إنسانيَّة أوّلاً؛ لكنها لن تُقدِّمَ للقضيّة ما لم يُقدّمْه السلاحُ والسياسة.. غشومةُ العدوِّ عاملٌ فارقٌ قطعًا؛ إنما انفصالُ الأدوات النضاليَّة عن بعضها كان الأكثر تأثيرًا فى إضعافها، وفى تقوية الجنون الصهيونىِّ المعروف عمَّا كان عليه فى سابق الجولات. والحال أنَّ الفصائلَ لا تقرأ الإشارات على وجهٍ سليم؛ إذ لم يكُن منطقيًّا إطلاقًا أن يرعى نتنياهو بذرةَ الانقسام حتى صارت شجرةً، ولا أن يتقاعس عن دوراته المُتتابعة من تكسيح القطاع بينما تترقَّى قُدرات حماس، وهو المُؤمِنُ بالتعقيم الدورىِّ وتقليم الأظافر على مُهَلٍ قصيرة. وبالمِثل؛ فإنه ما اغتالَ رأسين كبيرين فى طهران وضاحية بيروت؛ إلَّا لأنه يُريدُ التصعيدَ، ويتحضَّرُ له وينتفعُ منه. لقد تلقّى العاطفيِّون خارجَ مذبح القطاع نبأ تنصيب السنوار على رأس الحركة بمَسرَّةٍ وحُبور، كأنه القصاصُ الذى تُدركه الخنادقُ بعدما عَزَّ على الميدان، وربما غاب عنهم فى حماوة التفكير بالقُلوب، أنَّ ذئبَ الليكود العجوز ربما أراد ما تَحقَّقَ بالفعل. حِسبةُ الخيارات الحارقة، والتصعيد الرمزى، ورغبة الحماسيِّين فى تجنيب المنافى البديلة عبءَ تأمين القائد الجديد، أو الهروب من مخاطر اغتياله أيضًا، لم تكُن بالتأكيد خارج نطاق البحث فى أجهزة الاحتلال الأمنيَّة، ومع تضييقه لهامش المُناورة حدّ الاختناق، قد ينصرفُ الذهنُ بالضرورة للخيار الذى ينكِرُ المأساةَ، ويُحيِّد التهديدات، ويغيظ الأعداءَ أيضًا. هكذا صَوَّت المُناضلون للرجل المثالى الذى راهن عليه المُحتلُّ لمُجاراته فى إذكاء النار، وإلحاق الفصائل على إيران قولاً وفعلاً، ودون أيَّة تأثيرات للجناح الثانى وولائه المعروف للدول القَيِّمة على ما تبقَّى من تركة الإخوان. بالتأكيد ليس مطلوبًا التسليم للقوَّة العارية فى توحُّشها؛ إنما يجبُ بالدرجة نفسِها ألَّا نُسوِّقَ الاستجابات الانفعاليَّة والاضطراريَّة على صِفَة الربح؛ حتى لا يتشوَّه الوعىُ بواقع الصراع، وترتبكَ كلُّ ما بعد ذلك من خطَطٍ وأفكار.
تتعثَّرُ مُفاوضات الهُدنة اليومَ فى أحبال نتنياهو، وما يُلقيه من أحجارٍ على الطريق. الخلافات المُعلَنَة تدورُ على الوَقْفِ الدائم للحرب، وطبيعة المشمولين بالتبادُل، ورغبة الاحتلال فى إبعاد بعض الأسرى خارج فلسطين، وعلى محورَى نتساريم وفيلادلفيا، والأخيرُ محكومٌ بتفاهُمات اتفاقيّة كامب ديفيد، ولدى مصر تحفُّظاتٍ على أجندة زعيم الليكود، ولن يستطيع تمرير ما ترفضُه القاهرة. لكنَّ المُعضلةَ ليست فى أنه يبحثُ عن تهدئةٍ بامتيازاتٍ مُضاعَفة؛ بل أنه يُمرِّرُ الوقتَ انتظارًا لساكن البيت الأبيض الجديد، وإن كان ترامب فلن يستعصى عليه استخلاصُ ما يتمنَّاه فى غزَّة والضفَّة، وربما مع محور المُمانعة كُلِّه من جنوب لبنان إلى طهران. والواقع بقدرِ ما يبدو ثقيلاً ومُظلِمًا؛ لا يجبُ أن يصرفَنا عن التفكير فى المستقبل والاستعداد له، والتحوُّط لكلِّ السيناريوهات من أعلاها صخبًا لأدناها فى الاستحضار والتخويف.
لَعِبَ مخبولُ تلِّ أبيب على الإرعاب وكَىِّ الوعى؛ ولعلَّه نجحَ بالنظر لردود فعل المنكوبين فى غزَّة، ولو كان بعضُها عاطفيًّا وناشِئًا عن ثِقَل المأساة، كما فى تردُّدِ الضفَّة بين التسخين والتبريد، وكانت تنفجرُ سابقًا فى وقائع أقلَّ وطأةً ممَّا حاق بالقطاع. الوحدةُ لن تُوقِفَ المَقتلَة؛ لكنها سترفعُ أَسهُمَ الخشية من انتفاضةٍ شاملة، وتنسفُ ما تبقَّى من أطياف الدعاية الصهيونية عن الحرب بين دولة وميليشيا، لتصير مُواجهةً بين دولتين، أو عدوانًا على شعبٍ كاملٍ خارجَ الفرز والتصنيف وحسابات دوائر الإحماء والتهديد. لقد تعرَّت خطابيَّات «وحدة الساحات» تمامًا، حتى بعدما نفَّذ حزبُ الله ثأرَه المحدود لفؤاد شُكر، وما زالت طهران مُعتصمةً بصبرها الاستراتيجىِّ عن القصاص لدماء هنيَّة. دُفِعَت «حماس» لتكونَ رأسَ حربةٍ للمحور؛ ثم تُرِكَتْ وحيدةً مع جمهورها الأعزل. دِفءُ الصلابة والاتحاد فى الوجيعة الصادقة، يبدأ وينتهى عند فلسطين، وما لم تتلاقَ غزَّة مع الضفَّة، والمُنظَّمة مع الفصائل الشاردة، فلا أملَ فى سلاح المُمانعة الرخو، ولا فى سيف القانون الدولى الأعمى.