لا شك فى أن العلاقات الخارجية المصرية هى مدرسة دبلوماسية عريقة، على مدار تاريخ الدولة المصرية الحديثة، تدير مصر شؤونها الخارجية وعلاقاتها الدولية بقواعد راسخة وعقيدة ثابتة وأعراف مستقرة، صحيح أن تلك العلاقات تشهد شدا وجذبا كعادة العلاقات الدولية، إلا أنه بات من الواضح تطور تلك العلاقات فى عهد الجمهورية الجديدة بشكل ملحوظ.
لكى نقف على ذلك التطور، لا بد من العودة للوراء قليلا إلى فترة ما بعد ثورة 30 يونيو، حيث قامت الدول سواء الإقليمية أو الكبرى وكذلك العديد من المنظمات الدولية، بممارسة ضغوطات كبيرة على الدولة المصرية نظرا لما مثلته تلك الثورة من تعطيل أو فى بعض الأحيان «وأد » لأحلام وطموحات تلك القوى التى كانت مبنية على استمرار حكم جماعة الإخوان لمصر، يمكن تسمية تلك المرحلة بـ«معركة الوجود».
اتسمت مرحلة «معركة الوجود» باستراتيجية واضحة للدولة المصرية، سواء على مستوى رئاسة الجمهورية أو الخارجية المصرية أو غيرها من المؤسسات الفاعلة فى العلاقات الخارجية المصرية، يمكننا تسمية تلك الاستراتيجية بـ«استراتيجية تصحيح المفاهيم» وتمثلت فى جهود دبلوماسية غير مسبوقة وعلى أعلى مستوى من مستويات التمثيل الدبلوماسى، لتوضيح ما حدث فى 30 يونيو على حقيقته وليس كما كان الإخوان وأعوانهم وشركاؤهم الإقليميين والدوليين يروجون.
خلال تلك المرحلة عانت مصر من العديد من الضغوطات الدولية، ومحاولة بعض القوى فرض «عزلة دبلوماسية» على مصر، سواء بتجميد عضويتها مثلما حدث فى الاتحاد الأفريقى على سبيل المثال، أو بمحاولات تهميش دورها الإقليمى بشكل متعمد فى العديد من القضايا التى تمس أمن مصر القومى بشكل مباشر، هنا كانت ردة فعل الدولة المصرية هى الاستمرار فى استراتيجية تصحيح المفاهيم والسعى لإيجاد تحالفات بديلة، فى تلك المرحلة تعززت العلاقات المصرية الروسية، وكذلك العلاقات الثنائية مع الصين بجانب العلاقات مع العديد من الدول العربية، وفى مقدمتها دول الخليج.
وبعد نجاح تلك الاستراتيجية، بدأت تلك الضغوطات بالانزواء شيئا فشيئا، لتدخل العلاقات المصرية الخارجية مرحلة «استعادة العلاقات المتزنة»، وهنا تعززت العلاقات القوية بالفعل مثل العلاقات مع روسيا والصين ودول الخليج من جهة، وبدأت تعود العلاقات إلى مجراها الطبيعى مع العديد من القوى الدولية، حيث شهدت تلك المرحلة زيارات متبادلة بين السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى والعديد من القوى الإقليمية والدولية، ولقاءات متعددة بين الرئيس السيسى والعديد من الزعماء، منهم رؤساء الولايات المتحدة ودول متعددة من الاتحاد الأوروبى حتى تجلت تلك المرحلة فى زيارات تاريخية أبزرها زيارة الرئيس بايدن إلى مصر على هامش مشاركته فى مؤتمر المناخ ثم كانت الزيارة التاريخية للرئيس التركى إلى مصر فى فبراير 2024 ثم استضافته للسيد الرئيس عبدالفتاح السيسى فى سبتبمر 2024 بالعاصمة التركية أنقرة.
يمكننا القول إن مصر الآن انتقلت، خاصة فى أعقاب أحداث 7 أكتوبر، من مرحلة «استعادة العلاقات المتزنة» إلى مرحلة «استعادة المكانة الإقليمية» التى تتمثل فى كون العنوان الصحيح لإنهاء أزمات المنطقة أصبح بصورة واضحة هو «القاهرة» وليس العواصم الإقليمية الأخرى، وتلك المرحلة تتسم بعلاقات «ندية» بين مصر والدول والمنظمات الدولية، ونعنى بـ«الندية» أن العلاقات تتسم بالحكمة والحزم معا، حكمة لا تجعل العلاقات الخارجية المصرية «متهورة»، ولكنها فى ذات الوقت لا تجعلها علاقات تتسم بـ«التبعية» بل هناك حفاظ واضح على ثوابت الأمن القومى المصرى، وكذلك على المصالح العليا للوطن التى هى فوق كل اعتبار.