ربما كشفت أزمة العدوان على قطاع غزة العديد من الحقائق الإقليمية، أبرزها تباين الأوضاع داخل دول المنطقة بين الهشاشة والمتانة، في ظل قدرة بعضها على الصمود أمام التحديات، التي يسعى الاحتلال الإسرائيلي لفرضها، في إطار محاولاته نشر الفوضى، بينما انغمست أخرى، في مستنقع الصراع، وهو ما يرجع في جزء منها إلى عدم القدرة على التعافي من تداعيات الأوضاع التي هيمنت عليها خلال العقد الماضي، وهو ما ساهم في تعزيز قدرة بعض الجماعات، بعيدا عن الحكومات المركزية، في جر دولهم نحو الحرب، وهو ما ساهم في اتساع رقعة الصراع جغرافيا، ليتجاوز القطاع، نحو عدة دول أخرى، منها سوريا ولبنان وحتى اليمن.
ولعل الحديث عن اتساع رقعة الصراع في منطقة الشرق الأوسط، كان بمثابة أبرز ما حذرت منه مصر، منذ بداية العدوان على غزة، ليس فقط فيما يتعلق بمستقبل الإقليم، وإنما بات الأمر مرتبطا إلى حد كبير بالعالم بأسره، وفي القلب منه الغرب الأوروبي والولايات المتحدة، خاصة مع التداعيات الكبيرة المترتبة على الأوضاع الراهنة، على التجارة العالمية، ناهيك عن تأثيراتها على قطاعات حيوية، على غرار قطاعي الغذاء والطاقة، وهي القطاعات التي أنهكتها المستجدات العالمية خلال السنوات القليلة الماضية، بدءً من أزمة الوباء، في أواخر العقد الماضي، مرورا بالصراع في أوكرانيا، وحتى العدوان على غزة، حيث أن ثلاثتهم ساهموا بصورة كبيرة في إعاقة حركة التجارة، وسلاسل الإمداد العالمية، وهو ما يعكس التأثير الكبير لأزمة القطاع في تفاقم الأزمات التي تعاني منها الشعوب في الغرب، وتضع الحكومات في موقف حرج.
وبعيدا عن التداعيات الكبيرة للصراع في غزة، والتي تعكس عمق الرؤية التي تتبناها الدولة المصرية، إلا أن الأزمة التي يشهدها القطاع منذ أكتوبر الماضي، كشفت أبعاد جديدة للدور المصري، وأهمها التحول من مجرد "رد فعل"، إلى الفاعلية والتأثير، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن العدوان الراهن على غزة، يعد بمثابة الاختبار الإقليمي الأصعب منذ ما يسمى بـ"الربيع العربي"، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن القاهرة لم تستعيد فقط عافيتها خلال فترة زمنية محدودة، وإنما في واقع الأمر باتت تحظى بمكانة وثقة دولية تجاوزت مرحلة ما قبل العقد الماضي، وهو ما يبدو في تحول الأراضي المصرية إلى قبل الزعماء والساسة، والوفود الدبلوماسية، وأحدثهم وفد الكونجرس الأمريكي، من أجل مناقشة الأزمة والجهود المبذولة لوقف إطلاق النار.
الدور المصري الفاعل، في حقيقة الأمر لم يقتصر على مجرد التصريحات أو الوساطة لوقف إطلاق النار، وإنما بات متجاوزا لهذا الحد، وهو ما يبدو في الاستعانة بها في إدارة مفاوضات الهدنة، والتي تسعى القاهرة من خلالها ليس لتدشين حالة مؤقتة، وإنما لتحقيق استقرار مستدام، يفتح الباب أمام الحل النهائي للقضية الفلسطينية، وهو ما يعكس حقائق هامة، أبرزها عدم قدرة واشنطن على ترويض الحليف "المارق"، وهنا أقصد إسرائيل، والتي باتت تتحدى الهيمنة الأمريكية، سواء برفض الهدنة، أو تمرير المساعدات الإنسانية، بينما تبقى الحقيقة الثانية، هي أهمية الدور الذي تلعبه القوى الرئيسية في الإقليم وعلى رأسها مصر، في إدارة الأزمات المرتبطة بمناطقها الجغرافية، وإيجاد حلول نهائية لها.
وفي الواقع، يعد التغيير الكبير في طبيعة الدور المصري، ملموسا منذ بدء العدوان، في ضوء قدرة الدولة منقطعة النظير على التعاطي مع كل مرحلة من مراحل الصراع، عبر مسارين، أولهما الاستجابة السريعة للمستجدات، وهو ما يبدو على الدعوة المبكرة من قبل الرئيس عبد الفتاح السيسي لعقد قمة عالمية، يتحقق خلال التوافق الدولي حول ثوابت القضية الفلسطينية، بينما نجحت في الوقت نفسه في قراءة الأحداث فيما يمكننا تسميته بـ"الدبلوماسية الاستباقية"، والتي تمكنت من خلالها من وأد دعوات الاحتلال بمجرد إطلاقها وربما قبل ذلك، عبر تحقيق إجماع إقليمي رافض لتلك الدعوات، مع العمل مع القوى الإقليمية الأخرى في العديد من الأطر، في إطار ثنائي، وهو ما يبدو في التنسيق مع الأردن، فيما يتعلق بملف التهجير، والانتهاكات في القدس، والتي تحظى مقدساتها بالرعاية الهاشمية، من جانب، أو التعاون مع قطر، فيما يتعلق بمحادثات وقف إطلاق النار، ناهيك عن التوافق مع القوى الإقليمية الأخرى حول الثوابت، مما يضفي قدرا من المتانة للموقف الإقليمي، يساهم في تعزيز حالة الصمود، في مواجهة الهشاشة التي تعانيها بعض الدول الأخرى.
لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي، ووزير الخارجية بدر عبد العاطي، مع وفد الكونجرس الأمريكي، بالإضافة إلى زيارات العديد من الزعماء إلى القاهرة منذ بداية العدوان، يمثل هو الآخر اعترافا تجاوز الإدارة الحاكمة، والتي تنتمي إلى الحزب الديمقراطي برئاسة جو بايدن، ليمتد إلى المؤسسة التشريعية، والتي تحظى بأغلبية جمهورية، بأهمية الدور المصري، وعدم القدرة على تجاوزه إطلاقا من أجل الوصول إلى حل في أزمة العدوان على غزة.
وهنا يمكننا القول بأن الدور المصري يمثل أهمية محورية، ليس لمجرد إنهاء الأزمة الراهنة، وإنما لتعزيز الجبهة الإقليمي، بل ويدشن لمرحلة، يمكن خلالها إيجاد الحلول للأزمات التي قد تطرأ على المنطقة من الداخل، بينما يعكس في الوقت نفسه قراءة مصر العميقة للمشهد الإقليمي منذ اللحظة الأولى للعدوان، مما ساهم في تعاطيها الإيجابي مع الأزمة ومستجداتها، بينما تعاطى العالم، في الوقت نفسه، مع دورها بإيجابية.