على هضبة الخطر يشيد الزعماء أمجادا، لم يخلد التاريخ زعيما إلا وكان سائرا على تلك الهضبة المتوترة، هضبة الخطر، ولم يتميز فى خلده إلا ولأنه كان على حافة تلك الهضبة، هضبة الخطر، هؤلاء الزعماء الذين يديرون تغييرا دراماتيكيا فى أممهم لم يكونوا إلا أخطارا تجابه الخطر!
هم شخوص غير تقليديين يتواصلون مع الأخطار بسلاسة ويخوضون غمارها بهدوء.
فى تاريخنا المصرى الحديث خاطر عبد الناصر كثيرا، وسار على حافة الخطر، كان على خلاف لفظى ثقيل وعنيف مع كثير من زعماء العالم، منهم إيدن وآيزنهاور، وحتى الملك فيصل، وغيرهم، غازل كرامة مفتقدة لدى الجماهير، وعزه مبتغاه، ومَثل انتقالا سلسا لعبودية دموية انقلبت إلى سياده فى نفوس الشعب، جمال عبدالناصر أصبح رمزا ثوريا فى كل بلاد القهر والعبودية، تطلعت الشعوب لهذا الشعبى الذى انحدر من أصول «لا قصرية»، أى مولود خارج القصور! وقد كان ذلك غريبا على أمه تحتفل بميلاد أسيادها أمام قصورهم، سار عبدالناصر مدفوعا بشراهة الزعامة ومتلحفا بعيون الجماهير المشدوهة، ودخل فى تجربة حربية فى 67 عصفت بتلك الآمال المعقودة على زعامته الشخصية، سار جمال على هضبة الخطر، وعادى الكثير من الدول، وتوهم القدرة، ووصل إلى حافة الخطر، وانتحر شعبيا من فوقها، سقط فى هوة سرمدية بين الإنجاز والعجز، فى فاصل تاريخى يمتلئ بالألوان، حرية متخيلة، وسجون متمكنة، وكرامه شعب فى السماء، وكرامة دولة فى خطر!
السادات، سار حثيثا متخففا على هضبة الخطر، تاريخا من الهدوء والوصول فى صمت، تحقق فى ظل كل الأخطار، استمر ظلا إلى أن أصبح نورا ساطعا، يذكرنى الرئيس السادات بذلك الشرخ الذى فى الزجاج، تظنه فى مكانه ساكنا، وهو يتحرك كل ساعة ليصل، سايَس الجميع، (من فعل يسوس)، لكنه كان أكثر نخرا من السوس فى تحريك التاريخ وإعادة تصحيح الجغرافيا! السادات مثال للسائرين خطرا على نفسه وعلى أعدائه فى نفس الوقت، واثق الخطوة يمشى خطرا، كان نصره فى أكتوبر 73 ملهما، وكانت خطوته الخطرة لذهابه للقدس مفزعة، ومن قلب الفزع حقق السلام، سار على الخطر ووصل لحافته، لكنه ألقى نفسه فى البرد والسلام، سلام بارد ووطن دافئ!
حقق ما أراد من إطلالته من على حافة الخطر، افتدى الوطن وتلقى الرصاص بديلا عنه فى عيد نصره وعزته، فى اغتيال يضع عنوانا للقائد المخاطر الذى تلقى الخطر فى صدره وهو ساكن الى آخر رصاصة!
مبارك، الرئيس الإنسان، والإنسان هنا معنى تجريدى بارد تخيلى، فقد جاء الرئيس مبارك بعد تقلبات عنيفة شهدها بعينه، خاطر فى الحرب وتقوقع فى السلام، قرر أن يكتفى من هضبة الخطر مقاتلا، وأمضى نصف ربيعه الآخر موظفا هادئا ينأى عن كل خطر، وأقام المتاريس على حدود هضبة الخطر، أقام السدود أمام أى فعل مبادر واستثنائى، عنون الركود بالاستقرار، وسمى الدعة والاستكانة بالعقل، فقد كان قراره أن نظل هنا، نظل نتحرك فى المكان، محلك سر، وكان الفخر أنه لم يدخلنا حروبا، والواقع أنه لم يدخلنا الحياة نفسها، بتطورها وجريانها وتنميتها، تيبس واستقر واستوظف إلى إن عصفت الطبيعة بجمود الاستقرار المتخيل، قلبته ثورة عاصفة غير تقليدية وغير مسبوقة، وكان الانهيار حادا صارما عنيفا شطب شخصية الموظف ولكنه احترم مخاطرة المحارب، إذن هو الخطر الذى يخلد، الخطر هو الذى يعيش، الخطر خالد، ومبارك...!
تلك الروايات الثلاث، على منضدة الخطر تقيم، أين أنت من هضبة الخطر؟ وما هو موقعك من حافته؟ التاريخ يصنع هناك، والنار هناك، والبرد والسلام هناك، التداخل بحكمة مع عواصف القدر واجب شعبى على كل حاكم، كما أن مشواره على هضبة الخطر واجب أمام التاريخ، فالتاريخ يكتب عند المنعطفات والقرارات المصيرية، عند صياغة الواقع بأدوات الفعل لا رد الفعل، حساب دقيق بين الاستقرار والتيبس، القوه والغرور، الريادة والوظيفية، التاريخ يكتب هناك على حافة الخطر.