تبدأ رحلة الكتاب الثالث من سلسلة "عن العشق والسفر" للكاتبة المبدعة المهندسة نهى عودة، والصادرعن دار "كتوبيا للنشر والتوزيع" الرائعة هذا العام (2024)، بفتح أبواب المدن المضيئة على مصاريعها، حيث تنقلنا الكاتبة إلى عالم يتجاوز حدود التصور والإدراك. تأخذنا في جولة سحرية عبر الزمن والجغرافيا، تقودنا إلى أماكن تمزج بين النور والظلام، بين الحب والكراهية. تبدأ الكاتبة بوصف باريس، مدينة النور، التي تظهر في عالم يحيط به الظلام، وكأنها جزيرة من الأمل وسط محيط من الكآبة. تستحضر ذكرياتها لتكشف لنا عن التباين العميق بين الحقب الزمنية التي عاشتها باريس، حيث تجسد المدينة رمزًا للحب والرومانسية، ولكن في نفس الوقت كانت تشهد كراهية واضطرابات تملأ العالم المحيط بها.
تستعرض الكاتبة ببراعة تناقضات الحياة في هذه المدينة، وتضعنا في مواجهة مع الأسئلة الكبرى التي تثيرها تلك التناقضات. فهي لا تكتفي بوصف باريس الحاضرة، بل تنقلنا عبر العصور، فتأخذنا في رحلة زمنية عبر الحقب المختلفة، كاشفة لنا عن تغير ملامح المدينة مع مرور الزمن. بين الأزمنة والوقائع، تفتح لنا الكاتبة أبوابًا نادرة التحقيق، لتأخذنا في رحلة تأملية عميقة تجمع بين الماضي والحاضر. باريس ليست فقط مدينة الحب في هذه السلسلة، بل هي أيضًا مرآة تعكس مشاعر الإنسان المتضاربة، وتبرز كيف يمكن أن تتعايش المشاعر المتناقضة في مكان واحد.
تبدأ الكاتبة بمشاركة أمنيات طفولتها العذبة، مستحضرة لحظات بريئة كانت تتأمل فيها النجوم وهي تحمل بين ضلوعها أحلامًا وردية تراود خيالها. تلك الأحلام التي بدت بعيدة المنال في ذلك الحين، تروي لنا الكاتبة كيف تحققت بفضل الحب الذي زرعته في قلبها والوفاء الذي التزمت به طوال رحلتها. بحديث مفعم بالحنين، تصف لنا الدروب التي سارت فيها، من شوارع العشاق التي كانت مليئة بالحب والرومانسية، إلى أبراج الشياطين التي خاضت فيها مواجهات مع قوى خفية حاولت إعاقة مسارها.
تبني الكاتبة معنا رحلة مليئة بالمفاجآت، فكل منعطف كان يحمل درسًا، وكل طريق كان ينبض بالتحديات التي لم تكن سهلة. لكنها استمرت في المضي قدمًا، مشدودة إلى هدفها بفضل قوة الحب والإيمان. تأخذنا في رحلة تحبس الأنفاس، حيث نبحر معها في دهاليز غامضة تحتوي على شبح عبقري، ربما يرمز إلى عقبات نفسية أو عقلية واجهتها في مسيرتها. تُبرز لنا أيضًا شجاعة مذهلة في مواجهة الرعب الذي يختبئ في الشوارع الخلفية، تلك الأماكن المظلمة التي تحمل أسرارًا خفية ورعبًا داخليًا. تستمر الكاتبة في استعراض قدرتها على تحدي المجهول، ومع كل خطوة تُشعرنا بأنها تقترب أكثر من تحقيق ذاتها، متسلحة بالحب والوفاء كمفتاحي نجاحها في الحياة.
تسرد لنا الكاتبة تفاصيل دقيقة ومفعمة بالحياة عن مدينة النور، باريس، وكأنها تفتح نافذة تطل منها على تاريخ هذه المدينة الساحرة عبر العصور. تأخذنا في رحلة عبر الزمن، نستعرض من خلالها أحداثًا تاريخية حاسمة، بدءًا من المعارك الدامية التي شكلت معالم المدينة، إلى التحولات الثقافية الكبرى التي ساهمت في تطورها لتصبح رمزًا للفن والعلم والفكر.
تمشي الكاتبة بنا في أروقة المتاحف والمعارض التي تحتضن بين جدرانها كنوزًا لا تقدر بثمن من العالم القديم، حيث نرى أمامنا الآثار المصرية واليونانية والرومانية وقد جمعتها فرنسا عبر القرون. لكن الكاتبة لا تتوقف عند جمال هذه الكنوز فقط، بل تكشف لنا بحس نقدي عن التأثيرات السلبية للسرقات التاريخية التي ساهمت في انتقال هذه القطع من بلدانها الأصلية إلى المتاحف الأوروبية. تطرح تساؤلات حول تأثير هذه التحولات على التراث العالمي وكيف أن هذه السرقات ليست مجرد عمليات نقل للآثار، بل هي جزء من تاريخ معقد مليء بالصراع والهيمنة.
بمهارة، تشرح الكاتبة الروابط التي تشكلت بين الشرق والغرب من خلال هذا الانتقال القسري للآثار، مشيرة إلى أن هذه الروابط ليست فقط اقتصادية أو سياسية، بل هي أيضًا ثقافية ومعرفية. توضح كيف أن الفن والآثار التي وصلت إلى باريس أصبحت رموزًا للتفاعل الحضاري بين الشرق والغرب، لكنها في نفس الوقت تُذكّرنا بماضي من النهب والاستغلال الذي أثر على الهويات الثقافية للأمم التي فقدت تلك الكنوز.
تتعمق الكاتبة في التفاصيل المعمارية والتاريخية لباريس، بدءًا من الشانزليزيه وقوس النصر، مرورًا بنهر السين وبرج إيفل. تسرد بتفاصيل دقيقة عن الرموز والمعاني الكامنة وراء المعالم السياحية، وتدمج بين الأساطير والخرافات، مما يجعل الكتاب قراءة ممتعة وغنية بالمعلومات.
تستعرض الكاتبة بعين ثاقبة المسلة المصرية الشهيرة التي تزين ميدان الكونكورد في قلب باريس، وتبرز بفخر كبير حجم التراث الثقافي الذي تحمله هذه القطعة الأثرية المصرية القديمة. من خلال وصفها، تعكس الكاتبة مشاعر مختلطة تتراوح بين الفخر الذي يشعر به الفرنسيون تجاه هذه الأثر العظيم، وبين الغيرة التي تتسلل إلى قلب من يدرك أن هذه المسلة كانت في يوم من الأيام جزءًا من حضارة عريقة على ضفاف النيل.
تستدعي الكاتبة تاريخ المسلة، التي تم نقلها من معبد الأقصر إلى باريس في القرن التاسع عشر، وتوضح التباين الكبير بين التقدير الفرنسي لأهمية هذه القطعة الأثرية، وبين مكانتها الأصلية في مصر، حيث كانت تزين المعابد وتحمل رموزًا دينية وحضارية لأجداد المصريين القدماء. تتناول الكاتبة بشيء من الأسى، كيف أن هذه الآثار التي كانت تشكل جزءًا أساسيًا من الهوية الثقافية المصرية أصبحت الآن جزءًا من الهوية الفرنسية، حيث تجذب ملايين السياح والزوار من جميع أنحاء العالم.
ترى الكاتبة أن المتاحف والكنوز في فرنسا، مثل اللوفر وغيرها، تلعب دورًا مهمًا في تكوين الهوية الثقافية الفرنسية، وتستمر هذه الآثار في إثارة الإعجاب والدهشة. لكنها لا تغفل عن التذكير بأن هذه الآثار، على الرغم من دورها في تعزيز الفخر الوطني الفرنسي، تحمل معها ذاكرة ماضٍ من النهب والاستيلاء، وتظل تمثل رموزًا حية للصراعات الثقافية والتاريخية بين الدول.
تشير الكاتبة إلى جوانب مظلمة من التاريخ، مثل الانتهاكات الثقافية، وتسلط الضوء على العلاقات المعقدة بين الأمم. تتناول الكاتبة موضوعات اجتماعية وثقافية بشكل عميق، حيث تجمع بين الرواية التاريخية والرحلات الشخصية، مما يضيف عمقًا إلى سردها.
تختم الكاتبة رحلتها بتأكيد على أهمية الأحلام والإيمان بقدرتها على تحقيق الأمنيات، حيث تسعى إلى إلهام القراء لتحقيق أهدافهم والطموحات. تعكس الكاتبة تفاعلاتها مع باريس من خلال العدسة الشخصية والبحثية، مما يجعل الكتاب مرجعًا ثريًا في مجال أدب الرحلات.
يُعد الكتاب تجربة قراءة غنية ومؤثرة بحق، إذ يمزج ببراعة بين عناصر الرومانسية والتاريخ والثقافة في نسيج أدبي يأخذ القارئ في رحلة ساحرة عبر الزمن والأماكن. تُقدم لنا "بلورة الأمنيات" عالمًا متعدد الأبعاد حيث تتداخل فيه العواطف مع الأحداث التاريخية، لتجعل من كل صفحة نافذة على عالم مليء بالحب والألم، الأمل والتحدي. من خلال هذا العمل، لا يعيش القارئ مجرد قصة واحدة، بل يجد نفسه متنقلاً بين حقب تاريخية مختلفة ومدن بعيدة تحمل معها عبق الماضي وتفاصيل الحاضر.
تستدعي الكاتبة ببراعة تخلق أجواء رومانسية فيها شخصياتها إلى أماكن مليئة بالسحر والتفاصيل الثقافية الغنية. كل مكان تزوره الشخصيات يبدو وكأنه يروي قصته الخاصة، سواء كان ذلك من خلال شوارع باريس المليئة بالتاريخ أو الأزقة الضيقة في مدن الشرق القديمة. ووسط هذا التنقل المكاني والزمني، يبقى عنصر الرومانسية هو الرابط الذي يوحد تلك العوالم المختلفة، ليضفي على القصة لمسة من السحر والجمال.
تتخطى الرواية الحدود الزمنية والجغرافية، إذ تجعلنا نرى العالم من خلال أعين الشخصيات ونشعر بما يشعرون به، ونتعرف على تلك اللحظات الفاصلة التي تترك أثرًا عميقًا في حياتهم. بفضل ذلك التمازج المميز بين التاريخ والرومانسية والثقافة، يمكن القول إن "بلورة الأمنيات" هو عمل أدبي فريد من نوعه، قادر على التأثير في وجدان القارئ، وترك بصمة لا تنسى في ذهنه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة