في الوقت الذي تحظى به الدبلوماسية بمفهومها التقليدي، ذو الطابع الرسمي، بأهمية كبيرة في إدارة العلاقات بين الدول، وتعزيز حالة التأثير، التي تتمتع بها القوى الدولية والإقليمية، فإن الواقع الراهن يسلط الضوء بصورة كبيرة على الأدوات الناعمة، والتي باتت أحد أهم عوامل النفوذ، في ضوء ما تحظى به من قبول شعبي، بعيدا عن لغة الرسميات، والخطابات السياسية، وهو ما يرجع في الأساس إلى كونها رسائل من شأنها مخاطبة القاعدة العريضة من المجتمعات، بينما لم تخلو، رغم بساطتها، من رسائل سياسية، يمكنها تعزيز الجانب الرسمي، وهو الأمر الذي ارتكزت عليه الدبلوماسية المصرية بصورة كبيرة خلال السنوات العشر الماضية، بل وساهمت إلى حد كبير في تعزيز دورها في مناطقها الإقليمية، مما أدى في نهاية المطاف إلى تصدر مصر قائمة الدول الأفريقية العشر الأكثر تأثيرا وفقا لمؤشر القوة الناعمة العالمي الصادر عن شركة الاستشارات العالمية "براند فاينانس".
ولعل الحديث عن النفوذ والتأثير، وارتباطهما بأدوات الدبلوماسية الناعمة، نجد أن ثمة ارتباط وثيق بالعديد من الأبعاد، أبرزها القدرة على تقديم تجربة ناجحة، والعمل على تسويقها، وهو ما يبدو في العديد من النماذج الدولية، ربما أبرزها الولايات المتحدة، منذ بزوغ نجمها كقطب دولي، في الأربعينات من القرن الماضي، حيث قدمت الديمقراطية باعتبارها نموذج سياسي يحتذى به، بينما كان الإعلام، في مختلف صوره، وسيلة التسويق الناعمة، لتلك التجربة، سواء من خلال برامج حوارية، أو أعمال فنية، أو حتى احتفالات ومهرجانات سعى من خلالها المشاركين إلى التعبير عن أرائهم بحرية، أو من خلال السينما والتي تعد أحد أبرز أدوات الفن الأمريكي، الذي تمكنت من خلاله واشنطن غزو العديد من دول العالم.
ولكن بعيدا عن النموذج الأمريكي، ربما حملت الرؤية المصرية لأدوات الدبلوماسية الناعمة أبعادا مختلفة، وإن اعتمدت على نفس الآليات (التجربة والتسويق)، إلا أنها نجحت باقتدار في تنويع تجاربها، وذلك بحكم موقعها الجغرافي، وتعددية أقاليمها الجغرافية، لتقدم لكل إقليم نموذجا يمكن من خلاله مجابهة التحديات المحيطة به، بينما كان الإعلام هو الأداة التي يمكنها التسويق للرؤية المصرية، وتصديرها إلى العالم الخارجي.
فلو نظرنا إلى السنوات الأولى لـ"الجمهورية الجديدة"، نجد أن الإرهاب كان بمثابة التحدي الأكبر، الذي واجهته الدولة المصرية، عبر الآلية الأمنية المعتادة، بينما استحدثت حربا توعوية "ناعمة"، دشنتها عبر الإعلام، لتقويض الأفكار التي سعت جماعات الظلام إلى إرسائها في عقول الشباب، وهو ما تجلى في دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى "خطاب معتدل"، من شأنه قبول الأخر، وهي الفكرة التي استلهمتها دولا أخرى، على غرار فرنسا، التي سعت إلى استنساخ الفكرة نفسها، عبر متابعة الخطب الدينية، والعمل على منع استيراد الأئمة من الخارج للحفاظ على تماسك المجتمع، ومكافحة الأفكار التي سعت إلى بثها الميليشيات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم داعش الإرهابي للسيطرة على عقول الشباب عبر الانترنت، وهو ما ساهم في تعزيز العلاقة بين الدولة المصرية والامتداد الأوروبي، في إطار إقليم البحر المتوسط.
ولم تقتصر التجربة المصرية، على مجرد النجاح منقطع النظير في الحرب على الإرهاب، وإنما امتدت إلى البعد التنموي، ذو الطبيعة المستدامة، والتي تجسدت في العديد من المشروعات العملاقة، التي دشنتها الدولة المصرية، وهي التجربة التي ساهم الإعلام في الترويج لها بصورة كبيرة، لتتحول مصر إلى أحد أهم منارات التنمية في أقاليمها، وهو ما ساهم في تقديم الخبرات المصرية إلى عدة دول أفريقية خلال السنوات الماضية، والمساهم في دعم المشروعات داخلها، على غرار سد ومحطة جوليوس نيريري لتوليد الطاقة الكهرومائية في تنزانيا، وهو المشروع الذي يساهم في تحقيق طفرة تنموية في القارة السمراء، ليعيد مصر من جديد نحو تحقيق التوازن في علاقاتها مع محيطها القاري، بعد سنوات من التباعد.
تعميم التجربة المصرية، امتد نحو الشراكات التي عقدتها الدولة، مع دول أخرى، وهو ما بدا في الشراكة مع اليونان وقبرص، في مجال الغاز الطبيعي، لتتحول بفضل قوتها الناعمة، إلى منتدى لغاز شرق المتوسط، يضم العديد من الدول الأخرى، تنتمي إلى عدة أقاليم جغرافية، مما ساهم في تعزيز العلاقات فيما بينهم، على أساس المصالح المشتركة، التي توارت خلفها أية خلافات.
تأثير الإعلام، باعتباره أبرز أدوات القوة الناعمة، لا يقتصر على البعدين الأمني والاقتصادي، وإنما امتد إلى أكثر القضايا الإقليمية تعقيدا، وهو ما بدا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، خاصة منذ اندلاع أزمة العدوان على قطاع غزة، حيث لعب الإعلام المصري، دورا رئيسيا في كشف، ليس فقط الانتهاكات المرتكبة من قبل الاحتلال، وإنما فضح ادعاءات وأكاذيب بثتها أكبر المنصات الإعلامية في العالم، في محاولة للتأثير على الرأي العام العالمي، واستمالته نحو الرؤية الإسرائيلية، وهو ما يعكس حالة من التكامل بين الدور الذي تؤديه الدبلوماسية في صورتها الرسمية، من جانب، وأدواتها الناعمة، والتي باتت لا تقل أهمية عنها على الإطلاق من جانب آخر.
وهنا يمكننا القول بأن مكانة مصر الدولية، ترتبط في جزء كبير منها بقدرتها على التأثير الإعلامي، والذي يمثل أداة التسويق للتجربة المصرية، تمهيدا لتصديرها لمحيطيها الدولي والإقليمي، وهو ما ساهم بدوره في تعزيز الدور المصري، في مواجهة مختلف التحديات التي تواجهها أقاليمها الجغرافية، وتعزيز حالة الصمود الإقليمي، سواء فيما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية أو السياسية أو ما يطرأ من مستجدات.