تحدثت فى المقال سابق عن فكرة «الماعت» فى الحضارة المصرية القديمة، وكيف كان حرص المصريين القدماء - بمختلف فئاتهم وطبقاتهم - على الحفاظ على قيم العدل والأمانة والصدق والانضباط الأخلاقى وضوابط المسؤولية المجتمعية، جزءا من دورهم فى الحفاظ على استقرار المجتمع وسلامه الذان تمثلهما الماعت.
أما نقيض الماعت فكانت الـ«إسفِت»، والإسفت مصطلح يعنى الفوضى والانحلال والتفكك المجتمعى والانهيار السياسى وانعدام الأمن، وعلى المرء أن يختار: إما أن يكون من المحافظين على الماعت، والمعروفون بـ«الماعتيو»، أو أن يكون من جنود الفوضى/ إسفِت، والموصومون بـ«الإسفتيو».
وقد عانى المصريون القدماء فى تاريخهم القديم تجربة قاسية لانهيار الماعت وسيطرة الإسفت، فى فترات مثل عصر الاضمحلال الأول «2181 ق.م، إلى 2055 ق.م» عندما انهارت المملكة المصرية القديمة بسبب ضعف الحاكم وفساد الطبقة المحيطة به، ما أدى لثورة الغوغاء وانهيار منظومة القيم ومعها السلطة المركزية حتى تولى منتوحتب الثانى عرش مصر وقضى على تلك الفوضى وبدأ عصر المملكة المصرية الوسطى، فكان هذا درسا عمليا قاسيا لعواقب إهمال الحفاظ على الماعت.
فكانت فلسفة الماعت إذن علامة على نضج نظرة المصريين القدماء للقيم الأخلاقية والمجتمعية بشكل سبق مختلف حضارات العالم القديم، ما جعل الفكر الدينى والأخلاقى للحضارة المصرية القديمة يستحق وصف عالم الآثار الأمريكى چيمس هنرى برستيد «فجر الضمير»، وهو عنوان كتابه عن الموروث الدينى والفكرى للمصريين القدماء.
لكن ما تجلى فيه هذا النضج بشكل لا يقل استحقاقا للإعجاب، هو نظرة المصريين القدماء لموضوع تناولته مختلف الحضارات المعاصرة لهم، ألا وهو «الشر».
عندما تُذكر معتقدات المصريين القدماء مقرونة بكلمة «الشر» سرعان ما يقفز للأذهان اسم الإله «سِت»، ربما بسبب القراءة السطحية لأسطورة إيزيس وأوزيريس وصراع حورس وسِت، حيث يلعب سِت دور الأخ الشرير الغادر بأخيه الطيب، والعم العاق المغتصب لحق ابن أخيه، أو كوصف حادثة ميلاده فى الأساطير المصرية القديمة حيث لم يولد بسلاسة بل اندفع ممزقا رَحِم أمه خارجا للعالم بشكل مريع، دون تعمق فى فهم ما يمكننى وصفه بـ«شخصية سِت» وما كان حقا يمثله.
دعنى أفاجئك بأن سِت لم يكن إلها للشر فى الديانة المصرية القديمة، وأن المصريين القدماء لم يؤمنوا بأن للشر إلها هو صانعه وموجده، بل وأن عبادتهم لسِت لم تكن - كما يشاع - لتجنب شروره، بل كانت لطلب عونه والاستعانة بقوته.
بلى، فكما قلت لم يكن سِت إلها للشر، بل كان يمثل أحد الآلهة الحارسة للفرعون، وكان هو من يدافع عن مركب الإله رع/الشمس ضد هجوم الثعبان أبيب، بل وكان إلها للحرب لفترة من التاريخ المصرى القديم، وكان ربا لرياح الشمال الباردة القاسية، والصحراء الملتهبة القاتلة وحيواناتها الضارية، وكانت الحجارة الصلبة تسمى «عظام سِت»، وهزيم الرعد يُعتَبَر صوته الغاضب، أى أنه كان يمثل كل ما يحمى مصر ووادى النيل من مظاهر القوة الغاشمة، ولهذا نسب بعض الملوك أنفسهم لسِت - كالملك سيتى الأول - وحملت بعض فرق الجيش المصرى اسمه، كفرقة سِت التى شاركت فى معركة قادش تحت قيادة الملك رمسيس الثانى.
ولأن الشر فى المطلق نوعان، «شر طبيعى» متمثل فى الظواهر الطبيعية الخطرة كالكوارث الطبيعية والظروف المناخية القاسية، و«شر إنسانى» متمثل فى أذى البشر من عدوان وقتل وعنف وظلم وغيرها من الأفعال الضارة، فإن الإله سِت قد مثّل ما يمكن وصفه بـ«الشر الذى أحيانا يكون لا بد منه»، فالصحراء القاسية ورمالها الملتهبة وضواريها المفترسة هى درع طبيعى يحمى وادى النيل من الغزاة، والحرب والعنف الذان مثلهما سِت هما أمران مكروهان لكنهما ضروريان فى مواجهة عدو معتدى أو غازى طامع.
أعترف إذن المصرى القديم بأن الشر ليس بالضرورة شيئا مرفوضا، طالما أن بعض تحديات الحياة قد تضطره إليه، فقط المرفوض هو أن يصبح الشر هو سيد الموقف والمسيطر على الفكر والقول والعمل، هنا يتحول الشر من وسيلة اضطرارية إلى غاية، ولهذا حرص المصريون فى نظرتهم للإله سِت ألا يتركوه يعمل دون المعادل له، وهو الإله حورس، وإلا فإن إطلاق العنان لـ«سِت» يمكن أن يؤدى إلى الفوضى، فالعنف الذى يمثله سِت يجب أن يكون فى إطار حرب عادلة محددة الأسباب والأهداف، وينتهى دوره «سِت/ العنف» بزوال التهديد أو بجنوح العدو للسِلم، وهو ما يثبته التاريخ المصرى القديم، فالمصريون القدماء لم يكونوا قط مبادرين بالعدوان، وكانوا فى نفس الوقت جحيما على من يختبر حرصهم على وحدة وطنهم وسلامته وحريته ونفوذه.
لهذا كان من الطبيعى ألا تتضمن أسطورة صراع الإلهين حورس وسِت نهاية حاسمة بقضاء حورس على سِت، بل كانت النهاية بتربع حورس على عرش أبيه أوزيريس، وبقاء سِت إلى جوار الإله رع يحرس مركب الشمس، ويحمى مصر وملكها من أى عدوان، بل وحتى خلال تفاصيل أسطورة محاكمة سِت وحورس أمام مَجمَع الآلهة، يمكننا أن نلاحظ أن سِت كان يرى نفسه الأجدر بالعرش من منطلق أنه الأقدر على حمايته لتمتعه بالقوة الخارقة حتى أن سيفه لا يستطيع أحد حمله غيره ولو كان من الآلهة.
آمن المصريون إذن بحتمية وجود الثنائى «سِت» و«حورس» لتحقيق التوازن الكونى والسياسى، واعترفوا بنضج أن وجود بعض أنواع الشر فى العالم هو أمر حتمى لا بد من التعايش الحكيم معه، وعبر الفنان المصرى القديم عن ذلك فى نقوشه وتماثيله كذلك النقش الذى يمثل جسدا واحدا يخرج من أعلاه رأسان أحدهما لـ«سِت» والآخر لـ«حورس»، أو كالتمثال الذى يمثل الملك العظيم رمسيس الثانى وهو يتوسط كلا من سِت وحورس ويتلقى التتويج منهما معا.
لم يؤمن المصريون القدماء بأن سِت هو من أوجد الشر، ولم يجعلوا منه حجة يبررون بها شرور البشر ويلصقون جريرتها به، بل آمنوا بأن كل إنسان به بذرة الخير وبذرة الشر، وأن كل إنسان لديه حرية الاختيار أن يتلزم الخير فيكون من «الماعتيو» فيسعد، أو أن يسلك طريق الشر فيكون من «الإسفتيو» فيشقى، أما سِت فهو قوة غاشمة خطيرة ينبغى التعامل معها بحكمة وحذر.
وهذه هى قمة النضج فى تفسير وتحليل الخير والشر، من حضارة أجدادنا الذين يظلمهم من يعتقد أن ميراثهم الحضارى اقتصر على الماديات المتمثلة فى المعابد والأهرام والمقابر والتماثيل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة