ما زلنا مع الرد على القول الغريب: «إن مصر قضت أغلب تاريخ ما بعد الفراعنة وهى محتلة»، وما زلنا كذلك نسأل: من هو المصرى؟ هل الفاطميون والمماليك وأبناء أسرة محمد على باشا مصريون؟ أم أجانب؟
فى العصر العربى الإسلامى شهدت مصر تجربتين للاستقلال هما الدولة الطولونية «من 868م إلى 905م» والدولة الإخشيدية «من 935م إلى 968م»، ورغم أن مصر خلال حكم النظامين الطولونى والإخشيدى كانت عمليا مستقلة، إلا أنها رسميا كانت تتبع الخلافة العباسية فى بغداد.
أما الدولة الفاطمية التى حكمت مصر من العام 969م إلى العام 1171م فكانت أول دولة مصرية مستقلة عمليا ورسميا منذ نهاية عصر البطالمة، فالقاهرة لم تكن مجرد عاصمة ولاية أو إمارة كالفسطاط أو القطائع، بل أصبحت دار الخلافة بانتقال الخلافة الفاطمية إليها من مقرها القديم فى المهدية بتونس الشقيقة حاليا،
البعض يستغل واقعة ترحيب كبار وأعيان المصريين بالقائد الفاطمى جوهر الصقلى وجيشه، ثم بعدها بالخليفة المعز لدين الله الفاطمى باعتبارها دليل أن المصريين يرحبون بأى غاز قوى متغلب على الحكم، ولكن الحقيقة أن استقبال أهل مصر لجوهر ثم للمعز كان بنفس منطق استقبال أجدادهم قبل قرون للإسكندر ثم البطالمة، ليس باعتبارهم غرباء ولكن باعتبارهم متمصرين، وبالفعل قد تمصر الفاطميون حتى أنك لا يمكنك أن تذكرهم دون أن تذكر مصر، ولا أن تذكر مصر دون أن تذكرهم، وعندما انتقل المعز لدين الله الفاطمى إلى القاهرة حمل معه توابيت بها جثامين آبائه ليدفنها فى مصر، فكأنما كان لا ينتقل بنفسه فحسب بل بجذوره، وقد سعى الفاطميون فى عمارة مصر باجتهاد وحماس من يريد البقاء بها حتى نهاية الزمان،، فضلا عن إدراك المصريين للأمر الواقع وهو أنهم قد أصبحوا - منذ زمن - جزءا من تجربة حضارية جديدة، وأعنى الحضارة العربية والإسلامية، فكانت لديهم فرصة أن يصبحوا أكثر فاعلية فى تلك التجربة بأن تكون بلادهم مركزا لدولة مستقلة فتية هى الفاطمية، والتى تمددت لتشمل - فى أقصى اتساع لها - بلاد الشام وشمالى أفريقيا وجزيرة صقلية جنوبى أوروبا، خاصة أن الخلافة العباسية فى بغداد كانت تنحدر إلى ضعف حتى صار الخلفاء العباسيون طوعا لسياسات ومؤامرات قادة الجند التُرك، فلم يعد للخليفة سوى أنه يقال له «أمير المؤمنين»، بينما كانت الدولة الفاطمية المصرية فتية قوية تتطلع لأن تملأ محل الخلافة العباسية الواهنة، وكما قلتُ عن البطالمة أقول عن الفاطميين، إنه إذا عددنا المعز وابنه العزيز متمصرين، فإن باقى خلفائهم قد وُلِدوا وعاشوا وماتوا فى مصر ولم يعرفوا لهم وطنا غيرها.. فكيف لا نعدهم مصريين؟
وحتى سخط المصريون على سياسات بعض الخلفاء أو الوزراء الفاطمين، فإنه كان موجها لتلك السياسات وليس للحكم الفاطمى كله، وأعتقد أننى لستُ فى حاجة للحديث عن مدى تأثر المصريين بالفاطميين، فى معمارهم وعاداتهم وثقافتهم الشعبية.
ولنترك الفاطميين ونذهب للمماليك، واحدة من أندر النماذج فى الحكم، حيث إن «مَس الرِق» شرط للتأهل للانضمام لطبقة الحكام، وأنها دولة ذات نظام ملكى إلا أن حكمها غير وراثى، ويحلو للبعض أن يتخذ من قبول المصريين حكم المماليك وسيلة للنيل من المصريين ووصمهم بأنهم «قد أحنوا رؤوسهم للعبيد المسلحين»،
فالحقيقة أن استقرار الحكم للمماليك لم يتم بسهولة، فالمصريون أنفوا فى البداية من أن يحكمهم سلطان قد مسه الرق، حتى أنهم كانوا يقفون للسلطان عز الدين أيبك فى موكبه ويصيحون فى وجهه «نريد سلطانا حرا على الفطرة»، أو كان بعضهم يستوقفه سائلا إياه بتهكم: «لمن ينتسب مولانا؟»، بل وثارت القبائل العربية بصعيد مصر بقيادة الشريف حصن الدين ثعلب الجعفرى ثورة عارمة لم تهدأ إلا باستدراج «أيبك» لزعمائها بالحيلة وتخلصه منهم.
ولم تهدأ ثورة المصريين إلا عندما طرق الخطر المغولى أبواب مصر، وتصدى لهم المماليك بقيادة السلطان سيف الدين قطز فى موقعة عين جالوت، ثم عندما شمر السلطان ركن الدين بيبرس عن ساعديه لمكافحة الوجود الصليبى بالشرق، وتطهير الشام من الفرنجة، وكذلك عندما أعاد إحياء الخلافة العباسية بالقاهرة، عندئذ فقط اكتسب المماليك الشرعية عند المصريين باعتبارهم قادة الجهاد ضد الأعداء.
وحتى ثورات المصريين وانتفاضاتهم ضد بعض حكام المماليك كانت فى سياق الثورة ضد حاكم ظالم وليس ضد الحكم المملوكى نفسه.
هنا يُطرَح سؤال مهم: هل يمكننا اعتبار المماليك مصريين؟ أم أنهم محتلون أجانب؟
فالمماليك كانوا من أصول أجنبية، فسلاطين العصر المملوكى الأول (من 1250م إلى 1382م) كان أغلبهم من الجنس التركى القبچاقى القادم من وسط آسيا، عدا شجر الدر الأرمينية، والعادل كتبغا المغولى وحسام الدين لاچبن الألمانى وبيبرس الچاشنكير الچركسى، وسلاطين العصر الثانى كانوا من جنس الچراكسة عدا خشقدم وتمربغا اليونانيين.
أجدنى أتفق مع القول بأن المماليك هم متمصرون، فإن كان المملوك قد وُلِدَ خارج مصر، إلا أنه كان يؤتى به إليها وهو طفل غض، فيتأدب ويتعلم الإسلام واللغة العربية على أيدى فقهاء ومعلمين مصريين، وتنقطع به الأسباب عن مسقط رأسه، ويرتبط بمصر فى حياته وحتى مماته، حتى أن المؤرخين المعاصرين للمماليك كالمقريزى وابن تغرى بردى وابن إياس وغيرهم، كانوا يصفونهم بـ«الأمراء المصريين»، وعندما قسّم المؤرخون كشيخ المؤرخين تقى الدين المقريزى طبقات المصريين عدّوا المماليك منهم، ولا يقدح فى ذلك أنهم كانوا طبقة خاصة، فدوما كانت المجتمعات القديمة منقسمة بين عامة محكومة وخاصة حاكمة، ومن نسل المماليك جاءت فئة «أولاد الناس» التى اثرت الحياة الثقافية فى مصر، وأحيل القارئ فى هذا الشأن لكتاب «أولاد الناس فى عصر سلاطين المماليك» للدكتور السيد صلاح الدبيكى
وقد أثر المماليك فى حياة وثقافة المصريين خاصة فى العمارة المملوكية التى تعد عمارة إسلامية مصرية أصيلة، وقد تناولت الصديقة الباحثة دكتور رضوى زكى هذا الموضوع فى كتابها الرائع «قاهرة المماليك» فأوفت وكفت.
وبعكس ما هو شائع لم يحتكر المماليك الإجارة والحكم، فمنظومة الحكم المصرية آنذاك انقسمت بين «أهل السيف» وهم المماليك أرباب الوظائف العسكرية، و«أهل العمامة» أو «أهل القلم» وهم من المصريين الذين ترأسوا مؤسسات مهمة كالقضاء وديوان الإنشاء، وفى هذا الشأن أيضا أحيلكم لكتاب «عصر سلاطين المماليك» لأستاذنا الاستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم، رحمه الله، وكتاب «مصر المملوكية» للدكتور هانى حمزة.
فكيف بعد كل هذا لا نعدهم مصريين؟ وكيف بعد كل ما تقدم أن نصف حكمهم بالاحتلال الذى خضع له المصريون؟
وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم من هذه السلسلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة