مرَّ أسبوعٌ ولم يقع المحظور. الأعصابُ مشدودةٌ والمنطقةُ تتقلَّب أمعاؤها بين المعلوم بالضرورة والمجهول بحُكم العادة. كلُّ يومٍ ينقضى يأكلُ من وَهج الثأر الشيعىِّ، ويُضيف لحصَّالة الجنون الصهيونىِّ. ويبدو أنَّ الدخول الأمريكىَّ الخَشِن على خطِّ المنطقة، أعاد برمجة الردِّ الإيرانى تحت سقفٍ لا يتخطَّى القواعدَ المرسومة سَلفًا، ولا يُهدِّد بالانفجار. والتأخيرُ قد لا يكون ناشئًا عن دراسةِ الموقف، واعتماد مسارات التعاطى معه، وفقَ مُعادلةِ الكُلفة والجدوى؛ بقدرِ ما يستجيب لرغبة واشنطن فى إملاء صفقةٍ تسمحُ بتفريغ فائض السخونة بطريقةٍ آمنة. ما يُرجِّح ألَّا يذهبَ «محورُ المُمانعة» باتّجاه مُواجهةٍ شاملة، ولا أن يُشعلَ الجبهات كلَّها بالتزامن، ولعلَّه يكتفى بتوقيعٍ ناعمٍ على أطراف الجغرافيا العِبريّة. صحيحٌ أنَّ الاحتمالات الخَطِرة لم تنطفئ بعد؛ إنّما المُقدِّمات تدلُّ على النتائج، والنزالات التى تستعِرُ فى ميدانِ الخطابة غالبًا ما تبرُدُ فيها ميادينُ الحرب.
ثلاثةُ أيَّامٍ فقط تلكَّأت فيها طهران قبل الردِّ على تصفية قاسم سليمانى. وقعت الحادثةُ فى ميدانٍ بعيد؛ لكنها طالت أرفعَ القيادات العسكرية فى منظومة الثورة الإسلامية، فكان إيقاعُ القصاصِ مُتَّصلاً بقيمة الهدف ورمزيَّته؛ ولو أُسقِطَ فى أرضٍ غريبة. والفترةُ نفسُها تمدَّدت أربعَ مرَّاتٍ تقريبًا فى حال القُنصليَّة بالعاصمة السورية دمشق، وإذا كانت قاذفاتُ إسرائيل قد تجاوزت على أرضٍ إيرانية، بالرمزيَّة السياسية والمركز القانونى؛ فإنها نالت من وجوهٍ أدنى فى الرُّتبة. الفاصلُ الطويل نسبيًّا حَكَمَتْه طبيعةُ العمليّة، وإرادةُ التصعيد إلى ما يتجاوزُ الخطوطَ الحُمر؛ لكنه استترَ بحواجز الجُغرافيا ومحدودية الخسارة. أمَّا حادثةُ إسماعيل هنيّة ففيها كلُّ ما غاب عن سابقاتها؛ إذ الرجلُ حليفٌ عالى القيمة، لا يُمثِّل بلدًا شريكًا فى المحورِ فحسب؛ بل ينوبُ عن القضيَّة التى تُعَدُّ أثمنَ أوراق الشيعيَّة الجهادية، وأهمَّ أُصولها العاطفيّة والدعائية، فضلاً على أنه قُتِلَ بجوار رأس الأخطبوط؛ لا عند أذرعه البعيدة، وتحت حماية الحرس الثورىِّ بكامل عُدّته ومَرافقه المُسلَّحة والاستخباراتية. إنها الضربةُ الأقصى والأقسى، والتى تُوجب بكلِّ الحسابات العقليَّة والنفعية أن يكون الردُّ عليها مُعجَّلاً غير مُؤجَّل، وعنيفًا وساخنًا لآخر درجة؛ لكن حسابات المنطق والضرورة قد يكون لها رأى آخر.
المسألةُ هُنا تتجاوزُ الاستنفارَ القبائلىَّ، أو إثبات الاستقامة المبدئيَّة وجِدِّية المواقف بما يُطمئن الحُلفاء ولا يُهدِّد تماسُكَهم؛ بل تنفتحُ على واقعٍ مُزرٍ عن الاستباحة والاختراق، واستفحال الشروخ الداخلية، واهتزاز القيمة المعنويَّة؛ بما يُعاكِسُ كلَّ التصوُّرات المُتوهَّمة عن الرَّدع وتوازُن الرعب. لقد كان بإمكان الاحتلال أن يصلَ إلى «هنيَّة» فى مقرِّ إقامته بالدوحة، أو فى سفراته العديدة إلى تركيا؛ لكنّه اختار تحييدَه فى حاضنته اللصيقة بما يُعمِّقُ الأثرَ، ويشى بنظرته الخفيفة إليها بالقياس للبلدين الآخرين؛ فكأنها رغم كلِّ ما تُجاهر به من بأسٍ واقتدارٍ وهيمنةٍ على الإقليم، يراها العدوُّ أكثرَ هشاشةً من بقيّة عواصمه الصغيرة والكبيرة على السواء. أمَّا الرسالةُ الأخطر فتخُصُّ الإنذارَ بامتداد العمليات لما هو أبعد؛ فإذا تمكَّنت «اليدُ الطُّولى» للصهاينة من نَحرِ حليفٍ مُهمٍّ على بُعد خطواتٍ من المُرشد والرئيس؛ فالمعنى أنها قادرةٌ على الوصول للدولة فى أعلى مُستوياتها، ولا يمنعها من ذلك إلَّا الحسابات الظرفيّة، وتقديرها للأمور بحسب الحاجة، وقد تُقرِّر فجأة أن تُطوِّر أنشطتَها وتقطفَ الرؤوسَ الكبيرة.
الاغتيالاتُ واحدةٌ من ثوابت السياسة الإسرائيلية، وقد تحصَّنت بقرارٍ من المحكمة العُليا، يُخرجها من نطاق الجريمة إلى حيِّز العمل المشروع. القَيدُ الوحيد أن تمُرَّ من قناة رئيس الحكومة وبتوقيعه؛ لكنه قد لا يقترحُ الأسماءَ أحيانًا، ولا يضعُ خططَ التنفيذ فى كلِّ الأحوال. والمقصود هنا أنَّ التصعيد لم يكُن قرارًا فرديًّا من نتنياهو كما جرت العادة منذ الحرب على غزَّة؛ بل يتلاقى فيه مع المستوى العسكرىِّ؛ لأغراضٍ وحساباتٍ ربما لا تُخالف طموحَه الشخصىَّ، لكنها لا تحتكِمُ إليه وحدَه أو تُدارُ وفقَ أولويَّاته فقط. فمَكْمَنُ الخطورة أنَّ إسرائيل فقدت عقلَها فى طوفان الأقصى، وتعيشُ مرحلةً من السيولة السياسية والحربيَّة تُغيِّر المعالمَ المعروفةَ عن سُلوكِها الإدارى، وتوازُنات القُوى بين أطرافها، وأنماط التفكير والنزاعات التقليدية للساسة والجنرالات. كان المُعتادُ أنَّ العضلات للحكومة والعقل للجيش، لا على معنى الخلاف فى فكرة الحرب نفسها؛ بل ترشيدها وتقويم مسارها فى ضوء الثابت الاستراتيجى، وحدودُه الضرباتُ الخاطفة والاشتباكاتُ المحدودة على أرض العدوِّ. وإقرارُ اغتيال «هنيّة» وفؤاد شُكر بالصيغة التضامُنيَّة بين الجناحين؛ إنما يُشيرُ لرغبةٍ مُشتركة فى التصعيد، أو على الأقل لسَعىٍ إلى الاستثمار فيه، وجاهزيَّةٍ كاملةٍ لما قد يترتَّبُ عليه من تداعيات.
يريدُ زعيمُ الليكود إطالةَ الحرب خوفًا على مُستقبله السياسى، والحربيِّون يحملون على أكتافهم صخرةَ الإخفاق عند «غلاف غزَّة» فى أكتوبر الماضى، ثمَّ الدمَ الغزير والفشلَ الذريع فى القطاع لعشرةِ شهورٍ تالية. وإذا كانت الإراداتُ كلُّها تنصرفُ اليومَ لإنجاز صفقةِ التهدئة وتبادُل الأسرى، ويطلبُها الإسرائيليِّون قبل الغزِّيين والأمريكان والعرب؛ فالمُناورة تتطلَّبُ اختراعَ حربٍ بديلة لتعويض القصور القديم، والبحث عن صورة انتصارٍ طازجة، وتجميع الأوراق التى يُمكن أن تُعينَ الفشلةَ فى موسم المُساءلة والحساب. ومعروفٌ أنَّ وزير الدفاع يوآف جالانت كان مُنحازًا لتوجيه ضربةٍ استباقيَّة لحزب الله منذ اللحظة الأولى، وتصدَّى له نتنياهو انطلاقًا من رغبته فى سَحق الجبهة الجنوبية وإبادة حماس أوَّلاً. واليومَ تقطعُ الشواهدُ كلُّها بأنَّ السياسىَّ يرتدُّ عن موقفِه السابق، ولا شىءَ ينفى بقاءَ الجنرال عند حدود الفكرة، أو عودتَه لتنشيطِها؛ ولو تخلَّى عنها لبعض الوقت.
يصعُبُ اتِّخاذُ قرارِ الحرب؛ إنما بعد اندلاعها لا شىءَ أيسرَ من المُضىِّ فيها.. يحتاجُ الجنونُ لشرارةٍ تُشعله؛ ثمَّ يصيرُ وقودًا لنفسِه دون مُعاونةٍ أو تحفيز. والمُفارقةُ أنَّ المُعارضة من أطياف اليمين والوسط رفضَتْ حكومةَ الحرب سابقًا، أو انقلبت عليها وخرجت منها لاحقًا؛ لاعتراضها على التضحية بالأَسْرى فى نزوةِ استمرار القتال جنوبًا، لكنّها الآنَ تصطَفُّ مع غريمها اللدود فى دعايات التصعيد جهة الشمال، وتشدَّدت فى طَلب الثأر بعد حادثة «مجدل شمس» الدُّرزية، ودعمت عمليَّتىّ الاغتيال فى الضاحية وطهران، أو لم تستنكفهما وترفض ما يُهدِّدان به من مخاطر. والمُحصِّلة أنه لم يعُد مُمكنًا الرهان على تشقُّقات الجبهة الداخلية، ولا أن يتكفَّل خصومُ نتنياهو بتحجيم أجندته الحارقة. لقد تكفَّل محورُ المُمانعة بدلاً منه بترميم جداره المُتصدِّع، ومنحَه ما يُعزِّزُ سرديَّتَه المُلفَّقة تجاه مُناوئيه المحلِّيين، ومع القطاعات الشعبية الواسعة التى كانت على الحياد حينًا، أو تُنادى بالتغيير السياسىِّ أحيانًا.
كعادةِ تلِّ أبيب، راهنَ نتنياهو على الولايات المُتَّحدة منذ تلقِّيه الصفعةَ الأُولى. دعاياتُ «الطوفان» وفَّرت له الغطاء السياسى، واستدعت بايدن وبلينكن وأوستن وغيرهم فى زيارة مكّوكية عاجلة، ومنحته مَددًا لا ينفَدُ ولا ينقطع من الذخيرة والسلاح؛ لكنه ظَلَّ يطلبُ المزيدَ. كان يضربُ فى غزَّة وعينُه على واشنطن؛ ولم ينجح فى استدعائها بالأصالة لميدانِ القتال؛ إلَّا عندما ردَّت عليه طهران فى «ليلة الصواريخ والمُسيَّرات» بالأسبوع الثانى من أبريل. ونواياه العميقةُ لاستحضار القوَّة الأمريكيَّة ما تزال قائمةً، وعبَّر عنها بوضوحٍ صارخ فى خطابه أمامَ الكونجرس، وقد ذَكَرَ إيرانَ أكثر من عشرين مَرَّة، وقال إنه بالتصدِّى لها وأذرُعِها يُدافعُ عن الأمريكيِّين أنفسِهم، لا عن إسرائيل وحدها. وهكذا يبدو أنَّه تَرجَمَ الخطابَ سُلوكًا عَمليًّا فى الاغتيال، ويتطلَّع لهَديَّةِ شِيعيّة تُؤكِّد رُوايتَه، وتُجبر البيتَ الأبيض على دَقِّ الطبول وارتداء ملابس الحرب؛ وآخرُ ما يحتاجُه المُمانعون أو يصبُّ فى صالحهم أن يستنفروا الغولَ الخامل، أو يُحقِّقوا مُرادَ الصهاينة فى إخراجه من الحالة الرماديَّة إلى انحيازٍ كاملٍ وشديد الفجاجة.
قُصِفَت قاعدةُ «عين الأسد» فى العراق، وتحدَّثت التقاريرُ الصحفيّة عن عددٍ من الإصابات، وبعضُها أشارت إلى قتيلين. إنها الهدفُ نفسُه الذى اختِيرَ سابقًا للردِّ على مَقتل سليمانى، والمُنفِّذُ اليومَ واحدٌ من الأذرُع الإيرانيّة، ويكسِرُ بضربتِه شهورًا من تجميد الميدان العراقى منذ واقعة «البرج 22» وقَتلاها الثلاثة. والسياقُ هُنا يُفصِحُ عن اتِّصالٍ صريح باغتيال هنيَّة وشُكر؛ فكأنَّ الرسالةَ إحماءٌ للمُواجهة المُرتقَبَة، وتبييضٌ للوجه إزاءَ طُول فترة الصمت، وتعبيرٌ مكشوفٌ عن اتِّهام الولايات المُتَّحدة فى الحادثتين، أو تلويحٌ بمخاطر انخراطها فى جولةِ الردِّ والردِّ على الردِّ مُستقبلاً، ومَعنى الخيارين لا يختلفُ تقريبًا؛ بالنظر إلى أنهما يَعتبران الأُصولَ الأمريكيَّةَ هدفًا مشروعًا، مع الجَزم بعدم استثنائها من الثأر أو تَحاشِى إيلامها لو وَقَفَتْ بجانب إسرائيل. والخطيرُ هُنا أنَّ لُغة المُمانعة آخرها إزعاجُ واشنطن لا إخافتها، بينما سلوكُها ينوبُ مُجدَّدًا عن نتنياهو فى تحقيق أهدافه. فإذا كان مخبولُ تل أبيب يُمَنّى النفسَ بانخراطٍ أمريكىٍّ فى الحرب الإقليمية؛ فالأعداءُ الأذكياء يستجيبون لأمانيه بدلاً من السعى لإحباطها، ومن الاجتهاد بكلِّ ما وَسعَتهم الطاقةُ لتحييد الوحش الأبيض.
من السَّخَفِ استهلاكُ الوقت فى إثبات الثابت، وهجاءِ الضمير الأمريكىِّ وانحرافاته الظاهرة. لا نحتاجُ دليلاً على وُقوفِ الولايات المتحدة بجانب الظالم، والتزامِها الذى لا يتزعزعُ بأمن إسرائيل منذ ولادتها حتى اليوم؛ لكنها للمُفارقةِ البائسة تظلُّ الطرفَ الوحيدَ القادرَ على تطويق الميدان أو إخلائه لصِدامٍ شامل. وليس من مصلحتها الظرفيَّة والاستراتيجية أن تتَّسع المُواجهةُ فى الإقليم، ولا أن تتفجَّر القُنبلة الشرق أوسطيَّة تحت قدميها فى مَوسم الانتخابات. وإذا كانت مُضطرَّةً لمُجاراة اليمين الصهيونىِّ وجماعات الضغط؛ فإنها ترقصُ على حَبلٍ مشدودٍ بين إرضاء الحليف وعدم تهييج الخصوم. والحال أنّه برَفْعِ العَصا فى وجهها، أو المُبادرة بإسالة دمِها فى هذا الوقت الحَرِج؛ لا يعودُ أمامَها إلَّا اعتماد أجندة نتنياهو بكاملها، دون تعديلٍ أو تبديل.. حصافةُ المُمانعة؛ لو افترضنا وُجودَها أصلاً، تقضى باعتماد مسارٍ لا يُخرِجُ الإدارةَ الأمريكيَّة العرجاء من غُلافِها المُتحفِّظ، ولا يصبُّ الزيتَ الساخن على جمرة الانحياز الخافتة؛ فتشتعل أكثر ويصيرُ الإسنادُ المُتعقِّلُ جزئيًّا جنونا كاملاً، ووُجوبيًّا على صِفة المعركة الشخصية. إنها مُعضلةُ البقاء مع قطيعِ ضِباعٍ فى قفصٍ واحد، والمهمَّة أنْ تُفلِتَ منه سالمًا؛ لا أن تستعرض عليه العضلات بحثًا عن الإعجاب وهمهمات الجمهور فى الخارج.
كلُّ تلك التفاصيل ستتجمَّعُ ويُعاد نَسجُها فى ضوء الردِّ المُعَلَّق.. والفارقُ كبيرٌ بين أن تُعقِّب كلُّ جبهةٍ على ما طالها تعقيبًا فرديًّا، وفى نطاقٍ آمنٍ ومحسوب، وأن تكونَ العمليّةُ واسعةً ومُنسَّقة بين المحاور جميعًا. يُمكن أن يُسَعِّر المحورُ الشيعىُّ «طوقَ النار» حول إسرائيل، من سوريا واليمن والعراق ولبنان وصولاً لطهران نفسها؛ لكنّه على قدر الحريق سيستدعى رجالَ الإطفاء. والهجماتُ التكتيكيَّةُ المحدودة قد تُبقِى المُنازعةَ فى نطاق الضاحية وأطراف إيران؛ إنما إحماءُ الساحات كلِّها سيستَجلِبُ عَملاً شُموليًّا من كلِّ القوى الغربية الحاضرة فى المنطقة، وهذا ممَّا يُضيف لرصيد نتنياهو، ويُعزِّز مركز الائتلاف القومىِّ التوراتىِّ فى تل أبيب، فضلاً على أنه قد يُقلِّم أظافرَ المحور فى اليمن والعراق، ويحدُّ من حضوره فى سوريا، ويُرتِّب أعباء ثقيلةً وطويلةَ المدى على الحزب فى لبنان، وربما لا يُستَثنى البرنامجُ النووى ومصالحُ حيويّةٌ أُخرى من المحرقة.
لو كانت الرؤيةُ واضحةً لوَقَع الردُّ فى اليوم التالى مُباشرةً، وما احتاجت أسبوعًا من الخُطَب التى تمتصُّ حرارة الميدان وتُصعِّب المهمّة. الخطأ المُتكرِّر أنّ المُمانعين صَعَّدوا فى اللغة بما يفوقُ القدرةَ والظرفَ وتوازنات الإقليم، فما عاد العملُ العادى مقبولاً ولا الاستثنائىُّ مُمكنًا. فعلوها فى أبريل وتلقّوا سخريةً نالت من صُورتهم وعاطفة مُشايعيهم، وبأثر التكرار وثِقَل الضربة وحماوة المنابر؛ فإنَّ أىَّ مستوىً مطروحٍ الآن للثأر لن يكون مُرضيًا، والمأمول من الحماسيِّين، على مُسمَّى الحركة أو معنى الحماسة، يُهدِّدُ بالانفجار والحرب الشاملة.. لقد تربَّح المحورُ الشيعى طويلاً من استعراض العضلات؛ إنما الدراما الراهنة مُغايرةٌ تمامًا لكلِّ ما اعتادوه. أُبِيدَت غزّة عُمرانًا وحياة، وأيّة وجيعة دون الإبادة ستظلُّ تضحيةً زهيدة. بمعنى أنَّ القليلَ الذى كانت تدفعه العمائمُ السوداء وتجنى مُقابلَه الكثير، صار أقلَّ من مستوى الحدث، وتجاوزَتْه طاحونةُ الدم ومُدوَّنة المآسى الغزِّية. والمُؤكَّد أنهم لن ينتحروا تحت أقدام الصهاينة ليُلهِبوا مشاعرَ الجمهور وينتزعوا منهم الهتافَ والتصفيق. وحتى اللحظة يبدو للناظرِ أنهم يُجارون تلَّ أبيب، ويستنفرون واشنطن؛ لكنه التسخينُ الاعتباطىُّ إلى ذروةٍ سينزلون عنها اضطراريًّا، وقد يخسرون بسببه فى الدعاية كما فى القتال. المُؤسف أنَّ الخِفَّة الباديةَ ممَّن يزعمون مَبدئيّة الموقفِ وصلابةَ النضال، تُزخِّم أجندة نتنياهو ويمينه النازى، وتُمكِّن الغطرسةَ الصهيونية وتزيدُ إجرامها؛ ولو كانت لها حَسَنةٌ واحدة فلعلَّها تبدأ وتنتهى عند تعرية الدعايات العاطفية الساخنة، وتحريرِ وعى المنطقة من أوهام الأُصوليّة المُسلَّحة، ومن ادِّعاء أنها قادرةٌ على تحريرها أو تجنيبها المزالق الوَعِرة. إضعافُ الدول وتخريبُها من داخلها، وضَربها بالمذهبيّة، واستتباعُها بالتفتيت والميليشيات، إن كانت تخدمُ أحدًا فإنه العدوُّ نفسه، ويبقى الرهانُ أوّلاً وأخيرًا على الدولة الوطنية المُحصّنة بمَدنيِّتها ونُضجها السياسى وروابطها الاجتماعية، لا على مُرتكزٍ من دِينٍ أو عِرق، ولا بمشروعيّةِ العُصبة المُؤمنة وحروبها المُقدّسة على الأغيار جميعًا؛ طالما لم يرتضوا بالسرديّة الزائفة ولم يبتلعوا حنظلَ الفرز والتطييف.