مأساةُ سنةٍ كاملةٍ فى غزَّة، لم تتجاوز بضعَ دقائق فى المُلاكمة الكلامية بين ترامب وكامالا هاريس. فالمُناظرة الأُولى، وربما الأخيرة أيضًا، بين المُرشَّحَيْن للانتخابات الرئاسية، أكَّدت البديهيات التى يستسهلُ البعضُ الانصرافَ عنها، وأهمّها أنَّ قضايا العالم على سخونتِها لا تشغلُ العقلَ الأمريكىَّ فى مواسم استحقاقاته الداخلية، وأنَّ الضميرَ الأبيضَ واحدٌ فى ثوابته؛ حتى لدى المُلوَّنين والأقلّيات، ويستهلكُ التناقُضَ بارتياحٍ يُحسَد عليه. اختلفَ الغريمان فى كلِّ شىءٍ تقريبًا؛ إلَّا الرقص على إيقاع السرديَّة الصهيونية، والتفرقة الفَجَّة بين الدم فى أوكرانيا وفلسطين، وعندما يتَّصل الأمرُ بإسرائيل؛ لا يعود المُحافظون أخلاقيِّين ولا الديمقراطيِّون تقدُّميِّين، وتتآكلُ فروقُ الأيديولوجيا لدرجة تشى بأنهما يقرآن من ورقةٍ واحدة. وهذا مِمَّا لا جديدَ فيه للواعين بدروس التاريخ؛ إنما يفرضُ على الرومانسيين فى داخل الولايات المُتَّحدة وخارجها، أن يتواضعوا قليلاً فى افتراضاتهم الحالمة، وأن يُعيدوا النظر لديكتاتور الكوكب من زاويةٍ صائبة.
من مزايا الديمقراطيَّة أنها تُجدِّدُ الوجوهَ والخطابات؛ إنما السلبىُّ فيها ما تسمحُ به من تعميةٍ للمواقف، وسرقة الوقت، وإعادة تكرار الألاعيب القديمة على صورةٍ تبدو مُغايرةً لسابقاتها. ومنذ اعترفَتْ واشنطن بالدولة العِبريَّة بعد دقائق من إعلانها، يأتى كلُّ رئيسٍ بأجندةٍ لا تختلف عن سَلَفِه، فيُبشِّرُ بالحوار والسلام وفقَ مُقارباتٍ عاقلة، ثمَّ ينقلُ رُزمةَ الأوراق بتمَامِها إلى وافدٍ جديد. وعليه؛ فإنك لن تعدَمَ العبارات نفسَها فى الخُطَب والمُناظرات الرئاسيَّة من كيندى ونيكسون وكارتر حتى بايدن وترامب وهاريس. وقد لا يختلفُ الأمرُ على الصعيد الداخلىِّ، إذ يتبادَلُ الرؤساءُ القضايا دون حَسمٍ أو تصفية، وتتجدَّد النزاعاتُ ذاتُها على فترةٍ من الزمن، وكثيرًا ما تتشابه الانحيازات رغم فجوات الأيديولوجيا. كأنَّ الديمقراطيَّةَ فى طَبعتِها الأمريكيَّةِ المَقسومةٍ على اثنين حصرًا، تلعبُ دورًا تضلِيليًّا مقصودًا، وتقفُ فيها قوَّةٌ غامضةٌ وراء ستارٍ رمادىٍّ ثقيل، تسحَبُ دُميَةً وتُقدِّمُ غيرَها؛ كُلَّما توجَّسَت من افتضاح اللعبة، أو استشعرت الحاجة لكَسر مسار الانكشاف.
لم تُغيِّر المُناظرةُ شيئًا فى عناصر المشهد القائم؛ حتى لو أفرطَ الإعلامُ الأزرقُ، أو المُنقلِبُ على احمرارِه، فى اتِّخاذها رافعةً لتعويم القارب المُتهالك وإغراق الباخرة العتيقة. ما تزالُ الحظوظُ على حالها، والمُؤشِّراتُ مُتذَبذِبةً، والجُملةُ الانتخابيَّةُ شديدةَ الركاكة عمَّا كانت عليه فى أىٍّ من محطَّاتها الماضية. الرجلُ صاحبُ التجربة البائسة يسعى لتكرارها، والسيدةُ الشريكةُ فى إخفاقات «العجوز جو» استُدعِيَتْ لتكونَ وسيلةَ الدولةِ الغاطسةِ لإبقاء الصورةِ على ثباتِها القاتل. أمَّا النزاعُ فى قضايا الهجرة والاقتصاد والإجهاض؛ فإنه تعبئةٌ روتينيّة للمجال العام بسوابق الكلام، وفى الغالب لن يُفضِى إلى تغييراتٍ حقيقيَّةٍ فى الثوابت الراسخة، فضلاً على أنه لا يمتدُّ أصلاً، وتحت أىِّ ظرفٍ، لمُساءَلة ميكانيزمات عَمَل الدولة وتراتُبيَّة مُؤسَّساتها، والعوار الظاهر فى سياساتها، وآليَّة بناء السُّلطة وتجديدها. إنها أسوأُ نُسخةٍ مُمكنةٍ من العمل الجماهيرى، حينما يُضمِرُ خلافَ ما يُصرِّحُ، ويُدَارُ بتسلُّطٍ نخبوىٍّ ومُؤسَّسىٍّ ظاهرٍ، ولا يكونُ الجمهورُ فيه أكثرَ من بيدقٍ على رقعة شطرنج، يُساقُ دَومًا لتمرير الرداءة من جيلٍ إلى جيل، وخداع القاعدة الشعبيَّةٍ العريضة مرَّتين: الأُولى بدعايات الحُرّية، والثانية بمُمارسات الإذعان.
بُنِى النظامُ السياسىُّ الأمريكىُّ على قاعدةٍ أوليجاركيَّةٍ واضحة، وما يزالُ مُشتغلاً بها إلى الآن. العامّةُ حاضرون بقوّة فى الترشُّح والتصويت؛ إنما القرارُ النهائىُّ يُؤخَذُ استباقًا فى معاقلِ النُّخبة المُهيمنة. تطوَّرت أدواتُ التسلُّطِ بمُزاوجةٍ ناعمةٍ بين الديمقراطية التمثيليَّة والأوتوقراطية الاحتكارية؛ فحلَّ المالُ والمصالحُ والاعتباراتُ الأمنيَّةُ بديلاً عن شرعيّة العِرق أو الحقِّ الإلهى، وهكذا تعملُ المنظومةُ من أسفل إلى أعلى. لكلِّ مُواطنٍ الحقُّ فى خَوض التجربة؛ لكنه مُجبَرٌ على الاختيار بين قناتين، والرضوخ لحسابات التمويل وتقاطُعاته العديدة بين السياسة والاقتصاد. أُطِيْحَ بالآلاف لأنهم لم يحترموا قواعدَ اللعبة، والانتخاباتُ الرئاسيَّةُ الجاريةُ فيها آخرون لا يُسمَعُ عنهم أصلاً. اللوبى اليهودىُّ أنفق مُؤخَّرًا نحو عشرين مليون دولار على الانتخابات التمهيدية لإحدى دوائر الكونجرس؛ من أجل إسقاط مُرشَّحٍ ديمقراطىٍّ يُناهِضُ سياسات الحكومة اليمينيَّة المُتطرِّفة فى إسرائيل. أمَّا النتائجُ فتكاد تُعرَف مُسبقًا؛ ما ينفى أيّة أوهام عن ديناميكيَّة الساحة واحتكامها لقواعد المُنافسة العادلة.
يُفتَرَضُ أنَّ ترامب وهاريس يتسابقان على امتداد خمسين ولاية، بالإضافة إلى مُقاطعة واشنطن. وواقعُ الحال أنَّ مصيرَهما يتعلَّق على عِدّة ولاياتٍ مُتأرجحة، تكونُ ثلاثًا فى بعض الدورات وتصلُ إلى سَبعٍ كما هى اليوم. والمعنى؛ أنَّ بقيّة الخريطة مُلوَّنةٌ بالأزرق أو الأحمر، ويُنَحَّى عشراتُ الملايين عمليًّا لصالح مئات الآلاف من الأصوات الحاسمة. ما يجعلُها انتخاباتٍ بين خيارين مَفروضين من قمَّة الهَرم، وفى نطاق هامشٍ جُغرافىٍّ وسُكّانىٍّ لا يتجاوزُ 10 % من إجمالى البلد. وبالنظر إلى أنَّ حسبةَ المُتردِّدين غالبًا ما تخصُّ نسبةً ضئيلة من الولايات المُعلَّقة؛ باعتبار أنَّ جانبًا كبيرًا منها يصطبغُ باللونين نَفسَيْهما، فالخُلاصةُ أنَّ الطريقَ إلى البيت الأبيض تمُرُّ من قناةٍ فرعيّةٍ ضَيِّقةٍ جدًّا، ولا يُمكن افتراض أنها تُعبِّر عن العشرة ملايين كيلو مترٍ مُربَّع، بما عليها من بشرٍ وحجرٍ وتنوُّعٍ فى الثقافة والهُويَّات.
ربَّما لاعتباراتِ التوازُن فى فيدراليَّةٍ استُولِدَتْ قسرًا بعد حربٍ أهليَّةٍ عارمة، أو لرغبةٍ فى تثبيت الزمنِ وتجميد القواعد السياسية بمعَزلٍ عن حركيّة الديموغرافيا وتقلُّباتها، أُرسِيَت الصيغةُ الانتخابيَّةُ بما يسمحُ بأقصى قدرٍ مُمكنٍ من تقارُب الأوزان النسبيَّة للولايات. وكان من نتاجِ ذلك تحييد الثِقَل البشرىِّ المُباشر، وإزاحة الإرادةِ الفرديَّة لصالح الاختزال فى تقنية «المُجمَّع الانتخابىِّ». هكذا يُمكن أن يربحَ مُرشَّحٌ فى التصويت العام ويخسرَ فى الحصيلة الأخيرة للسباق، ما حدثَ بالفعل فى تجاربَ عديدةٍ؛ لعلَّ آخرها نسخة 2016 بين ترامب وهيلارى كلينتون. لا قيمةَ للمُواطن المُفرَد هُنا خارجَ فلسفة القطيع، وقد تُهدَرُ الأغلبيَّةُ الحقيقيَّةُ لأنَّ إرادةَ النظام انصرفَتْ إلى الاكتفاء عن الأصيل بالوكيل، وتقزيم القرار الحُرِّ لصالح الوصاية والقَولَبة. صحيحٌ أنَّ المندوبين مُلزَمُون باقتفاء أثر التصويت العام؛ إنما قد تقعُ الاستثناءاتُ أحيانًا، وفى كلِّ الأحوال لا يُنظَرُ للأمريكيين بوَصفِهم شعبًا واحدًا على امتداد الدولة؛ إنما باعتبارِهم دويلاتٍ تتخلَّقُ التوازنات من خلالها بآليَّةٍ ثابتة، وهى شِبهُ محسومةٍ دائمًا؛ اللهم إلَّا الهامش المَتروك ليُمارِسَ فيه الوكلاءُ لُعبة التخيير فى الإجبار، أو «الحرية المُكبَّلَة» بمعنىً آخر.
بعيدًا من الرؤية الشخصية؛ فربما يكون ترامب أول اختراق للطوق المُحكَم. من جانبى لا أُعوِّل عليه فيما يخص مصالحنا فى الشرق الأوسط، ولا حتى ما يتّصل بحال الولايات المتحدة وإصلاح عوارها؛ إنما أُقرّ واقعًا وأحاول استقراء السياقات. جاء الرجل من خارج المنظومة السياسية أصلا، وعبرها بالذراع وقوّة الشعبوية والصخب فى ولايته الأولى، على غير هوىً من عقل الدولة ودولابها الصلب، وبتحدٍّ غشوم مع البيئة الإعلامية المُهندسة وفق الاعتبارات نفسها. وذهابه إلى تكرار التجربة؛ إنما يُجدِّدُ مأساة النظام العتيد مع التجرّؤ على اختراق قواعده، والحطّ من مكانتها السامية، وتأكيد أن الشارع يُمكن أن يتفجّر خارج القنوات المرسومة له، ويحمل بديلاً لم تُنتجه المؤسسات ولا ارتضت له الصعود. وفى الجولة الثانية تبدو الموجة الرافضة أكثر وضوحًا؛ حتى أن الطيف الأحمر نفسه يكاد ينقلب عليه؛ باستثناء ما جرى خلال المؤتمر الجمهورى قبل أسابيع، عندما اضطُرّوا بحُكم الضرورة أن يُمالئوه، أو ينضووا تحت عباءته حتى لا يتفسَّخ البيت بدرجة تُعَثِّر التئامه لاحقًا.
فى مُناظرتِه الأٌولى بدا القيِّمون عليها مُنحازين بوضوح؛ ولولا هشاشة بايدن ما تدفَّق الماء فى قناة ترامب. وفى ليل الثلاثاء؛ صِيغَت الأسئلةُ بالكيفية نفسها، وبينما وُضِع الرئيسُ السابقُ أمام امتحاناتٍ حادَّة اللهجة فى موقفه من حرب أوكرانيا، وحديثه عن لون هاريس وعِرقِها، وميولِه المُحافظة بشأن قضية الإجهاض؛ فإنَّ نائبة الرئيس أُخِذَت باللين والمُلاطفة، ولم تُمتَحَن فى مسؤوليتها عن إخفاقات الإدارة القائمة، ولا وُظِّف مَوقفُها من نتنياهو مثلما حدث لمُنافسها فى استثارته باسم بوتين. وحتى فى التحليلات اللاحقة؛ انصرفَ أغلبُ المُعلِّقين إلى أنَّ السيدة التقدُّمية تفوَّقت على الرجل الشعبوىِّ، وأحسنت تقديمَ نفسها لجمهورٍ لا يَعرفُها، وظهرت على صورة الشخص المسؤول، وتحدَّثت كما لو أنها رئيسٌ فى السلطة يسعى لتجديد ولايته؛ بينما الآخرُ هو الآتى من خارج المشهد؛ مُرتبكًا وعاريًا من الرؤية وأدوات الإقناع. والحال أنَّ ما سِيْقَ لقراءةِ المُناظرة لم يكُن دقيقًا تماما، ولم يخلُ من تلوينٍ وتحريف، ومساعٍ ظاهرةٍ إلى استنطاق الدقائق بما يفوقُها حجمًا وأثرًا؛ لا لشىءٍ إلَّا أن أمريكا الرسميَّة تُدافِعُ عن وجودها، وقد صار مرهونًا فى وَعيها العميق بإزاحة ترامب؛ بغَضّ النظر أصلاً عن هُويّة البديل.
فى الشواهد البصرية؛ بدَتْ هاريس فعلاً أكثر إقدامًا على المُقابلة. ذهبَتْ إلى ترامب وبادرت بمُصافحته، ولم تتوقَّف طوالَ الحوار عن النظر إليه، ومُخاطبته بالعين واللسان، واستطلاع ملامحه وانفعالاته، وتقديم مُعادلٍ بصرىٍّ ساخر لحديثه. أمَّا من جانبه؛ فلم تنحرِفْ عيناهُ إليها مُطلَقًا، ولا ذكرَها بالاسم ولو مرّةً واحدة. يُمكِنُ أن يُحمَلَ ذلك على معنى الثقة والصلابة فيها، والضعف والانسحاب فيه؛ إنما لو أنصفنا فذلك من الابتسار والتسطيح، ما لم يكُن لدافعِ الانحياز والتوجيه؛ بغرض الاستمالة العاطفية والتأثير على المراكز. ما أراده الرئيسُ السابقُ أن يتجاهل نائبةَ خلفِه العجوز، وأن يربطَها به ربطًا مُباشرًا؛ فكان يتحدَّثُ عن بايدن أغلبَ الوقت ويُلحِقُها عليه بضمير الغائب، كما أرادَ أن يُسرِّب إشارةً ضِمنيّة عن عدم التكافؤ، وأنه لا يراها مُنافسًا حقيقيًّا أو كاملَ الأهلية؛ كأنه يعتبرُها نائبًا عن مشروعٍ مُضادٍّ، بأكثر ممَّا تُمثِّل نفسَها باستحقاقٍ وإرادة خالصة. لعلّ هذا لا يكون مُثمرًا مع النخبة وأهل السياسة والإعلام؛ لكنه فى النهاية يُخاطِبُ قاعدتَه الشعبية التى تُلاقيه على تلك المفاهيم، وتمتلئ بالشوفينية البيضاء، وتقبّلته باستعلائه وفوران خطابه، وقد يخسرها لو تراجع عنهما إلى مُقاربةٍ يُحبُّها المُهندَمون من مُحلِّلى الاستوديوهات وصُحف النخبة الحاكمة.
استجابت هاريس لنصيحة هيلارى كلينتون، وبادرت بالتصويب على ترامب منذ اللحظة الأُولى، بدءًا باستباق حديثه بالطعن، وأنه لن يكون أكثرَ من حشدٍ للأكاذيب، مرورًا بقضايا الإجهاض والضرائب والبطالة وروسيا ومُفاوضاته مع حركة طالبان. ومن جانبه فقد سمع على الأرجح نصائحَ مُستشاريه، ولم يُمارس التنمُّرَ والسخرية من لونِ مُنافسته أو جنسها. والمُناظرةُ فى حالتها الإجمالية كانت تعادُليّةً فى أحسن الظروف؛ إذ لم يتورَّط الرئيسُ السابقُ فى مآخذ كبيرةٍ يُمكِنُ أن تُحسَب عليه أمام جمهوره، أو تُقلِّص حظوظَه من استمالة المُتردِّدين والذين لم يحسموا خيارَهم بعد، كما لم تفلح نائبةُ الرئيس الحالى فى فصل نفسِها عنه بالكامل، ولا الإفلات من واقع أنها شريكٌ فى المسؤولية عن سياسات الإدارة الديمقراطية، وقد لا يكفى الكلام فحسب لإقناع الناس بأنَّ ما شاركت فى صناعته من مكتبٍ جانبىٍّ، ستكون قادرةً على إصلاحه من المكتب البيضاوى.
مسألةُ الهجرة تُمثِّلُ ورقة الجمهوريين الثمينة؛ لذا لم يُفرِّط فيها ترامب، وكلَّما غادرَها كان يعودُ إليها مُجدَّدًا. وبينما سعت هاريس لتوظيف ملف التعريفات الضريبية ضدّه؛ فإنه أحرجها بالإشارة إلى أن ما أقرّه من ضرائب على الصين ما يزال معمولاً به، وبهذا فإنه لو كان إيجابيًّا فالفضل يُنسَبُ له، ولو كان سلبيًّا فالإدارةُ الديمقراطية مُقصّرةٌ بالسكوت عليه. أمَّا القضية الفلسطينية فقد صَوَّب من قناتها باتِّهام منافسته بكراهية إسرائيل، وبأنها امتنعت عن لقاء نتنياهو فى زيارة الكونجرس، ومن جانبها ردَّت بأنها تدعم تل أبيب، ومن ثوابتها أن تظلَّ متفوّقةً وقادرةً على رَدع خصومها، مع تجديد إشارة «حقّ الدفاع عن النفس»، وتِرداد الدعايات التى سقط فيها بايدن سابقًا، بشأن اغتصاب النساء فى عملية «طوفان الأقصى». وفى تلك النقطة فربما لا يكون خطابُها مُرضِيًا للتقدُّميِّين والشباب من قاعدتها الحزبية، كما للعرب والمُسلمين وبعض الأقلّيات، وبالدرجة نفسها فإنه يستثيرُ حفيظةَ اللوبى اليهودى؛ لحديثها عن الانتهاكات الإنسانية ومَرجعيّة «حلّ الدولتين».
حتى الآن تبدو الفروقُ طفيفةً؛ فبعيدًا من الولايات المُلوَّنة والمحسومة كالعادة، لا يتجاوز تقدُّم هاريس فى بعض البقيّة المُتأرجِحَة مستوى النقطة أو النقطتين، ويتقدَّمُ عليها ترامب فى بعضها بالمُعدَّل نفسه، وهو ما يقعُ فى نطاق هامش الخطأ الحسابىِّ لاستطلاعات الرأى، كما لم يترشَّح بعد المُناظرة ما يُشيرُ لتغيُّر المُعادلة. وفى تلك النقطة؛ فإنَّ المجالَ لا يخلو من شُبهة الحشد والتوجيه، وقد حدث سابقًا أنْ نَشَطَتْ المراكزُ ووسائل الإعلام لصالح هيلارى كلينتون، وصوّرت السباقَ محسومًا بفارقٍ عريض؛ وخسرت فى النهاية، رغم الدعم الهادر، أمام حسابٍ شخصىٍّ لمنافسها على منصّة تويتر. وإذا كانت سنواتُ الارتباك الأخيرة فى الولايات المتحدة كشفَتْ شيئًا؛ فإنّه ما يخصُّ هندسةَ العملية الانتخابية من الألف إلى الياء، وشراكة النخبة السياسية والإعلامية ورؤوس المال والمُؤسَّسات الصلبة فى تعبيد الطريق إلى البيت الأبيض، وحينما يُطلُّ على المشهد وافدٌ جديد من خارج المسرح المُخطَّط بعناية، تتداخلُ المعانى وترتبكُ الحسابات، وتأخذُ الحالةُ صِفَةَ الاستيلاد القهرى على طريقة جمهوريات الموز.
يعلو ضمير هاريس مع أوكرانيا ويخفُت فى غزة، وترامب لا يختلف كثيرًا فى الجوهر؛ وإن تمايز فى نوعية قضاياه الخِلافيَّة. لم تعُد الهالةُ الضميرية وضّاءةً ولامعة مثلما كانت سابقًا، وقد تآكلَ الرصيدُ الأخلاقى للولايات المتحدة من تكرار سقطاتها، ومن إحلال طبقةٍ سياسيَّةٍ رديئةٍ بديلاً عن اللاعبين الكبار ومُحترفى المُراوغة قديمًا، ما سرَّعَ من نزع الغطاء وكَشْفِ الانحطاط. وأهمُّ ما فى المناظرة أنها فضحت مدى الرداءة الذى وصلته السياسةُ الأمريكية، وأنَّ خزّانها يخلو من الكفاءات الحقيقية؛ ربما لأنَّ الجادين يتجاوزون اللعبةَ المرسومةَ بخطوطٍ حادة، ولا يُفكِّرون فى صعود المسرح، أو لا تُفتَحُ لهم أبوابُه من الأساس. ما رآه الناسُ إقدامًا من «كامالا» وصلنى على معنى التوتُّر وعدم الثقة فى النفس، وما قد يُرَى تعاليًا من ترامب قرأته استخفافًا من سياسىٍّ ردىء بمُنافسين أكثرَ رداءة، ورهانًا على أن الشارع يتزحزح فى اتِّجاهٍ غير ما رُسِمَ له طوالَ تاريخه. كلاهما سيكون خنجرًا فى خاصرة فلسطين والمنطقة، وكلاهما لن يحرِفَ خُطَى الولايات المتحدة عن مسارها المُستقبلىِّ باتجاه مزيدٍ من التردّى والانكشاف، وبقدر ما تتكشّف من المُمارسة خِفَّةُ الدعايات القِيَميَّة لبلدٍ كان عظيمًا فى يومٍ ما؛ فإنهم يُقدّمون خِدمةً جليلة لمن يسعون لتجاوز التنميط والتلفيقات البرَّاقة، ورؤية الغول الأمريكى الجارح على حقيقته المُؤسفة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة