نام الفلسطينيون على وجيعةٍ واستيقظوا على فاجعة. لم تكُن الأحوالُ مثاليَّةً قبل «طوفان الأقصى»؛ لكنها صارت مأساويَّةً بعده. يعرفُ الاحتلالُ العدالةَ فى مسألةٍ واحدة؛ أن يُنزِلَ بطشَه على رؤوس الجميع بالتساوى، لا فارقَ بين غزَّة التى يُحمّلُها مسؤوليَّةَ الشرارةِ الأُولى للحرب، والضفَّة الغربية وقد احتفظت برباطة جأشِها لنحو أحد عشر شهرًا، رغم كلِّ ما يحيقُ بها من عدوان. وإذا كانت مهمَّةُ التعويق و«كَىِّ الوعى» قد أوشكت على الاكتمال فى القطاع؛ فالظاهر أنهم يحرِفون أنظارَهم إلى الجهة الأخرى، ويُخطِّطون لتكرار الجريمة النكراء بحقِّ الكُتلة الأكبر من فلسطين، أرضًا وبشرًا، كما لو أنهم يتحرَّشون بالاستقرار الحَرِج؛ رغبةً فى التفجير الكامل.
اتَّصل «الطوفان» بالضفَّة من ناحية الاسم؛ لكنَّ إسرائيل ربطتهما معًا بالأفعال. وخلال الشهور التالية للسابع من أكتوبر قُتِلَ زهاءُ 800 مدنىٍّ، مع أضعافِهم من المُصابين وأكثر من 8 آلاف مُعتَقَل. والخَشيةُ المنطقيَّة من التصعيد الشامل كانت تُوجِبُ التهدئةَ، وامتصاصَ غَضبة الملايين فى المُدن والمُخيَّمات، لا أن يسير الائتلافُ اليمينىُّ الحاكمُ فى مسارٍ مُعاكس تمامًا، ويُذكِى النارَ بكلِّ السُّبل الكفيلة بترقية مشاعر العداء، ومُساواة الصمت بالصراخ؛ حتى ليَصِيْرَ الخروجُ من حال الصبر إلى حال الانفلات خيارًا لا بديلَ عنه. والذهاُب فى اتِّجاه الإحماء؛ إنما يكشفُ عن نوايا مُضمَرة، بقدر ما يُعبِّرُ عن سياق الأزمة الذى تعيشُه تل أبيب، وعن انتهاجها أسوأ المسارات الكفيلة بنقل المُواجهة من اشتباكٍ جُزئىٍّ إلى صدامٍ كامل.
سَعَّر الصهاينةُ عُدوانَهم بوتيرةٍ صاعدة، ويتحضَّرون الآن لعمليةٍ واسعة المدى، يُرجَّحُ أنها الأضخمُ منذ تجربة «الجدار الواقى» التى استمرَّت قُرابة ستَّة أسابيع، فى زمن الانتفاضة الثانية قبل أكثر من عقدين. والحَشدُ الكثيفُ من القُوَّات يُرافِقُه تهييجٌ عاطفىٌّ مقصود، يبدأ من الاقتحامات المُتكرِّرة للحرم المَقدسىِّ، ولا ينتهى عند تلويح وزير الأمن القومى المُتطرِّف إيتمار بن غفير ببناء كنيس يهودى فى جبل الهيكل/ ساحة الأقصى، أو دعوة وزير الخارجية يسرائيل كاتس لتكرار تجربة الإجلاء، وترحيل السُّكّان على غرار ما حدث فى غزَّة. كأنهم يضعون الناسَ فى «وعاءِ ضَغطٍ» على النار؛ فإمَّا أن تسحَقَهم الحرارةُ فى حيِّزٍ محكومٍ بالصمت والخضوع، أو يُجبرهم اليأسُ وإرادةُ النجاة على الانفجار، وفى الحالين يقفُ بعَديدِه وعُدَّته ليُشرِفَ على هلاكهم، ومن لم يَمُتْ بالقهر يقتله الرصاص.
عُقدة الرباط بين الضفَّة والقطاع غليظةٌ وعَصيَّةٌ على التفكيك. ربما لأنهما كلُّ ما تبقَّى من الوطن الضائع، ولأن الامتدادات الاجتماعية فيهما تكفَّلت بمُداوة تأثيرات الفَصل الغشوم من جانب الاحتلال، والانقسام المُخزى بين الفصائل. فى زمن النكبة الأُولى كانتا الحاضنةَ التى استوعبت آلاف النازحين من أنحاء فلسطين التاريخية، وقد تنسَّمَتا هواءَ الاستقلالِ النسبىِّ لعشرين سنةً تالية، ولو تحت رايتى الأُردن ومصر. وفى زمن الانبعاث الوطنىِّ الجديد، كانتا الساقين اللتين استندت إليهما مُنظَّمةُ التحرير، فكان الخطُّ الواصلُ بين غزَّة وأريحا عنوانًا على الحلم المأمول، مقدودًا من الصخر ومُعَمَّدًا بالدم. وحتى فى المَلمَّات كانتا مثل مَطرقةٍ وسندان؛ تتفجَّر انتفاضةُ الحجارة فى القطاع فتُولَد «أوسلو» بترتيباتها، وتقتنص السُّلطةُ وجودًا شرعيًّا على تراب رام الله، وتندلع الثانية من القُدس؛ فيربح الغزِّيون حُريَّةً نسبيَّة مع خطَّة «فَكّ الارتباط»، ولم تكن المنافعُ ناشئةً وقتها إلَّا عن شعورٍ عميق بالوحدة، رغم كلِّ ما يبذلُه العدوُّ من جهدٍ فى التنكيل والتفريق وتقطيع الأوصال.
تختلطُ الأدوار فى إسرائيل؛ حتى ليَصْعُبَ على الناظر أن يفصلَ الدَّولَتىَّ فيها عن الميليشاوىِّ. وليست صدمةً أن تأتى دعوةُ إشعال الضفَّة، بصفة الإبادة والتهجير، من مُمثِّلها الدبلوماسىِّ؛ وليس من وزير حَربها ولا عصابات التوراتيِّين والمستوطنين. وإذا قُبِلَ من «حماس» أن تُنشِّطَ دعوات المُقاومة والانتفاض؛ باعتبارها فى مخاض أزمةٍ وُجوديَّةٍ أوَّلاً، ولأنها تُفكِّر كجماعةٍ فاعلةٍ من خارج نطاق الدولة، أى كميليشيا دون تجميلٍ أو انحيازٍ عاطفىّ؛ فإنَّ انتهاجَ الأُسلوب نفسه من جانب سُلطةٍ مُكرَّسة وفقَ الأُطر الدولية، ومُلزَمةٍ بقوانينها ومُدوَّناتها الناظمة للسلوك والأخلاق، إنما ينمُّ عن جوهرٍ عِصابىٍّ كامنٍ تحت جِلْد المَدنيَّة المُدَّعاة، ويُرشِّح أنْ يمتدَّ الصراعُ بمنهجيّة محارقِ العصابات، لا على شَرط الحروب العاقلة؛ باعتبارها صورةً أخرى عن السياسة، كما قال المُنظِّرُ البروسىُّ كارل فون كلاوزفيتز.
قد يُفهَم نزوعُ الحماسيِّين إلى تأجيج الضفَّة؛ وإن لم يكن مُبرَّرًا. لقد أراد «السنوار» عندما أطلقَ هجمتَه فى غلاف غزَّة، أن يقدحَ الشرارةَ اللازمة لإشعال إقليمٍ مُندَّى بالزيت، وجالسٍ على برميل بارود. وإذ تعشَّم أن يُلاقيه الرفاقُ المُمانعون على رأس الميدان، وأن تتبعثر كومةُ القَشّ لتنقلَ اللهبَ من الداخل إلى بقيَّة دُوَل الطَّوْق؛ فإنه خُذِل عمليًّا من تعاطى الشيعيَّة المُسلَّحة مع المشهد، ومن تغليب شعار «الصبر الاستراتيجى» على دعايات «وحدة الساحات». الأيام الافتتاحيّة بعد الغزوة عُبِّئَت بالأيديولوجيا ضمن الثابت الأُصولىِّ للحركة، فانصرفت الدعوةُ إلى أُخوَّة الاعتقاد وميثاقيَّة التحالف؛ حتى امتعض الإيرانيِّون من المُزايدة والاستدعاء لحربٍ لا يُريدون خوضَها، وتردَّد أنَّ المُرشِدَ على خامنئى بنفسِه استحضر إسماعيل هنيّة لطهران، ووبّخه على إطلاق العملية المُنسَّقة مُسبقًا دون استئذانٍ أو استشارة فى الموعد، ثمَّ على حماوة نداءات الفصائل على محور المُمانعة، وما يترتَّب عليها من إحراجٍ وتعرية وانكشاف، وأَمَرَه أن يُسكِتَ الأصواتَ المُصوَّبة على مصالح الثورة الإسلامية، قبل ضميرها ودعاياتها، ومن يومها ذَبُلت الآمالُ فى طينة الفُرس، ونبَّتَتْ بين حصى الضفَّة ورُكامها، أو هكذا تصوَّر سيِّدُ الأنفاق ومَنْ أوكلَ إليهم أشغال العلاقات العامّة والتسويق.
سَقَطتْ العِمامةُ الشيعيَّةُ عن رأس المقاومة رمزيًّا، وتراجعت خطابيَّاتُ الدين قليلاً لتُقدِّمَ حماسيَّات الوطن. انصرف الخطابُ بكامله تقريبًا عن استيفاء حقِّ الإسناد من الحلفاء، إلى استنفار حَميّة الثأر فى نفوس الأشقاء. وهكذا تبدَّل الرهانُ من طهران وجنوب لبنان، إلى القدس ورام الله. وطوال الأسابيع الماضية لا يخلو يومٌ من دعوةٍ أو أكثر للانخراط فى المعركة، وبعيدًا من البحث المفهوم عن أيّة جبهةٍ تمتصُّ قدرًا من جنود الاحتلال، وتُخفِّفُ الضغطَ على القطاع ومنكوبيه؛ فإنَّ استثارة الجوعى والهُمَّل فى قطعة الجبن السويسرية، المُزدحمة بالثقوب والمُسوَّرة بجدار النار؛ كأنه يُبدِّدُ ما تبقَّى أسَفًا على ما ضاع بالفعل، ويضعُ آخرَ أُصول الدولة فى عين العاصفة؛ لا على وعد الاستثمار الفعّال فى الغضب المُثمر، وإنما المُخاطرة الكاملة بكلِّ شىءٍ فى المُتناول، بالطريقة الأسوأ وفى توقيتٍ خاطئ؛ بينما ينفلتُ العدوُّ من كلِّ قيدٍ مُمكن، ويقوده الجنونُ دون ضابطٍ أو رادع.
ذهابُ الصهاينة اليومَ إلى الضفّة تقودُه حساباتٌ حربيّة وسياسية مُتداخلة. إنهم أنجزوا مهمّة تكسيح القُدرات العسكرية للفصائل المُسلّحة؛ لكنَّ الفاعليَّة لا تكتملُ دون إخصاء السياسة أيضًا. هكذا يُمكن النظر للتصعيد باعتباره حربًا على مُنظَّمة التحرير؛ دون إغفال كلِّ ما يُمكن أن يُثار عن ثِقَل الكُتلة البشرية، ومَغبَّة الانفجار المُحتَمَل بين لحظةٍ وأُخرى. أراد نتنياهو أن يزيح حماس من القطاع، مع عدم استبدالها بالسلطة؛ حتى لو أوشكت شرعيَّة أوسلو على التآكل فى يدها. وقد تعاظمَ الإحساسُ بالخطر عندما لوَّح الرئيس عباس بزيارة غزَّة، صحيح أنه حديثٌ أقربُ للدعاية، وتمتنعُ عليه الفُرص الكافية لتجسيده عمليًّا؛ إلَّا أنّه أضاء مُجدَّدا على فكرة البديل الحاضر، وإمكانية أن تتقدَّم «قبيلة عرفات» لترثَ تركة أحمد ياسين. والحلُّ أن يتجاوز الرفضَ باللسان إلى التعطيل باليد العارية؛ بحيث لا يكون مسموحًا للقافلة بأن تُغادِرَ رام الله أصلاً، لا أن يُنتَظَر لحين إيصادِ أبواب القطاع فى وجهها. ومن غير المعقول بالطبع أن تُركِّزَ على إطفاء الحرائق البعيدة؛ عندما يشتعلُ البيتُ ويوشكُ أن ينقض عليها الجدارُ القريب. ولعلّ هذا ممَّا يُلاقى قبولاً لدى «السنوار»؛ ففضلاً عن انتفاعه من انفجار الجبهة الغربية إسنادًا وتلطيفًا؛ فإنّه سيربحُ عثرةً جديدةً فى طريق المنافسين، لا تسمحُ لهم بتسلُّم زمام الأمور، كما لا تُخلِى الطريقَ للبحث فى إنهاء الانقسام بما يتصادم مع مصالح الحركة.
فى التجارب السابقة؛ تفجّرت الانتفاضاتُ عن مآسٍ أقلّ كثيرًا ممَّا رآه الفلسطينيون فى نكبة الطوفان. النسخةُ الأُولى فى أواخر الثمانينيات قدحَها دهسُ بعض الأفراد بسيَّارةٍ ثقيلة، والثانية كانت استجابةً لاقتحام شارون وعصابته للأقصى فى خريف عام الألفيَّة. والحال أنَّ البيئةَ الوطنية لا تنقصُها أسبابُ الانتفاض؛ إنما يبدو أنَّ أهلَ الضفَّة يقرؤون ما وراء السطور، ويخشون على القضيَّة من نَزَق المُغامرات غير المحسوبة. «وحماس» الجاثمة على صدور الغزِّيين بهيمنةٍ مُطلقة، لا تملك حضورًا مُوازيًا على الجانب الآخر؛ لذا تدعو إلى الثورة ولا تقتدرُ على إطلاقها. أمَّا الاحتلالُ فيبدو أنه يخشى انطفاء النار، بقدر ما يتوجَّسُ من انفلاتها. الظاهر أنه لا يتجهّز لمُغادرة الميدان، وقد رتَّب أمورَه بحيث لا يُضطَرّ لإلقاء القفَّازات قبل الانتخابات الأمريكية. وهدفُ الإطالة والاستنزاف يتحقَّقُ بوَصْل الجبهتين أكثر من افتراقهما؛ كما أنَّ غاية الإرعاب وتعقيم البيئة الفلسطينية يتطلَّبُ أن يُنزِلَ بالضَّفِّيين ما أنزله بالغزِّيين؛ فيكتوى الوعى الجمعىُّ، ويدخل اضطرارًا فى حلقة الرخاوة، وهى فاصلٌ مُعتاد بعد كلِّ نكبةٍ أو حفلة رُعب.
السلطةُ لم تعُد مردوعةً، أو على الأقل صارت المسألةُ محلَّ شكٍّ؛ لا سيَّما أن سرديّة الانبطاح تحت السقف تكسَّرت مع «حماس» فى حال الطوفان، وأثبتت فشلَ أجهزة المعلومات وخِفَّة المُقاربات الأمنية. وعاجلاً أو آجلاً لن يعودَ التنسيقُ الأمنىُّ عند حدود مُرضِيةٍ للاحتلال؛ إمَّا لأن حركيّة الشارع ستتجاوز قُدرات الدَّرَك الفلسطينىِّ، أو لأنَّ القادةَ أنفسَهم سيتمرَّدون على الخَنق والتطويق، بعدما تبدَّى لهم أنَّ تطوُّرات غزَّة تستدعى المُغامرة بالتقدُّم إلى الأمام. ونتنياهو الذى يُجرِّب مخالبَه فى وجوه الجميع طوال الوقت، ينصاعُ لرغبات الدائرة التوراتيَّة من حكومته فيما يخصُّ التصعيد؛ لأنه يُركِّزُ عينيه على غايةٍ واحدة؛ أن يرفعَ علامةَ النصر فى آخر الطريق، فلا يُضيِّعُ سيرتَه، ولا يخسرُ صورةَ «الملك اليهودى» التى يفتتنُ بها. وطموحُه محكومٌ بالهبوط الناعم؛ بغَضِّ النظر عن خشونة الإقلاع، ما يعنى أنه لا يريدُ التبريد إلَّا على صِفَة السيادة الكاملة، أكان بالخضوع أم الإخضاع.
تبحث «حماس» عن الانتفاضة الثالثة رغبةً فى توسيع نطاق المأساة، بما يترتَّب عليها من كُلفةٍ إنسانية للفلسطينيين، ودعائيَّةٍ هجائيّة ضد إسرائيل، ولأجل أن تكسرَ الطوقَ الخانق، وتُصدِّرَ بعضَ أزمتها خارج القطاع. ويبحثُ عنها اليمينُ الصهيونىُّ والقومىُّ لدَفع الصخرة الثقيلة على المُنحدَر، فإمَّا تسحق أكبرَ قدرٍ من الضحايا، أو تنزاح عن صدره على الأقلّ. باختصار؛ ينظرُ نتنياهو للمسألة من زاويةِ أنه فى حربٍ فعليّة، ولا يُضيره لو تمدَّدت قليلاً؛ ففى النهاية يتكبَّدُ كلَّ أعبائها، وقد يربحُ من توسيعها ما لم يربحْه بحصرِها فى غزَّة. وأسوأ مسارٍ يُمكن أن تُجبَر عليه فلسطين؛ برومانسيّة الفصائل أو وحشيّة الاحتلال، أن تنتفضَ فى زمنِ انسدادٍ وجنون. فاعليَّةُ الانتفاضة أصلاً تتأتّى عن صِفَتِها المدنيَّة الصافية، وأنها تنشأ عن خللٍ فى صيرورة الحياة العادية، وانعدامٍ للتكافؤ بين طرفين مُتضادّين: شعبٍ أعزل، ودولةٍ مُسلَّحة حتى الأسنان. أمَّا تفجيرُها الآنَ تحت غطاء الحرب؛ ولو كانت مُنحرفةً وظالمة، فإنه يُغيِّب الصِفَة الشعبية، ويُشوِّه المَظلَمة، ولا يستجلبُ الأثرَ النفسىَّ المطلوب؛ وقد تشبَّع الضميرُ العالمى بأقصى صور الإبادة والتنكيل، وأنفقَ كلَّ طاقته المُتاحة للأسى والتعاطف. التوحُّشُ صاخبٌ، والانحيازُ الغربىُّ مُتحقِّقٌ بالفعل، ووَضعُ الناس أمام القطار الطائش يطحنُ عظامَهم ولا يُوقِف مسيرتَه؛ ربما لهذا يسعى الصهاينةُ للاستفزاز واستنهاض هِمَّة الضفة؛ بقدر ما تسعى حماس.
يُفكِّرُ نتنياهو بمنطق تصفية كلِّ الحسابات العالقة طالما دُفِعَت فواتيرُها. بمعنى أنَّ حدودَ خسارته ثابتةٌ بالانتفاضة أو من دونها. قُتِلَ مئاتٌ من جنوده وسَقط جدارُ «حُرمة الدم»؛ إذ لا فارقَ بين أن يتوقَّف العدَّادُ أو يلفَّ دورةً إضافيّة. لهذا لم يكُن الأسفُ على أسرى الطوفان؛ بقدر ما كان فى صفقة جلعاد شاليط؛ فالخسائرُ تفقدُ أثرَها كلَّما تضخّمت، وتحوَّلت من بشرٍ وقُصَصٍ إنسانية إلى أرقامٍ وأصفار. والاقتصادُ نزفَ كثيرًا؛ لكنَّ حِسبةَ التعويض على عاتق الحُلفاء فى الولايات المتحدة وأوروبا. إنه كمَنْ يستشعرُ بلوغَ سَقف الخسارة؛ فيُغامر على اعتبار أنه لن يفقد أكثر ممَّا فُقِدَ بالفعل؛ لكنَّ فلسطين لا تملكُ رفاهيةَ المُغامرة، ولا تحتملُ كُلفة الخسارة الكاملة. قد يبدو هذا الطرحُ استسلاميًّا؛ بمعنى أنَّ التصعيدَ حادثٌ الآن من جانب الاحتلال، ولا فاعليَّةَ لأهل الضفَّة فى تجنُّبه أو تحييد آثاره، كما أنَّ عدم الانفعال به والتعاطى معه يُشبه مُطالبةَ القتيل بالاستكانة للسِّكِّين؛ ولا أقصدُ ذلك بالطبع؛ إنما القصدُ ألَّا يُساق العقلُ بالعاطفة، ولا أن يكون البديلُ عن موازنة حِسبة الربح والخسارة؛ بمُجاراة العدوِّ فى مُعادلةٍ صِفريَّةٍ من أوَّلها. لقد امتصَّ المُمانعون فيضًا من الإهانات المُتتابعة، وما غَلَّبوا شيئًا على حسابات المنطق وتوازُنات القُوى. والفلسطينيون أحوجُ من غيرهم إلى جَرد مُمتلكاتهم، ومَعرفة المُمكن من المستحيل، والتكتيكى من الاستراتيجى، وتفعيل وضع «توفير الطاقة» إلى أن يكون إنفاقُها مُثمرًا، أو تتبدَّل مُعادلات الخارج؛ فتنعكس بالضرورة على الداخل.
نُوشِكُ أن نستقبل سنويّة الطوفان، وما من شَكٍّ فى أنَّ فكرةَ إغراق الاحتلال فى مُستنقع الدم، لم تكُن مُثمرةً على صعيد رَدعه داخليًّا، أو تطويقه بالدعاية والكُلفة الأخلاقية فى الخارج. وإذ يسعى إلى إحراق ما تبقّى من بساتين الزيتون؛ فلا منطقَ فى مُلاقاته بالزيت، ولا مُسابقته بالمشاعل. والحديث عن ماضٍ قريب، أُدِيرَت فيه المُنازعة بأقصى صُوَر الخِفَّة والارتباك، وقد لا يُغيِّر النقدُ شيئا فى تركيب المشهد الراهن؛ إنما يظلُّ وجوبيًّا لاستيعاب الخطايا وعدم تكرارها. الضفّة أهمُّ ظهيرٍ لغزَّة فى محنتها، وأرفعُ آيات الإسناد أن تظلَّ سالمةً بقدر الإمكان. والانتفاضةُ لو وَقَعَتْ فى زمن الحرب؛ فقد تُعمِّقُ النكبةَ ولا تُعزِّز السرديَّة. إنَّ كلَّ ما يُريده الاحتلالُ ليس فى صالح القضية بالضرورة، أكان بالرقص مع المُمانعة شمالاً، أم باستدعاء الفصائل إلى جولة استنزافٍ مفتوحة فى الجنوب. وما وقع على الرؤوس قد وقع؛ إنما المُهمُّ ألَّا نضع البقيّة على المذبح بعاطفةٍ مُتّقدةٍ وبصيرةٍ مُظلِمة.