فى كل مرة، سيكتشف من يقرأ أعمال نجيب محفوظ، زوايا جديدة لم تكن ظاهرة فى المرات الأولى للقراءة، وهو أمر يميز الأدب العظيم الذى يمكن أن يعيش لقرون، ويكتسب فى كل وقت قيمة، بجانب أن نجيب محفوظ هو فى الواقع فيلسوف عرف طريقه إلى الأدب، ونجح فى أن يقدم الأفكار الأكثر عمقا فى ثوب بسيط وسلس يذهب إلى العقل والقلب، وبالرغم من مرور نصف قرن وأكثر على بعض أعمال نجيب محفوظ، فإنها تظل تحمل الفكرة، وتبدو معاصرة مع تغير الظروف والتفاصيل.
وبالتالى فإننا نرى شخصيات نجيب محفوظ أو مثلها فى الشوارع والمواقف، فهو يقدم أنواعا من البشر المتناثرين والضعفاء والانتهازيين، وفى رواياته عن قاهرة ما بين الحربين، يرصد نشأة الأفكار المتنوعة، من اليسار واليمين والليبرالية والفاشية، ليكتشف القارئ المعاصر أن نفس الصراعات والاختلافات والأسئلة التى كانت فى بدايات القرن العشرين، استمرت وعبرت مع الأجيال، لتبقى قائمة، وحتى حيرة الشخصيات، وانتهازية بعضها، وعدمية البعض الآخر.
ولا تزال أقوال نجيب محفوظ وعباراته الفلسفية تلخص الكثير من حكم الحياة والمواقف، ونوعية الشخصيات، بل إن بعض مقولات أجراها على السنة أبطاله فى أعمال مختلفة، لا تزال تحتل صدارة «البوستات والتويتات»، على فيس بوك وتويتر، بل إن بعض «الريلز» المأخوذة من أفلام روايات نجيب محفوظ تعبر بعمق عن بعض التفاصيل والمواقف المعاصرة، من ثرثرة فوق النيل، أو ميرامار، أو السمان والخريف، وبالطبع القاهرة الجديدة والثلاثية والحرافيش التى تحمل أقصى الأفكار عمقا، فى قالب درامى وصراع وتفاعل لا يتوقف يعبر عما يدور بأشكال مختلفة.
نجيب محفوظ الذى رحل فى مثل هذه الأيام من عام 2006، يقدم صورة التاريخ الاجتماعى للمصريين، ويكتشف قارئه أن بدايات القرن الماضى حملت نفس الصراعات والانقسامات والأسئلة، بما يؤكد أننا لا نواجه جديدا فى ما نراه، إنما نحصد نتاج التركيبة المعقدة التى حاول نجيب محفوظ - خلال أكثر من نصف قرن - تفكيكها وفهمها.
الثلاثية «بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية» تقدم وصفا تفصيليا للثوار والانتهازيين، والسياسيين، والعشاق، والظرفاء، والانتهازية فى «القاهرة الجديدة»، و«ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل»، والبحث عن العدل رغبة لدى «الحرافيش» مصحوبة باستسلام يجعلهم مفعولا بهم وليسوا فاعلين فى سياق العالم السياسى.
بل وحتى شخصيات نراها فى عالم التواصل الاجتماعى نجد أصولها فى أعمال نجيب محفوظ، وقد عالج مثل هذه الشخصيات المختلة فى الكثير من رواياته، أبرزها كان «قلب الليل» والتى تحولت إلى فيلم كان فيه «جعفر الراوى» نصف المتعلم الذى تصور أنه بلغ المعرفة المطلقة، وأصبح ممن يرفضون مناقشة أفكارهم، ونجدهم فى أعمال نجيب محفوظ، وفى أعماله المختلفة بدءا من الثلاثية التى رصد فيها تنويعات النخبة، وركز على أنواع من حاملى اليقين المطلق فى السياسة والأفكار، ممن يختلط العالم لديهم بين معارف قليلة ورفض لاستيعاب العالم وتحولاته، بل إنه عالج قضية التطرف بالطبع سواء فى رصد قيام التيارات المتطرفة باليمين واليسار.
وفى كل أعماله يحرص نجيب محفوظ على أن يقدم الشخصيات كما هى، لا كما يريدها، فأحفاد أحمد عبدالجواد، تنوعوا ما بين اليسارى، واليمينى، والمتطرف، والإرهابى، والموظف، والبصباص، والمزواج، والعدمى، ومثلوا بذور أجيال الحيرة والانقسام فى المستقبل، يخوضون نفس الصراعات، ويتنقلون بين نفس الأفكار، مع اختلاف الوسائل والظروف، لكن تبقى العلامات التى عالجها الروائى قائمة، وصولا إلى عصر تمثل فيه أدوات التواصل عناصر كشف وترتيب وتفاعل، تفرض نفسها من دون أن تختفى الظواهر المختلفة، مع الأخذ فى الاعتبار أن ما تغير هو السرعة وشكل التطور، وفى كل أعماله لم يتخل نجيب محفوظ عن أفكاره وإيمانه بالعلم والحرية والتقدم، وأهمية التعليم والوعى، وهو ما يجعله روائيا عظيما معاصرا لا يفقد طعم وشكل إبداعه العظيم.
مقال أكرم القصاص