نزورُ التاريخَ أو يزورنا للعظة والاعتبار، وفى إحياء ذكرى ميلاد النبىِّ وسيرته من الدروس ما يكفى للإضاءة على كثيرٍ من مُربكات الحاضر. لقد كانت الدعوة فى سياقها الاجتماعى انقلابًا كاملاً على بيئتها الحاضنة، وصدامًا مع أوضاع مُستقرّة ومصالح اقتصادية وتوازنات قبائليّة حَرِجة، وما عبرتْ الامتحانات إلَّا بالإدارة الرشيدة، والإرادة العاقلة، والوعى العميق بالظروف والسياقات. وجوهرُ الحكاية أنَّ التحولات الشاملة لا تحدثُ عفوًا، ولا تُؤخَذُ بالأمانى بدلاً من الاجتهاد فى العمل. وأنك حتى لو كُنتَ مُؤيَّدًا من السماء؛ ستظلّ فى حاجة إلى التماس شروط الأرض، واجتناب الركون إلى إيمانك بعدالة القضية ومَوعدة النصر. لم يكُن عَصيًّا على الله أن يُجرى قضاءه بالقانون المُطلَق «كُن فيكون»؛ لكنّه أراد للتجربة أن تُنضِجَ نفسَها، وأن تتعثَّر بين إنجازٍ وإخفاق؛ حتى يشتدَّ عُودُها وتمتلكَ زمامَ أمرِها، وتصيرَ قادرةً على الحياة بمُفردها بعدما ينقطعُ المَدَدُ الإلهىُّ، ويُقبَضُ حاملُ اللواء من بين صحابته؛ تاركًا الدراما لصراعاتها البشرية الكاملة، دون عصمةٍ لشخص أو قداسةٍ لقرار.
بُعِثَ محمد فى بيئةٍ تعرفُه ويعرفُها. لم يكُن محلَّ شَكٍّ فيها ولا عَلَقَتْ بثوبه نقيصة؛ لكنه بعدما أعلن رسالتَه صار على النقيض تمامًا من كلِّ ما وُصِفَ به سابقًا. الأقربون الذين عرفوه صادقًا أمينًا رموه بالكذب والتضليل، والعائلةُ وضعت مصالحَها فوقَ رباط القبيلة والدم والثقة فى ابنها البار، وصار على المُؤمن أن يُنافحَ عن قضيَّته عاريًا من كلِّ شىءٍ؛ إلَّا إيمانه وحُسن تصرُّفه. لقد بدأت سيرته مع عداوة البيئة اللصيقة، قبل أن يختبرَ عداءَ المُختلفين فى الدين والعِرق والهُويَّة الثقافية، وما تيسَّر الذيوعُ لدعوته، وأن تملأ الآفاق؛ إلَّا بعدما اجتذبَ العقولَ وألَّف الأرواحَ والقلوب، وجعل من أعدائه الأَوَّلِين جنودًا فى كتيبة المُبشِّرين. لعلَّهم انطلقوا جميعًا من إيمانٍ راسخ، أو كان بينهم من طَوَّعته الأحوالُ وحرّكته الأطماع، وآخى فى وعيه بين قوّة الفكرة وتطلُّعات القبيلة؛ المهمُّ أنَّ الانطلاق كان تاليًا لتوحيد الجبهة، وأنَّ صعوبات الخارج على كثرتها وتعقيداتها، لم تكُن مانعًا من الانتشار والازدهار؛ لأنَّ الداخل الذى كان هشًّا صار حصينًا، وانقلب من عاملِ إضعافٍ إلى أداة دَعمٍ وتمكين.
بحثَ الإسلامُ من بدايته عن فكرة الأُلفة والاتحاد؛ فكان حصيفًا فى سياسة الناس باللين والترغيب، ودقيقًا فى تدرُّجه التشريعى الساعى لتأهيل النفوس لا ترهيبها، وحريصًا على ألَّا يهدمَ السابقَ عليه دفعةً واحدة. هكذا أخذَهم من أخلاق البداوة برفقٍ، وأبقى على بعض مُكتسباتهم القديمة، وسعى للخروج على بعضِها ببطءٍ واعتدال. ويطولُ الكلامُ فى هذا من حُكم الخمر والإبقاء على الرقِّ وملك اليمين، إلى التسامح النسبى مع القَبَلِيَّة؛ لتُطلَّ سريعًا من السقيفة قبل أن يبرُدَ جُثمان الرسول، ثمَّ فى الفتنة الكبرى وما تلاها حتى الدولة العثمانية. والقصدُ هنا ليس النبش فى الماضى، ولا نكأ الجروح القديمة؛ إنما النظر فى المداخل التى مكّنت للدين من زاوية البشر، دون إغفالِ طابعِه الرسالىِّ المُقدَّس طبعًا. وسيرةُ الرسول مفتاحٌ لاستقراء سيرة الدولة نفسها، وتقويم أيَّة تجربةٍ شبيهة أو تدَّعى التشبُّه بها، من زاوية المُواءمة بين التطلُّعات والإمكانات، والاستجابة العاقلة للحوادث بمَنطقِها، وفى ضوء التوازنات القائمة، مع العمل على تغييرها وصولاً إلى المأمول لها، دون صداماتٍ حارقة أو انتكاساتٍ عنيفة.
أكثرُ المحتاجين لالتماس الحكاية النبوية هُم المنكوبون فى فلسطين؛ لا لأنهم يُطابقون السيرةَ الأُولى فيما يخصُّ الولادة فى بيئةٍ مُعادية، أو أنهم يَدعُون لمُعتَقَدٍ جديد يصدمُ وعى المُحيطين ويستنفر مشاعرهم؛ إنما لخَوضِهم صراعًا شبيهًا أو معكوسًا لما خاضته الدعوةُ سابقًا. لقد مرَّت الدولةُ الإسلامية فى بادئ رحلتها من قناة الارتحال وصراعات الهُويَّة والاعتقاد، وخاضت جولةً خَشِنَة مع اليهودية الحاضرة وقتَها فى شبه الجزيرة. كانت حكايةُ الرسول معهم فى يثرب مليئةً بالمكر والخيانة والخداع، واصطبرَ على ألاعيبهم سنواتٍ قبل أن يُعمِلَ فيهم قرارَه السياسىَّ، لا الدينى. تعرَّض للاستهداف ومُحاولة الاغتيال مرَّتين، وعقد معهم صُلحًا ونقضوه، ولم يُبادر بإنفاذ رؤيته التطهيرية لحظيرة الإيمان/ عاصمة الدولة الجديدة؛ إلَّا بعدما امتلك أمرين أساسِيَّين: الحجّة عليهم كمواطنين خالفوا ضوابط الصالح العام، والقُدرة الكاملة على تصفية النزاع دون رواسب أو آثار جانبية، وبما لا يُكبِّدُ القضيَّةَ، بشِقَّيها الوطنى والعقيدى، تكاليف أكبر، لناحية ائتلافهم مع الأعداء أو قُدرتهم على تشتيت الخطاب الجامع.
دخلَ النبىُّ على المدينة وفيها اليهود، وبعدما استحالت المُساكنةُ بينهما كان ضروريًّا أن يرحلَ أحدُ الطرفين. من جانبهم؛ سعوا إلى تمكين الخصوم منه، على أمل أن ينتصروا بسيوف غيرهم، وبدورِه عاقبَهم على الجناية السياسية، لا على اختلاف زاوية الرؤية للسماء. وإن نظرَ الفلسطينيون للقصَّة من جِهة المسلمين؛ فإنهم مُلزَمون بالاشتباك مع السياسىِّ لا الدينى، وإعداد العُدَّة لما يبغونه قبل أن يسعوا إليه عمليًّا، أمَّا إذا رأوها على وجهٍ مقلوب؛ باعتبارهم الأسبقَ فى الأرض، ودخلَ عليهم الصهاينةُ بفكرتهم مثلما فَرَّ القُرَشِيّون بدينِهم سابقًا؛ فالالتزام هُنا يقعُ فى نطاق احترام شروط اللعبة، والبُعد عن توفير الذرائع للآخر المُناوئ، وفى كلا الأمرين ما استوعبَ القابضون على القرار الفلسطينى دروسَ السيرة، ولا عملوا بحقِّها فى الفهم والاعتبار.
لقد تأسَّست القضيَّةُ من أوَّلها على مُرتكَزٍ ثقافىٍّ وجيوسياسىٍّ، ورغم بدائيَّته فإنه كان أقربَ للصواب ممَّا صُيِّرَت النظرةُ إليه لاحقًا. اعتبر العربُ أنهم أصحابُ حَقٍّ فى فلسطين بالتاريخ والواقع، بينما استحضر العدوُّ سرديَّةً مُخَلَّقةً من التوراة والأزمان الغابرة، وفى هذا يسهُلُ استشراف الغَلَبة لرواية الجغرافيا والبشر الحاضرين؛ ولو طال الزمن. لكنَّ النكبةَ الأُولى فى زمن التأسيس الإسرائيلى، ثمَّ تَوَالِى الضربات من العدوان الثلاثىِّ لنكسة يونيو، ثم أيلول الأسود وحصار بيروت، كسرت الشَّقفَةَ العربية التى تساندت عليها أحوالُ المنطقة المائلةُ، وفكَّكَت الدعاوى القوميَّة؛ بعدما انكشف أنها تزدهرُ على المنابر بينما تتعفَّنُ جذورُها فى التراب. وعلى قسوة الاصطدام بسقوط الخطابات الكبرى؛ كان يتعيَّنُ أن يذهب الإقليمُ لصياغةٍ وطنيَّة جديدة، تتجاوزُ غرامَ الدعايات وفتنةَ المشاعر اللاهبة؛ لكنْ ما حدث كان على العكس تمامًا، مع انصراف العقل العروبىِّ المهزوم لصيغةٍ لا تقلُّ بدائيَّة، وهكذا انفجرت موجةُ الصحوة وتشكَّلت حظائرُ رجعيَّةٌ من مادة الدين، بديلاً لتقدُّميَّة اليسار القومى، أو ما كان يظنُّ أصحابُها أنها تنويعةٌ على التقدُّميّة.
عندما هُزِمَ المُسلمون فى «غزوة أُحد» ما شكَّكوا فى الراية التى حاربوا تحتها، ولا ارتدّوا على أعقابهم إلى القَبَلِيَّة المَقيتة. الهزائمُ يُمكن أن تكون رافعةً لو أُحسِنَ استغلالُها؛ شريطةَ أن يُنظَرَ للمسألة بعقلٍ بارد، وأن يكون المَعنىُّ بها قادرًا على المُراجعة والتصويب. أمَّا ما جرى فى هزائمنا الحديثة؛ أنَّ العاطفةَ تغلَّبت على العقل، وأخذ الماضَويِّون بزمام المستقبل، بعدما داهمَتْهم إخفاقاتُ الحاضر. وهكذا كانت العودةُ إلى السرديَّة الدينية فى فلسطين دليلاً على الأزمة الحضارية؛ لا صورةً من الأصالة واستلهام القِيَم التأسيسية للمنطقة فى مرحلةِ فَورتها، لا سيَّما أنَّ تجربةَ الدولة الدينية انقلبت مُلكًا عائليًّا، أو امبراطوريَّاتٍ أُوتوقراطيَّةً تتناسَلُ من بعضها، وإذا كانت البدايةُ فيها من القوَّة لم تعصِمْها مَغَبَّةَ الانحدار والاضمحلال؛ فإنَّ إطلاقَها من نقطة الضعف لا يُمكن أن يقودَ لشىءٍ أصلاً، أو على الأكثر سيكونُ دوَّامةً من إنتاج المآسى دون وُصولٍ إلى الحلقة المُضيئة.
عندما أبرمَ الرسولُ «صُلحَ الحديبية» كان واعيًا بالواقع ومُتجاوبًا مع ضغوطه، ولم تكُن المسألةُ محلَّ ترحيبٍ من بعض الدائرة القريبة؛ حتى ليُورَد أنَّ علىَّ بن أبى طالب، بكلِّ عقله وثبات عقيدته، كان بين المُعترضين، لا سيَّما وفى بعض الشروط إجحافٌ واضح، كأن يُنَصّ على إعادة المُسلمين لمن أتاهم مُؤمنًا من أهلِ مكَّة. وإذا كانت الثِّقةُ والتسليم بوَّابةَ النبى لتمرير الأمر؛ فالمعنى أنه كان خيارَ السياسة مُؤيَّدًا بالقداسة، أو سُلطةَ الزمان التى يحوزُها الحاكم، مدعومةً بسُّلطة الروح التى لا تتأتَّى إلَّا لمبعوثٍ سماوىٍّ. والعِبرةُ هنا ليست فى القول إنه يعلَمُ وهُم لا يعلمون، ولا فى التمسُّك بالشِّقّ الظاهر عن إطلاقيَّة قرار الحاكم؛ بل فى حقيقة أنَّ الانحناء للريح كثيرًا ما يكون الخيارَ الصائب، وإذا أجراه الله على نَبيِّه دون اضطرارٍ؛ فليست مَنقصةً ولا قِلَّةَ إيمانٍ أن يُجرِيَه المُؤمنون على ذواتهم؛ فتتقدَّم المقاصدُ على الرغائب، أو الاستراتيجيات على التكتيك بلُغة عصرِنا، وهذا مِمَّا يعصمُ من الحروب الصِّفريَّة، ولا يجعلُ الخسارةَ الكاملة قدرًا مَحتومًا.
قال المُرشِدُ الإيرانىُّ مُؤخّرًا إنه لا ضيرَ فى التراجُع التكتيكىِّ أمام العدوّ؛ طالما بقيت الثوابت الاستراتيجية على حالها. وقبل أن يُصرَّح بقَوله طَبَّقته عاصمةُ الشيعيَّةِ المُسلَّحةِ عَمليًّا؛ فتخلَّت على ما يبدو عن خُطَطِها السابقة للثأر من قَتَلة إسماعيل هنيَّة فى قلب طهران، وتلويح قادتها العسكريِّين بأنها ستكون عمليَّةً مُؤلمةً وواسعة المدى. والحال أنهم يتَثَبَّتون دَفعًا للمَضَرَّة وجَلبًا للمنفعة؛ بعدما ورَّطوا الفصائلَ الفلسطينية فى حربٍ تفوقُ طاقتها، وتتجاوزُ مصالحَ القضيَّة الوَقتيَّة إلى نزيفٍ لن تتوقَّف تداعياتُه فى المستقبل. وما رأته رؤوسُ المُمانعةُ لم يبرق على الشاشات لدى ذيولها؛ فما زال الحزبُ فى مُقامرته على أطراف الجنوب؛ ما قدَّم شيئًا لغزَّة ولا وَفَّر لبنان من الاحتمالات السوداء، والحماسيِّون فى القطاع تقدَّموا قبل أن يرسموا مسارَ العودة؛ فما عادوا قادرين على صيانة مُكتسبات الطوفان، ولا أبعدوا حاضنتهم الشعبية عن موجاته الارتدادية الثقيلة. وإذ يحتفلون جميعًا بذكرى المَولد النبوىِّ، زاعمين أنهم أقربُ صِلَةً بالرسول وأكثر تمثُّلاً لتجربته؛ فالغالب أنهم ما قرأوا سيرتَه على الوجه السليم، وإن فعلوا فلم يُجنِّبوها مزالقَ التفسير المُلوَّن بالتَّمَذهُب والتطييف.
برزتْ مُنظَّمة التحرير من رحم القومية؛ لكنها تجاوزتها بالتجربة والخطأ، وتوصّلت لسبيكةٍ وطنية لا تُخاصمُ مُحيطَها، ولا تُزايدُ عليه أو تتعثَّر فى انقساماته. أنجزتْ أُمورًا وأخفقت فى أمور؛ وكانت فى احتياجٍ للنظر والتطوير من داخلها؛ لا إزاحتها أو الانقلاب عليها. وما أحدثته «حماس» فى انقلابها بعد رحيل عرفات، أنها شرخت السبيكةَ لتعزلَ السياسىَّ فيها عن الدينى؛ ثمَّ تتَّخذ من الأخير رافعةً لمشروعٍ فِئوى يتقاطعُ مع الخارج بأكثر ممَّا يشتبكُ بالداخل. وبعيدًا من باعثها لذلك، وهل أسَّست مشروعَها على النصِّ والتراث وسَرديَّة «الوَقف الإسلامى»؛ طمعًا فى العاطفة الشعبوية المُتأجِّجة تجاه كلّ ما هو عقائدى، أو اختصامًا لأنظمةٍ وسُلطاتٍ سياسيَّة سَعَت للحداثة ولو بصورةٍ مُشوَّهة؛ فالحال أنها دخلت فى الصدام مع التركيبة السياسية السائدة، وبالمنطق فلا سبيلَ للرجعيّة إلى اختصامِها إلَّا من الخاصرة الهشّة، بأن تُؤمَّمَ القضيَّةُ لصالح الإسلاميين؛ ثمّ تكون فاصلاً بين الكُفر والإيمان؛ وعليه يصيرُ كلُّ من لا يُجاريها جاحدًا أو مُقصّرًا، وكلُّ ما تأتيه مُبارَكًا ومعصومًا؛ ولو قَسَّم البلاد والعباد، وأراقَ الدمَ دون منفعةٍ للحركة أو الوطن.
كان الفرزُ فى زمن النبىِّ على صِفةً كُلّية، مُسلمين وغير مسلمين. والخصومُ اليهود منحوا العصمةَ لأنفسِهم وألحقوه وأُمَّتَه على الجوييم/ الأغيار. أمَّا الفرزُ الذى أحدثَه الإخوان وتيّار الصحوة، وجرت «حماس» على إيقاعهم فيه؛ فإنه يُعمِلُ أدواتَه فى البيت نفسه، فيُمكِّن للعدوِّ أن يُرسِّخ سرديَّته فى مقابل أُصوليَّةٍ مُعادية؛ ثمَّ يُلاقيه بجبهةٍ مُنقسمةٍ ومُشَتّتة. والحال أننا صِرنا أُممًا لا رباطَ بينها؛ مهما تشدَّدنا فى ادّعاء الاتفاق فى الأُصول والاختلاف على الفروع، وهكذا تتسلّحُ الصهيونيَّةُ بتوراةٍ واحدةٍ وأُسطورة جامعة، وتدخلُ فلسطين فى النزاع بجسدٍ مريضٍ وأفئدةٍ شَتّى. فثَمّة إسلامٌ سُنّىٌّ على مذهب البنّا، وآخر بنكهةٍ سلفيَّةٍ حنبلية، وثالثٌ مُتشَيَّع، ورابعٌ شيعىٌّ بكامله، وكلُّها لها تصوّراتٌ مُتباينةٌ فى المُشتَرَك الروحىِّ، وبطبيعة الحال تفترقُ فى زوايا النظر للقضيّة الوطنية، وما يُرادُ لفلسطين، أو يُراد منها وبها.. فليست الغاية تمكين الدين فى نزاع جغرافى سياسى؛ إنما استحلاب طيف واحدٍ منه لإعلاء فصيل على حساب آخر، أو الزج بالأرض ومَن عليها فى لعبة المناكفة الأيديولوجية؛ وهكذا تُصبح فلسطين موضوعًا للنزاع داخل الأسرة الوحدة؛ بأكثر من كونها خصومةً مع الجيران والأعداء.
لم ينظُرْ الرسولُ لمكّة من جانب العداء إطلاقًا؛ حتى عندما أُخرِج منها أو تتابعت عليه سهامُها. وعندما مكّنَه الله لم يُنكِّل بها على ما كان، ولا سمح للنار أن تبقى مُتّقدةً فى الصدور، وسعى مُنتصرًا إلى مُداواة الإحن بأكثر ممَّا سعى إليها المهزومون. وهذا ما فات الحركةَ فى بداية الشقاق، ويفوتُها إلى اليوم؛ بينما تُمسِكُ بتلابيب الاعتقاد والسيرة عنوانًا على رؤيتها للقضية وانخراطها فى معاركها. كأن دروس السيرة النبويّة عبرت على آذانها؛ فما أضاءت لها حاضرًا أو ماضيًا، ولا عصمتها من ارتباك المَسيرة. يصحُّ هذا فى الالتحاق بمحاور «فوق فلسطينية» كالشيعية المُسلَّحة، وفى اختصام الأشقاء، ومُجافاة المحيط اللصيق، وفى المُغامرة على صورةٍ أقرب إلى إلقاء النفس فى التّهلكة؛ ثمَّ الانقطاع عن المُداولات الجادة والعاقلة لتشخيص العِلّة والتماس التشافى.. إحياء لذكرى المولد النبوى الشريف؛ يتعيّن أن نطلب السلامة للغزِّيين المنكوبين، وأن نتعشَّم فى زُوّار المنابر والمُغرمين باستدعاء دروس التاريخ، أن يُطابقوا الأفعالَ بالأقوال، وألَّا يُحمِّلوا القضيَّةَ وناسَها كُلفةَ ارتباكهم بين السياسى والدينى، والوقوف على ظاهر النص بافتتانٍ بالغ؛ بينما لا يلمسون من جوهره شيئًا.