حازم حسين

كفى بالزمن واعظا.. فلسطين وسؤال التحرر من فخ التاريخ وفتنة الحروب القديمة

الثلاثاء، 10 سبتمبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لا قيمةَ للزمن خارج الذاكرة، إذ يفقدُ الحاضرُ معناه لو تبدَّد الماضى من قُعور الجماجم. وعلى طول الصراع العربى مع إسرائيل، يبدو أنَّ الصهاينةَ تعرَّفوا علينا بعُمقٍ، ولم نعرفْهم حقًّا. ربما لهذا نُكرِّر الأخطاءَ، ويُعيدون إنتاجَ ألاعيبهم بالخِفَّة نفسها، ويتحصَّلون منها فى كلِّ مرَّةٍ على مكاسبهم المأمولة. ومع الإقرار الكامل بفارق القوَّة، واختلال موازين العالم؛ فإنَّ الارتياحَ لتفسير المِحنة بأسبابها الخارجية، لا يُوفِّر سياقًا عاقلاً لاستيعاب الحوادث واستخلاص دُروسِها، والإفلات من الكمين الذى يترصَّد قضايانا دائمًا؛ لغباءٍ من جانبنا بأكثر ممَّا هو ذكاء من الخصم العتيد. ولا معنى لدخول النزالات الخاسرة بالعُدَّة ذاتها؛ إلا أننا ما وعينا سوابقَ الخسارة، وما جَرَدْنا أُصولَنا الثمينةَ بحثًا عن استثمارها الأمثل. وليس المقصود أنَّ النصرَ كان على مقربةٍ مِنَّا وضيَّعناه؛ إنما أننا ننهبُ المسافات باتجاه الهزائم الثقيلة، ونُعين غريمَنا القوىَّ على ضعفنا، ونستَلِفُ من الغيب ما نُثقِلُ به واقعَنا المُتخَمَ بما يكفى من الانكسارات. إنه صراعُ وجودٍ لا حدود، على ما يُوصِّفه البعضُ؛ وهذا ممَّا يُوجِبُ أن يُدارَ أوَّلاً فى نطاق الوعى، وألَّا ينشغلَ بترسيم الملعب قدرَ انشغاله بتقوية اللاعبين، والتركيز على النقاط المُمكنة بدلاً من فتنة الضربات القاضية؛ لا سيَّما أننا لو خُضنا مُبارياتنا على صِفَة الحسم النهائىِّ فى «أقفاص الموت»؛ فربما نقضى بالمفازة للآخر الذى ما قَصَّر يومًا فى معاركه الساخنة ضد الحياة.


تسرَّبت إسرائيلُ فى عروق المنطقة. استوعبت ماضيها وحاضرَها، ولعلَّها انتهت من بناء تصوُّرها المُبتغَى للمستقبل أيضًا. أمَّا فى الجانب المقابل؛ فإنَّ قطاعًا عريضًا من جماهير القضايا العادلة لم يتجاوزوا زمنَ العصابات الصهيونية، ويطيبُ لهم اختزالُ المسألة فى الأيديولوجيا، وحَسمُها بحروب الكلام. كأنَّ الوقوفَ على أطلال النكبة سيضمنُ تجميدَ الأحوال على ما كانت عليه قبل ثمانية عقود، أو أنَّ عدمَ الاعتراف بالواقع سيسلِبُ العدوَّ صِفَة الدولة، ويُبقيه عند نظرتنا القديمة له، كيانًا هَشًّا وأخلاطًا من الأعراق والثقافات، يتجمَّعون على أُسطورةٍ ويتخبَّطون فى سَرديَّةٍ مُلفَّقة. أمَّا أكثر الناظرين تقدُّمًا؛ فقد جمَّدوا لحظة السادس من أكتوبر 1973، أو على الأكثر اعتبروا أنَّ «رابين» لم يكُن فاصلاً هامشيًّا، ولا جولةً من مُناورات توزيع الأدوار وتقطيع الوقت. النظرتان كلاهما خاطئ للأسف؛ إذ العدوُّ لم يعُدْ قاطعَ الطريق الذى عرفناه قديمًا؛ وإنْ ظلَّ على المُمارسات نفسها، والسلام لم يكُن مُعتَقَدًا أصيلاً لديه؛ لنبحثَ عن نسخةٍ جديدة منه اليوم. والمُؤكَّد أنه بلدٌ ساقط أخلاقيًّا، وليس عَصيًّا على الإسقاط غدًا كما قبل نصف القرن؛ لكنه لن يُهزَمَ بالطرق القديمة، ولن ينزل عن شجرة العَنَت بالكيفية نفسها، وكلَّما تطوَّر فى تجربته الذاتية واشتباكه مع غلافه الواسع، يتعيَّنُ أن يتطوَّر الغلافُ أيضًا؛ لكيلا يظلَّ مُتأخِّرًا فى المنافسة. والمعنى؛ أنَّ ضلالات الإنكار والاستعلاء لا تمسُّ بناءه، بينما تُورِثُنا ضعفًا فى الرؤية وهشاشةً فى المواقف، ولا يُمكن أن تبدأ الخصومةُ السليمةُ إلَّا من معرفةٍ سليمة بالنَّفْس والآخر.


تحدثُ المغالطات باختزال الصورة فى أحد جوانبها، وإنكار تفاصيل إضافية لا تقلُّ أهميّة. ومن الاختزالات الكُبرى؛ أنَّ رئيسَ حكومة الاحتلال يخوضُ معركةً شخصية خالصة، ويتشدَّدُ فى إحباط صفقة الهُدنة وإيقاف الحرب؛ لخَشيته من المُساءلة عن إخفاق الطوفان وقضايا الفساد. وإن كان لا يُنكَرُ أنَّ الذاتىَّ لديه مخلوطٌ بالموضوعىِّ؛ فالواقع أنَّ حصرَ المشهد فى تلك المعادلة ربما يكون مقصودًا من الطرف الآخر، ويحرفُ الأنظارَ عن الحقائق التى ترسَّخت بالوقت والتجربة. ثمَّة مصلحةٌ إسرائيلية مُباشرة فى تسويق أنَّ نتنياهو لا يُمثِّلُ الدولة، بل المُبالغة لحدِّ تصويره عبئًا عليها، ومُخاصمًا للشعور الجمعىِّ وموجته الشعبية الهادرة، والنفعُ هنا يتأتَّى من غَسلِ الوجه الرسمىِّ وتصفيته من شوائب العدوان على غزَّة، وانتداب قُربانٍ وحيد ينوبُ عن الكيان وأفراده فى احتمال مسؤولية الفشل والإبادة. بينما الحقيقةُ أنَّ البلد بكامله على موجةٍ واحدة، ويُؤمن بالثوابت الأيديولوجية والسياسية نفسها، وهُم فى أحسن الفروض يختلفون فى وتيرةِ القتل ومواقيته، أو على المسارات المُتاحة لتفريغ الأرض من أصحابها؛ أمَّا نقطةُ الضمير والحقوق الإنسانية فلا تعنيهم أصلاً؛ إلَّا بقدر ما تسمحُ لهم باسترداد أسراهم، وإعادة هندسة منظومة القمع على صيغةٍ أكثر كفاءة. أى أنَّ الغاضبين هناك يطلبون حياةَ الرهائن؛ ولو كان من الآثار الجانبية أن يُفرِجوا عن الغزِّيين مُؤقّتًا، ويدعون لإراحة الجنود من مَشقَّة القتل المُفرط، دون النظر للضحايا من الأساس. إنه شارعٌ شديد اليمينيَّة والتطرُّف؛ ولا نرى فيه المُعتدلين إلَّا فى سياق المقارنة البينية، والمُفاضلة بين مُقاتلٍ ومُستوطنٍ ومُنتَفِعٍ بأملاك الآخرين، أمَّا تجريدُ القِيَم والنظرُ إليها من زاويةٍ إنسانية مُعمَّمَة؛ فلا يتركُ لنا من دولة اليهود سوى الخُرسِ والمُقعَدِين، وما دونهم يُشاركون فى الجريمة مع اختلاف الأساليب والأدوات.


الجمهرةُ العِبريَّة شاركت فى انتخاب نتنياهو، والمُعترضون عليه ربما صوّتوا سابقًا لشارون أو باراك أو بيريز وغيرهم. نحو ثمانية عقود لم نعرف فيها إلَّا رؤساء حكومات بدرجة ضباعٍ مسعورة، يختلف حجم القَضمة وِفقًا لحِدَّة الأنياب واتِّساع الفَكَّين؛ إنما لم يُقصِّروا جميعًا فى الإرهاب والنهش. والحال أنَّ الانتفاعَ من السرقة لا يقلُّ جُرمًا عن الاشتراك فيها، وعليه يصيرُ الملايين التسعة أو يزيد من يهود إسرائيل فاعلين مُباشرين فى المأساة الفلسطينية. أتفهّم طبعًا المنطقَ الإنسانىَّ الذى يُمكن أن يسوقه البعض، عن أنَّ حصَّةً من ساكنى الدولة وُلِدوا فيها ولا يعرفون لأنفسهم وطنًا آخر؛ لكنهم فى الغالب ينخرطون جميعًا فى جيشها واعتداءاته المُتكرِّرة، ولم نشهد كثيرًا من نزاعات الامتناع عن التجنيد لأسبابٍ ضميرية، إنما تتجسَّدُ تلك الأزمةُ مع الحريديم حصرًا؛ لا من مُنطَلَقٍ أخلاقىٍّ؛ ولكن على أرضية أنهم حُرَّاس الرسالة المُقدَّسة ويحمون البلدَ وأهله بالإقامة المُخلصة فى حيِّز الأُسطورة التوراتية، وهى إلغائية بالضرورة. واليسارُ الذى خَفُت صوتُه لدرجة الامِّحاء؛ تشعرُ كما لو أنه يلعبُ دورًا تضليلاً مرسومًا بعناية، وبقدر ما يُغلِظُ القولَ تجاه بعض المُمارسات العدوانية، يحصرُ نزاعَه فى المستوى السياسى أغلبَ الوقت، ويُوفِّر الجيشَ من النقد والتعرية، ولا تخلو مُقارباته من إدانة الفصائل الفلسطينية فى الجُملة نفسها؛ كأنه يُمرِّرُ التبريرات تحت زعم الموضوعية، ويُساوى بين هتافات الجُناة وأنين الضحايا، وفى العُمق يُكيِّفُ الوضعَ على صيغة المُبالغة فى التعاطى، لا من جهة وَصم المسألة بالخطأ الكامل فى جذورها قبل الفروع.


ما فاتَ لا يعنى تبرئة «حماس» وغيرها من مآخذ الخِفَّة فى النظر والاستخفاف بالقرارات. بدءًا من تديين القضية وتَطييفِها، عبورًا باختراع الانقسام ورعايته لاعتباراتٍ ومصالح شخصية وتنظيمية، وانتهاءً إلى تعميم فلسطين بالعمائم السوداء، وسكب دمائها غزيرةً ورخيصةً فى كأس الشيعيَّة المُسلَّحة. وإذا كانت إسرائيلُ انتقلت من فوضى العصابات إلى نظاميَّة الدولة، منذ ما قبل التأسيس والتجسُّد الرسمىِّ؛ فمن غير المفهوم أن تظلَّ الفصائلُ مفتونةً بالحالة القبائلية السائلة، وأن تُعلِّقَ وجودَ الدولة فى الوعى والمُمارسة الذاتية، على أن تستحصل من العدوِّ اعترافًا مُسبَقًا يخلقُها على الأرض قبل أن تتخلَّق فى الأذهان. لقد اختبرَ الفلسطينيون حالةَ الحرب الدينية مُبكِّرًا، من وقت عزّ الدين القسَّام مرورًا بالثورة الكبرى، ولم تخلُ معاركُ النكبة من صِفَةٍ عقائديَّةٍ تحت الراية القومية، وأثبتت الوقائعُ أنها قضيَّةٌ لا تقوم بالقرآن والسنة، ولا تُقاس صلابةُ جنودها بطُول اللحى وألوان العمائم. هكذا تخلَّصت مُنظَّمة التحرير فى المنشأ من الظلال الأُصوليَّة التى غلَّفت أفكار مُؤسِّسيها، واتَّخذت طابعًا وطنيًّا صافيًا، تحرَّكَ فى الزمن ليتجاوزَ المُكوِّنَ العاطفىَّ من الخطاب القومى الركيك، ولعلَّها أحرزت بين مُنتصف الستينيات وأوائل التسعينيات ما لم يتحقَّق قبلَها أو بعدها، لكنها تجمَّدت تقريبًا منذ اتفاقية أوسلو، ربما لعجزها عن مُواصلة التطوُّر والحركة الديناميكية، أو لأنَّ استحواذ الإخوان على رايةٍ فصائليّة بعد الانتفاضة الأُولى مثَّلَ ارتدادًا بالبيئة كلِّها لزمنٍ قديم. وبينما كان انتقالُ الاحتلال بين أطياف السياسة مُتدرِّجًا بحسب المصلحة، فأسَّس دولتَه تحت ستارٍ يسارىٍّ علمانىٍّ، قبل أن يُجاهر بطابعه اليمينىِّ التوراتىِّ بعدما استتبَّ له الأمر، كان الأنسبُ أن يعكسَ مُناوئوه المسارَ لا أن يُجاروه فيه، ما يعنى أن ينتقلوا من الدينىِّ إلى المدنىِّ لا العكس؛ إذ الأُصوليَّةُ التى ما أسعفتهم قديمًا أمامَ خطابٍ أقلّ تبجُّحًا، ربما تُلقى عليهم اليومَ أعباءً أكبر؛ وقد أخذ الصراعُ طابعًا لاهوتيًّا كاملاً لدى الجانبين.


ربما تأسَّست الموجةُ الإسلامية الجديدة على نوايا حَسنة، ولا شكَّ فى أنها فعَّالةٌ فى حشد الدعم وتجييش العواطف؛ لكنها تصبُّ فى خزَّان الأُصوليَّة اليهودية المُضادّة. لقد تجاوزت إسرائيل نطاقَ الاحتياج لمُمالأة العالم والنفاذ من ثغوره القانونية والأخلاقية، وتحصَّلت على الدولة على سبيل التعويض عن الشتات والمعاناة، والفكرةُ نفسُها تقومُ مقامَ الضمانة الدائمة لوجودها، بمعنى أنَّ الرُّعاة الذين أوجدوها بمنطق التكفير عن الذنوب؛ لن يسمحوا بتكرار السقطة؛ ولو تورَّطوا فيما لا يقلُّ عنها تجاه شعوبٍ أخرى. وفى هذا المناخ المُلتبس بين الذاكرة والحاضر، لا تحتاجُ السرديَّةُ الصهيونية لأكثر من عدوٍّ يُطالب بما بين النهر والبحر، ويُلوِّحُ ولو على سبيل الأمانى بحقِّه الكامل فى فلسطين التاريخية، ولو لم يكُن قادرًا على استيفائه اليومَ أو فى أىِّ وقتٍ قريب. وعُقدةُ العُقَد كلّها أنَّ الأُصوليِّين لا يستطيعون النزولَ عن هذا الثابت، وقد ألزموا أنفسهم بما فى النصوص التأسيسية وحواشى التراث الامبراطورى المُعمَّم، والانقلاب عليه سيبدو كما لو أنهم ينقضون غزلَهم، ويلعبون فى الدين والدنيا، أو فى التاريخ والجغرافيا معًا. ولا فِكاكَ من الفخِّ إلَّا باستبدال الفَرَس والفارس، أى ألَّا تعودَ فلسطين وقفًا إسلاميًّا؛ طالما يختصُّ النقاش بالحقوق الإنسانية ونضالات الوطن التحرُّرية، وألَّا يكون السلاح فى أيدى الشيوخ، ولا ينوبون عن المجموع فى التفاوض أيضًا. وليس مُهمًّا أن يتحقَّق ذلك من خلال المُنظَّمة، أو عبر إنتاج الفصائل لنفسها تحت راياتٍ جديدة؛ فالفكرة أن يُصار لخطابٍ جديد، لا تكون الدعاياتُ المنبريَّةُ فيه عبئًا على أصحابها، ولا رصاصًا يُذخِّرُ بنادقَ المُترصِّدين لهم بالقوَّة حينًا، وبألاعيب السياسة فى أغلب الأحيان.


يحاولُ الصهاينةُ إقناعَنا بأنهم مُختلفون حتى النخاع؛ لكنهم فى الأوقات المِفصَليَّة يصطفُّون على إيقاع بندقيَّةٍ واحدة؛ بينما نستهلكُ كلامًا كثيرًا عن الثوابت المُشتركة والأُصول الجامعة، ونختصمُ بعضنا بأكثر ممَّا يفعل فينا الآخرون. أرادت «حماس» على روايتها أن تُخلِّص القضيَّةَ من أدران أوسلو، فشطرتها نصفين بالجشع والانقسام، وسعت بالطوفان لإحيائها بعد جمودٍ طويل؛ فتسبَّبت فى إعانة القاتل على السباحة فى بحرٍ من الدم. وإزاء الفُرقة المُستحكمة فى أرض فلسطين، فإننا مُغرمون بأحاديث الشقاق والتنازع بين الإسرائيليين؛ حتى أننا نُصدِّقُ أنَّ خلافًا عميقًا يتضخَّمُ بين الساسة والجنرالات، وأنَّ نتنياهو يتلاسَنُ مع وزير دفاعه وتابعه الحزبىِّ يوآف جالانت، وتمضى الأمورُ فى مسارها دون توتُّرات، يقولُ الأوَّلُ ويُنفِّذُ الثانى، ونرتاح إلى أنَّ فى الحظيرة صقورًا وحمائم، بينما كان الجنرال داعيًا بعد الطوفان لهجمةٍ استباقيَّة على جنوب لبنان ويُعارضها اليوم، وزعيم الليكود أحبطَها فى السابق ويدفعُ نحوَها الآن. ومع احتمال أنَّ مصارين البطن قد تتعاركُ فعلاً؛ فمن المُحتَمَل أيضًا أنها تتشاركُ رقصةً استعراضيًّة خداعيّة، تتبدَّلُ فيها المواقف والخيارات، ولا تختلف المآلاتُ طالما أنها على الموجة نفسها. إنهم يتقاسمون الأدوارَ بالطريقة التى يحتاجُها الفلسطينيون ويعجزون عنها، وفى النهاية يبرزون فى الميدان على موعدٍ واحدٍ وأجندةٍ جامعة، وتُؤكَلُ بقرةُ حماس؛ بعدما فَرِحَت فى السابق بالفُرجة على افتراس ثور السلطة الأبيض.


فى قصَّةٍ شهيرة، يُحكَى أنَّ قرويًّا اشتكى للحاخام من ضِيق أحواله؛ فنصحَه بشراء خنزيرٍ ليُشاركه الغرفةَ الضيِّقة مع الزوجة وسبعة أبناء، ولمَّا ساءت الأوضاعُ وعاد مُتأفِّفًا، أمرَه بأن يبيعه، وقد أحسَّ الرجلُ بالانفراجة، رغم أنه ما أحدث شيئًا إلَّا العودة لحياته القديمة بضغوطها. والصهاينة يفعلون هذا بالفلسطينيين يوميًّا، فكانت «حماس» مَخرجًا لهم من الاختناق السياسى مع السلطة، و«جَزُّ العُشب» بديلاً عن الحرب الشاملة، ومحورا فيلادلفيا ونتساريم مَطلبًا يغنى عن فكِّ أَسر القطاع وعودة الأمور لما قبل الطوفان. وفى هكذا حال؛ فليس من الحصافة أن تُفتَحَ المساراتُ للاحتلال ليُكرِّر لعبتَه، ولا أن تُجاريه الفصائل فى اختلاق ضغوطٍ جديدة، يصير الرجوع عن بعضها القليل مكسبًا مُرضيًا؛ بل ربما يُساقُ على صورة النصر. إنَّ الزمنَ ليس تمرينًا على الجرى فى المكان، والتاريخ من النظرة الماركسية قد يُعيد نفسه فعلاً؛ لكنه لو كان مأساةً فى البدء فإنه يصيرُ مهزلةً فى الإعادة، وما يحدثُ أنَّ الفلسطينيين عاينوا جانبَه المُظلم فى النكبة الأُولى، وما تلاها أقربُ إلى المهازل؛ إذ يُكرِّرُ الجانى ألاعيبَه، ويُكرِّرُ الضحايا إخفاقاتهم.. وليس القصدُ إطلاقًا أن نلوم على من تقطَّعت بهم السُّبل وضاقت عليهم الخيارات؛ إنما الوقفةُ مع النفس بقَدرٍ من التجرُّد والمسؤولية، والاعتراف بأنَّ ما أثبت خطأه فى الماضى قد لا يُناسِبُ المُقبلَ، وما ارتبكت به المسيرةُ النضالية قد لا تقوم عليه دعائمُ التحرُّر المأمول.


المُعضلةُ ليست فى فارق القوَّة على اتِّساعه، ولا فى انحياز النظام الدولىِّ على غشومته؛ إنما فى أنَّ القضيةَ ما تزال تتعثَّرُ فى خُطاها الأُولى، ولا تقفُ على تحديدٍ دقيق لنفسها من زاويةٍ موضوعية ناضجة، تعرفُ أنها مُنازَعةٌ وطنيَّةٌ تخصُّ أهلَها بالأساس، ويجبُ ألَّا تُحمَلَ على ما يتخطَّى حدود فلسطين، مهما كانت إغراءاتُه فى القوَّة أو القداسة. والصهاينةُ إذ يعرفون ذواتهم جيِّدًا، وتعرَّفوا لخُصومِهم من قُربٍ؛ فإنهم لا يطلبون شيئًا قدرَ أن تظلَّ الفصائلُ تائهةً، والمفاهيمُ غائمةً ومُتداخلةً فى أذهانها. وإذا كان الحاضرُ ينتصرُ للأقوياء؛ فالتاريخُ بدوره لا يحترمُ إلَّا من يُوقِّرونه ويستوعبون خُلاصاته، وإن عادوا إليه فلأجل الاستكشاف والتبصُّر وتقويم المسارات؛ لا لغرامٍ بالإقامة الدائمة خارج الواقع، أو افتتانٍ بتكرار التجارب الفاشلة، وإخلاصٍ مازوخىٍّ للبكاء على الأطلال.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة