يبدو أن الانتخابات الأمريكية المرتقبة في نوفمبر المقبل، ستشهد حالة غير مسبوقة من الزخم، في ضوء ليس فقط المستجدات، المرتبطة بها، على غرار محاولة اغتيال المرشح الجمهوري، أو انسحاب المرشح الآخر، وإنما في ظل تباينات سريعة تشهدها لغة الأرقام، والتي تنبئ عنها العديد من استطلاعات الرأي، في الآونة الأخيرة، وهو ما بدا مثلا في حالة التفوق الكبير التي حظى بها دونالد ترامب، قبل انسحاب الرئيس جو بايدن، من السباق، ثم صعود كبيرة لمنافسته الحالية، كامالا هاريس، بمجرد الإعلان عن اسمها كمرشحة عن الحزب الديمقراطي، لتقترب حظوظها، بل وتتفوق أحيانا على حساب الخصم الجمهوري الصعب، والذي يتمتع بشعبية كبيرة في الشارع، تبدو واضحة، في إطار العديد من المشاهد، أبرزها عدم قدرة الجمهوريين أنفسهم على منعه من الترشح، رغم تحفظاتهم عليه، أو انتقاداته اللاذعة لهم.
وفي الواقع تبدو صعوبة الانتخابات المقبلة، في الولايات المتحدة، في كونها صراع بين إرثين، فهاريس محسوبة على معسكر أوباما – بايدن، بينما يبقى ترامب حالة فريدة، تسعى للدفاع، ليس عن إرث حزبي، وإنما لصناعة تاريخ شخصي، يخرج في بعض أبعاده عن تقاليد المؤسسة الحزبية في الولايات المتحدة، وهو ما يبدو في اعتراضاته المتواترة على سياسات أسلافه من الجمهوريين، والتي لم يخفيها في المحافل العامة، بل وطالما كانت جزءً لا يتجزأ من حملاته الانتخابية، خاصة في انتخابات 2016، والتي قادته إلى دخول البيت الأبيض للمرة الأولى، على حساب منافسته الديمقراطية آنذاك، هيلاري كلينتون، مخالفا كافة الاستطلاعات التي رجحت كفتها على حسابه بحكم خبراتها الواسعة في مجال السياسة.
فلو نظرنا إلى الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، خلال آخر مناسبتين، نجد أن ثمة العديد من المقاربات، إذا ما عقدنا مقارنة بينهما وبين الانتخابات المقبلة في نوفمبر، أبرزها أن ترامب يبقى المرشح الوحيد للحزب الجمهوري في ثلاثة مناسبات متتالية، وهو أمر غير مسبوق منذ عقود طويلة، خاصة بالنسبة لمرشح حصل على ولاية رئاسية واحدة، بينما لم يحصل على الثانية، في حين كان منافسوه أعضاء في مواقع مؤثرة داخل الإدارات الديمقراطية السابقة، فهيلاري شغلت منصب وزيرة الخارجية في عهد أوباما، بينما كان بايدن نائبا للرئيس في الإدارة نفسها، في حين تبقى هاريس هي نائبة بايدن في الإدارة الحالية، وهي مفارقات تحمل مؤشرات مهمة، منها العجز عن تقديم وجوه جديدة تماما، من قبل الحزبين الأكبر، ليس فقط أمريكيا، وإنما عالميا، فأصبح الاعتماد دائما على تقديم وجوه مستهلكة، وهو ما يعكس إما الخوف من المغامرة، أو غياب، أو التغييب المتعمد للكوادر المؤهلة التي من شأنها تحقيق القيادة.
الملاحظة المرصودة في المناسبات الانتخابية الأخيرة، ربما تتماهى مع ملاحظات أخرى، منها على سبيل المثال، ارتفاع معدل أعمار رؤساء الولايات المتحدة، خلال الثماني سنوات الماضية، والتي تعاقب خلالهما إدارتان، بل وإذا ما توسعنا في دائرة الرصد، نجد أنها تمتد إلى أعمار، ليس فقط المرشحين، وإنما حتى مرشحي الانتخابات التمهيدية داخل كل حزب، سواء بيرني ساندرز أو كلينتون من الديمقراطيين، بينما كان معدل الأعمار أقل نسبيا للجمهوريين، في ضوء وجود عناصر على غرار نيكي هايلي، والتي كانت المنافس الأكبر لترامب في الانتخابات التمهيدية الأخيرة، ولكنها لم تتمكن من الصمود أمامه.
والحديث عن ترشيح الكوادر المؤهلة، ربما كان بمثابة السمة المميزة للأحزاب الأمريكية، خلال عقود، يمكن رصدها منذ نهاية الحرب الباردة، منها صعود بيل كلينتون إلى البيت الأبيض، ولم يكن قد تجاوز الخمسين من عمره، في التسعينات من القرن الماضي، بينما كان بوش الإبن على رأس السلطة، وهو في الـ54 من عمره، في حين كان أوباما أقل من الـ50 عاما عندما اعتلى العرش الأمريكي في 2009، بينما كانت الوجوه المذكورة جديدة نسبيا عن السلطة، باستثناء بوش نسبيا، باعتباره "الإبن الأول" خلال حقبة والده، والتي امتدت من الفترة بين عامي 1988 و1992.
ولكن بعيدا عن الأعمار، تبقى ملاحظة أخرى أكثر أهمية، تتجسد في حالة استئثار بالقرار في الداخل الحزبي في قبضة فئة محدودة، من السياسيين، وهو ما يتجلى في الجانب الجمهوري، مع اقتصار دائرة الترشيح على شخص واحد، بينما لم تتجاوز كبار المسؤولين في الإدارات السابقة في الحزب الديمقراطي، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول ما آلت إليه الحالة الديمقراطية داخل الأحزاب في واشنطن، وتداعيات ذلك على أوضاع الديمقراطية، في الداخل الأمريكي، خاصة مع احتداد المشهد السياسي، وحروب تكسير العظام، التي تجاوزت مجرد التصريحات أو المناظرات الكلامية العنيفة، إلى حد العنف الصريح، وهو ما بدا في محاولة اغتيال ترامب، على مرأى ومسمع أنصاره، خلال حملته الانتخابية في بنسلفانيا.
اقتصار دائرة الترشح الجمهوري على ترامب، يعكس حالة أشبه بـ"الإفلاس" الحزبي، مما يساهم بصورة كبيرة في صناعة إرثه الشخصي، والذي سيسعى حال فوزه في الانتخابات المقبلة، إلى تعزيزه، بينما محدودية الوجوه المقدمة من قبل الحزب الديمقراطي، تعني، إلى جانب "الإفلاس"، محاولة الدفاع عن تاريخ فئة بعينها، داخل الحزب، يبدو وأنها لا تحظى برضا قطاع كبير من الأمريكيين، بدليل الاحتجاجات والتظاهرات، غير المسبوقة في الشارع الأمريكي، والتي وصلت إلى حد اقتحام الكونجرس في 2021.
وهنا يمكننا القول بأن مستقبل الأحزاب الأمريكية، بات مرهونا بأشخاص معينة، أو فئات محدودة، وهو ما يعكس، حقيقة ديكتاتورية القرار الحزبي، في مرحلة تبدو فيها الديمقراطية الأمريكية في حالة مخاض، تطرح تساؤلات حول مدى قدرتها على الصمود، في مواجهة التحديات خلال المرحلة المقبلة، جراء العديد من الأوضاع في الداخل، والتي تتزامن مع تغييرات جذرية على المستوى الدولي، من شأنها إعادة هيكلة المفاهيم التي طالما اعتمدها النظام العالمي.