سوف تتوقف الحرب فى غزة، لكنها سوف تترك أثرا بالغا، وبعيدا عن التهوين أو التهويل، فإن الحرب فى غزة تمثل تحولا كبيرا وعميقا فى شكل ومضمون الصراع الذى تجاوز العقود السبعة بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلى، تحولات حقيقية بعيدا عن تحليلات وتصورات تنتشر على مواقع التواصل ولا علاقة لها بالواقع، وفضائيات تتعامل مع الحرب باعتبارها مباراة فى الادعاءات وليست حرب إبادة تكاد تتم من طرف واحد وحققت أكبر حجم من الدمار فى غزة، التحولات كاشفة عن حقيقة بعض المعسكرات والدول والتهديدات، والأطراف، التى اختفت بعد 7 أكتوبر، بينما كانت تدعى قبلها أنها طرف فى المواجهة، غادرت هذه الأطراف المواجهة.
من بين التحولات وبالرغم من التشويش الذى تخلقه «السوشيال ميديا»، فقد سقطت الكثير من المزايدات والادعاءات، حول قدرات ودور مصر، وغيرها من الدول التى اعتادت الدعاية والتهديدات وصمتت أمام ما تعرضت له من عدوان أو ردت بتهافت وحسابات.
الحرب التى يشنها الاحتلال الإسرائيلى استمرت هذه المرة أكثر من 11 شهرا، وتجاوزت أعداد الشهداء 40 ألفا والجرحى عشرات الآلاف، بينما آخر مواجهات كان الشهداء لا يتجاوزون 232 فى عام 2021 وأقل منهم فى العام التالى، لكن الأرقام هذه المرة مئات الأضعاف، ونفس الأمر فى حجم الدمار الذى تم فى المبانى، وهو دمار غير مسبوق يكاد يصل إلى أكثر من نصف القطاع، بجانب تدمير المستشفيات والمدارس وكل ما هو حى، فى تعبير عن وحشية الاحتلال هذه المرة، والذى تحول إلى عملية إبادة شاملة للأحياء والمبانى والبشر، والمفارقة أن الاحتلال الإسرائيلى يرتكب كل هذه الجرائم، بينما يرفع شعارات الضعف وأن إسرائيل تعانى من عداوات ومن عدوان ومن اعتداءات المقاومة، وفى المقابل ضمن نفس المفارقة فإن بعض القنوات تقدم صورة انتصارات وهمية على الاحتلال، فتبدو وكأنها تقدم مبررات لهذه الحرب العدوانية.
فى بعض البيانات الدعائية هناك مبالغات فى نشر تقارير عن مواجهات هى فى الواقع بطولات افتراضية مقارنة بفرق التسليح، لكن الواقع أن حجم الدمار والخسائر البشرية فى القطاع وسط الفلسطينيين تشير إلى حرب إبادة ووحشية غير مسبوقة ويجب وضعها فى العقل أثناء النظر إلى هذه الجولة الداكنة التى تكاد تقترب من نكبة جديدة ضد الأبرياء الفلسطينيين.
من استعراض تحليلات بعض من ينتسبون إلى الاستراتيجيين فى قنوات فضائية يزعمون تحقيق هزيمة للاحتلال، وكأنهم فى الواقع بكذبهم يقدمون مبررا للاحتلال لممارسة الإبادة وكأنه فى خطر، بينما الواقع أن حجم الدمار فى غزة تجاوز سنوات سابقة، وأن استمرار العدوان والحرب لأكثر من عشرة شهور يمثل تحولا فى توقعات كانت تشير إلى أن جيش الاحتلال لا يمكنه مواصلة الحرب لعدة أسابيع أو عدة أشهر على أفضل توقع، لكنه هذه المرة كسر التوقعات وتجاوز الوقت والتفاصيل، وبالتالى فإن ما تقدمه الفضائيات من محللين يبدو أقرب إلى الفكاهة المنافسة للواقع، بل والمفارقة الأكبر أن بعض من ينسبون أنفسهم إلى عالم التحليل السياسى، يروجون لانتصارات وهمية بناء على صور وتقارير افتراضية، وهم أنفسهم فى تعاملهم مع قضايا محلية يبدون أكثر تمسكا بالعقل، الذى يخلعونه وهم يتناولون حرب إبادة، يزعمون أنها تمثل انتصارا ما، بينما هى هزيمة مركبة وضخمة ونتائجها سوف تستمر لسنوات، وتغير كثيرا من تفهم وتناول هذا الصراع، لا يمكنهم التعامل معها بعقل أو قليل منه.
الواضح أيضا أن هذه الحرب كانت كاشفة لحقيقة موقف وقدرات ما يسمى محور الممانعة، فقد أعلنت إيران وحزب الله أنهما لا يريدان الدخول فى حرب إقليمية، وأنهما يكتفيان بالرد على عمليات اغتيال أو ضربات نوعية إسرائيلية، وبالتالى خرجت إيران من المعادلة المباشرة، بالرغم من أنها واجهت اعتداءات، بل واغتيال إسماعيل هنية داخل إيران، وجاءت ردود حزب الله أيضا نوعية ومحددة، لم تصب الكثير من الأهداف، تكرارا لمواجهات أبريل، واختارت إيران المسار السياسى دفاعا عن مصالحها، وبالتالى فقد خرجت إيران من المواجهة بوضوح، وحصلت على مقابل سياسى، بجانب أنها ابتعدت عن الدخول فى مواجهة مع الولايات المتحدة التى دفعت أساطيلها للمنطقة.
مهما طالت الحرب على غزة سوف تتوقف، لكنها تترك الكثير من التغييرات، أهمها ضرورة تغيير تكتيكات الفلسطينيين باتجاه وحدة ضرورية وليست اختيارا، ومغادرة الصراع الفلسطينى الداخلى إلى خليط من النضال السلمى والمقاومة، والسياسة، وتجاوز الادعاءات والمزايدات والفرقة التى أضاعت ولا تزال فرص التقدم نحو دولة فلسطينية، تقترب بقدر ما تقترب الوحدة، وتبتعد مع الفرقة والغرور الدعائى ومصالح تجار الحرب.