حازم حسين

إدارة على طريقة الثور الهائج.. نظرية نتنياهو فى إثارة الغبار وخلط أوراق العدو والصديق

الأربعاء، 18 سبتمبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ينثرُ نتنياهو الغبارَ فى كلِّ اتجاه، وحينما يرسلُ وفدًا للتفاوض على الهُدنة؛ فإنه يكون بصدد التحضير لمرحلةٍ جديدة من الحرب، وإذا تشدَّد فى الحديث عن فيلادلفيا؛ فلعلَّه يتأهبُّ لفَردِ ذراعيه فى جنوب لبنان. إنها طريقتُه المُعتادة منذ صعوده للسلطة فى منتصف التسعينيات، يُضمِرُ عكسَ ما يُظهِر، ويقولُ شيئًا ليفعلَ نقيضَه، وتلك الآليَّةُ لا يُفعِّلُها مع خصومه الوجوديِّين فى فلسطين أو خارجها فحسب؛ بل أوَّل ما حقَّقها كان فى إسرائيل نفسها، ومع الحليف الأمريكى، وما زال مُصِرًّا عليها بعدما صنعت أُسطورتَه السياسية كأطول رؤساء الحكومات الإسرائيلية بقاءً فى المنصب، أو ما يتصوَّرُ أنها أُسطورةٌ تتهدَّدُها المخاطرُ الداخلية والخارجية، ويحقُّ له أن ينتهجَ كُلَّ السُّبل الكفيلة بتحصينها، ولو على حساب مصالح دولته الاستراتيجية، أو بالمُغامرة بما تبقَّى من صُورتها المُتداعية، وقد تآكل رصيدُها الأخلاقىُّ؛ حتى لدى الحاضنة الغربية، بأكثر ممَّا تضرَّرَ ميزانُ الرَّدع مع حماس ومحور المُمانعة فى طوفان الأقصى، وما تلاه من شهورِ استنزاف.

كان الليكودُ حاضرًا فى مُقدِّمات أوسلو. لقد ذهب إلى مدريد فى ولاية إسحاق شامير، ولعب نتنياهو دور المُتحدِّث عن الجانب الصهيونى فى الورشة التى أفضت إلى الاتِّفاق لاحقًا. وأيًّا كانت البواعث، أو تَمَنطَقَ الحديثُ عن نِيَّة المناورة والالتفاف؛ فلا يُمكن القفز على أنَّ الطريق إلى النرويج ثمَّ حديقة البيت الأبيض لاحقًا، مَرَّ أوّلاً من العاصمة الإسبانية. على هذا المعنى؛ لا يصحُّ توفير اليمين من مسؤولية الصفقة التى مَكَّنَت عرفات من الوقوف على تُراب الضفَّة الغربية، وأعادت مُنظَّمة التحرير وآلاف المُقاتلين والسياسيين للنضال من داخل وطنهم للمرَّة الأُولى. صحيحٌ أنَّ التوقيع الأخير كان باسم «رابين»؛ لكنه حملَ شيئًا من رائحة شامير وقبيلته. وهكذا كان الانقلاب الأوَّل للذئب، الذى صار عجوزًا اليومَ ولم يتَخَلّ عن لُعبته المُفضَّلة، فعندما سَعَّر الهجومَ على حزب العمل وقادته، كان يُجرِّبُ جولتَه الافتتاحيّة مع التناقض، ويُوطِّدُ لبراجماتيَّةٍ مَقيتةٍ ستُلازمه فيما تبقَّى من عُمره. أفضى التحريضُ إلى مَقتل رئيس الحكومة، فى حادثةٍ غريبة وصادمةٍ لبلدٍ تجاوز عقدَه الرابع بالكاد؛ فتسلَّم شيمون بيريز الرايةَ لشهور قليلة، بينما كان واضحًا أنَّ التُّفاحةَ تُوشِك على السقوط فى حِجْرِ من رَوَى شجرتَها بالدم.

نبتت بذرةُ «بيبى» فى حقلٍ من الشوك. الجدُّ حاخامٌ أُصولىٌّ يرى العالم من ثقوب السرديَّات التوراتيَّة بتلفيقها وغرائبيّتها، والأبُ دارسٌ للتاريخ سارَ على دربه فى الإيمان بجابوتنسكى وصهيونيَّته التصحيحية، أمَّا الشقيق الأكبر فكان ضابطًا غيرَ مُتَّزنٍ نفسيًّا، عُرِفَ باندفاعه وسادِيَّته قبل أن يُقتلَ بنيرانٍ صديقة فى عملية تحرير رهائن بمطار عنتيبى الأوغندى. كأنَّ العائلةَ كُلَّها من طيفٍ واحد، تتقلَّبُ بين عُنف النصِّ وعُنف السلاح، ولا تُرَى خارجَ الحَيِّز شديدِ الرَّجعِيَّة والتوحُّش من اليمين. والابنُ الثانى إذ وُهِبَ مَلَكَةَ الخطابة وحُسن القول؛ فإنها كانت سلاحَه المُكافئَ للتشدُّد لدى الحاخام، والكذبِ عند مُزَوِّر التاريخ، وفتنةِ القوَّة فى وعى المُقاتل. وإسرائيلُ منذ نشأتها، وربما فيما قبلها، لم تنحرفْ عن أدواتها الثلاثة: اللاهوتىِّ فيما يُمَكِّنُ لها لدى المسيحانيَّة الصهيونية، والنارِ كُلَّما توفَّرت مناخاتُ إشعالها، ونهبِ الوقت بالكلام والشعارات الرنَّانة فى فواصل المحطَّات بين الدينىِّ والعسكرى. وبالذِّهن والخلفيّة كان نتنياهو قادرًا على التقافُز بينها؛ كما لو أنه عتيدٌ فى الحظائر الثلاثة.

عاد الليكودُ للحكم بعد فاصلٍ قصير، لم تنجح بقيَّةُ تيَّارات اليمين فى استثماره أو إدامته؛ ولعلَّ نتنياهو لم يكُن بعيدًا من كواليس الخلاف بين يائير لابيد ونفتالى بينيت؛ حتى أنه خلفهما فى المنصب الأوَّلِ بعد أقل من ثمانية عشر شهرًا. لقد استثمرَ خبرتَه الطويلة على أحسن ما يكون، وبات معروفًا أنه ماهرٌ فى بناء التحالفات، وفى نقضِها أيضًا. وتلك المهارة لا تتوافر لخصومه جميعًا؛ لذا لم ينجحوا سابقًا فى تأمين بديلٍ طويلِ المدى عنه، مثلما يُخفقون فى إسقاطه اليومَ؛ رغم سقطاته غير الخافية على الجميع. تكفَّلت ضربةٌ ثقيلةٌ مثل أكتوبر 1973 بإخراج اليسار من السلطة، والتأسيس لحقبةٍ يمينيَّة لم تغِبْ ظلالُها عن خطاب حزب العمل نفسِه عندما عاد ثانيةً فى الثمانينيات وما بعدها. أمَّا «طوفان الأقصى» فلم يُحرِّك شعرةً فى رأس زعيم الليكود؛ بل ربما ساعده على تصليب ساقيه الخائرتين. كان يُواجهُ موجةً عاتيةً قبل الهجوم الحماسىِّ، أوشكت أن تُطيحَ إدارتَه وتنهى رحلتَه الطويلة فى عروق الدولة العبرية؛ لكنه الآن يتصرَّفُ كما لو أنه تجاوز مُنغِّصات الماضى، ولديه من الأريحيَّة ما يسمحُ بإملاء خطوطه العريضة على المستقبل.

أزمة الإصلاحات القضائية التى تفجَّرت سريعًا عقب عودته للحكومة أواخر العام قبل الماضى، سمحت بإبراز التناقُضات العميقة بين الشارع المُعبَّأ بالشكوك فى الدولة وثوابتها، والسلطةِ المحمولة على عمودٍ فَردانىٍّ له نكهةٌ امبراطورية، يتوهَّمُ صاحبُها نفسَه خاتمًا لسلسال «ملوك إسرائيل»، ونَبِيًّا لم تذكُره التوراةُ لفارق التوقيت فحسب. صُدِمَ وقتَها من حجم المعارضة؛ حتى داخل الليكود وبعض حُلفائه المُقرَّبين، وهاج المجالُ العام طالبًا الرجوعَ عن النزعة الشموليَّة أو النزول من كُرسىِّ الحُكم، وتمرَّدت قطاعاتٌ من المُؤسَّسة الأمنيَّة على الخدمة تحت لافتةٍ تُشَخصِنُ العامَ، وتسرِقُ الكيانَ لصالح الفرد. وكان وزيرُ دفاعه وربيبُه الحزبىُّ يوآف جالانت بين الرافضين، وبعدما عاقبَه بالإقالة وجدَ نفسَه مُضطرًّا للتقهقُر وإلغاء القرار، وبدا أنه غارقٌ فى البرِكة العِبريَّة المُوحِلة؛ إلَّا أن تأتيه موجةٌ عالية من خارجها، فتغسل الوحلَ وترفعُه فوقَ مستوى الغرق.

هكذا، ومن دون عاطفةٍ أو تبسيط، مَدَّ «السنوار» طوقَ النجاة لعدوِّه اللدود. لو سارت الأمورُ على ما كانت عليه؛ فربما لم ينحرف المسار عن خيارين: إطاحة حُكومة اليمين والذهاب لانتخاباتٍ مُبكِّرة، أو استفحال الشِّقاق بما يُقوِّضُ البيئةَ السياسية، ويخصمُ من طاقة الإجماع التى تلعبُ دور الحصن المنيع لإسرائيل. «الطوفان» أزاحَ الخلافات بعيدًا، ورَصَّص خصومَ نتنياهو خلفَه فى طابور الحرب الوجودية، وأعاد تفعيل مَلَكَاته فى التعمية والاحتيال، وتمرير الأفكار الحارقة من أضيق المنافذ المتاحة. وعلى طريقة الحُواةِ سارَ فى دربه لِمَا يُقاربُ السنة، يقترحُ الجنرالاتُ حربًا استباقيَّة على جنوب لبنان فيرفضها، ويرفضون اجتياحَ رفح فيأمر به، ويُقلِّلون من القيمة الاستراتيجية لمحور فيلادلفيا فيتشدَّد فى السيطرة عليه والبقاء فيه، وكلَّما طالبوا بصفقةٍ لاستعادة الأسرى والتقاط الأنفاس، أحدث ثُقبًا جديدًا فى أشرعة الوسطاء والضامنين، وابتدأ الحديث من نقطة الصفر.

يخوضُ نتنياهو الحربَ على شرطٍ واحد؛ أن يخرج منها أقوى ممَّا دخلَها. وكلُّ ما يُقال عن الأهداف الاستراتيجية والتكتيكية؛ إنما هو ستارٌ لتمرير الهدف المُطلَق. ويعرفُ بالضرورة أنَّ الشارع يُلاقيه بمشاعرَ مُتنازعةٍ؛ فإن كانوا يطلبون أسراهم صادقين، ويخشون أعباءَ الصراع المفتوح بتكاليفه الأمنية والاقتصادية؛ فإنهم راغبون بالقوَّة نفسِها فى إرهاب الخصوم واستعادة الرَّدع، وفى تثبيت هيمنتهم على الفضاء الفلسطينى ومَنْ فيه. ولعلَّه ينجحُ فى المُناورة دائمًا لأنَّ الجمهورَ يطلبُ شيئين مُتضادين تماما: الأمن الكامل والنصر الكاسح؛ ولو كان مُنصَرفًا بكامله إلى غايةٍ بعينها لأجبروه عليها. وزعيمُ الليكود من العَيِّنة التى تنكشفُ فى أوقات الدّعة، وتزدهرُ فى مناخات الفوضى. وعليه؛ فالسياقُ الراهنُ مِثالىٌّ تمامًا بالنسبة له، ويتوافقُ مع عقيدته وإمكاناته؛ لهذا يتحرَّكُ ويَفركُ كثيرًا بين الميدان والسياسية؛ ليُثيرَ الغُبارَ لا ليُنتِجَ تفاهُماتٍ مع محيطه أو الخارج، ووسيلته الدائمة أن يُربِكَ الحسابات بخَلط الأوراق، ويفتحَ الساحات على بعضها، ويستثمرَ فى إبراز الإرادات المُتعارضة لدى الجميع؛ بحيث لا يصطدمُ فى الأخير بمَوقفٍ مُوحَّدٍ أو تيَّارٍ جامع.

تعودُ جذورُ التجربة الجارية حاليًا إلى زمن الانقسام. فعندما رعى أطماع «حماس» وعزَّز سيطرتَها على القطاع؛ لم يتقصَّد عزلَها عن بقيَّة المجال الحيوىِّ للقضيَّة فى الضفَّة ومرافق والسلطة فحسب؛ بل أراد أن يُلحِقَها على حليفٍ خارجىٍّ له صِفَةٌ «فوق فلسطينية»، وأن يُقدِّمَ الأيديولوجىَّ على الوطنىِّ، ما يسمحُ لاحقًا لسرديَّة الأُمَّة اليهودية المُطَوَّقة بالنار أن تجدَ مكانًا على الطاولة. وعلى هذا المعنى؛ فإنَّ «حزب الله» لو تأخَّر عن افتتاح عملية «الإسناد والمُشاغلة» من الجنوب اللبنانى، فنتنياهو بنفسِه كان سيُبادر إليها؛ حتى تكتملَ الحَبكةُ المقصودة. إنها لُعبةُ إثارة الغُبار لحَرفِ الأنظار عن الساحة الحقيقية، وهى نفسها كانت دافعَه لتنشيط مسار «الإحباط الموضعى» أو الاغتيالات مُبكِّرًا، ثمَّ استهداف الأُصول الإيرانيَّة بشكلٍ مُباشر، وصولاً للضربة الكُبرى باستهداف مُجمَّعها القُنصلىِّ فى دمشق، وقد تحقَّقت غايتُه عندما ردَّت طهران فى «ليلة الصواريخ والمُسيَّرات» أواسطَ أبريل الماضى؛ فكانت الستارَ الجديدَ الذى جَدَّد التعاقُدَ مع الرُّعاة الغربيِّين، وفتحَ طريقَ قوات الاحتلال على رفح وفيلادلفيا.

يتحدَّثُ حسن نصر الله دائمًا كأنّه فاعلٌ كاملُ الإرادة؛ بينما هو فى واقعِ الأمرِ أقربُ إلى المفعول به. يُريدُ نتنياهو أن تظلَّ الجبهةُ اللبنانيَّةُ ساخنةً؛ لهذا لا يُبقيها تحت أسقُفِ الاشتباك المُتَّفَقِ عليها ضِمنيًّا. وعندما اغتال صالح العارورى فى قلب ضاحية بيروت الجنوبية أوائلَ العام؛ كان يستدرجُ الحزبَ لترقية إيقاع الحرب، وبعدما اصطدم بأنَّ الحمساوىَّ مهما كانت قيمتُه، لا يَعدُل الشيعىَّ فى المكانة وإغاظة الغريم، جَزَّ رقبة القيادة العسكرية الأرفع فؤاد شكر، ثمَّ تحرَّش برأس المحور كُلّه فى تصفية إسماعيل هنيَّة. وإذ أُدِيرَ ثأرُ الأوَّل بقدرٍ من التعقُّل، وانصرفت الجمهوريَّةُ الإسلامية عن طلبِ الفاقد من كرامتها مع الثانى، بدا كأنها استوعبتْ الدرسَ أو استجابت للضغوط الأمريكية، ولم يكُن لدى نتنياهو إلَّا أن يُعزِّزَ منسوبَ الاستعراض والحَطِّ من المكانة؛ فأطلق عمليَّةُ مُركَّبةً ضِدَّ مَعقلٍ حصين من معاقل الشيعيَّة المُسلَّحة، باستهداف مركز البحوث العسكرية فى «مصياف» قُربَ حماة السورية، ودمَّر مصنعًا للمُسيَّرات تحت الأرض بقَصفٍ جوى، ويإنزالٍ لعشرات من مُقاتلى النخبة، تردَّد أنهم قتلوا كل من طالوهم واصطحبوا ثلاثةَ أسرى، وطوَّقوا المُنشأةَ بالمُتفجِّرات حتى أحالوها خرابًا. وبقدر المنفعة من تحييد قاعدةٍ لوجستية ترفدُ الحزبَ بالسلاح والذخيرة؛ فإنَّ الطريقةَ الاستفزازيَّة لا يُقصَدُ منها إلَّا استنفار عاصمة المُمانعة، وسَحبها قسرًا لساحة الحرب.

لقد تخلَّى المحورُ عن شعار «وحدة الساحات» عمليًّا؛ لكنَّ نتنياهو حقَّقه فى المُمارسة اليوميَّة لحرب الطوفان، إنما على معنىً مُركَّب: توحيدها فى المُبتدأ وفَصلها فى المآلات. وهكذا يَنظرُ للجبهة الشماليَّة باعتبارها جُزءًا من المعركة المُباشرة على حماس، ويعزلُها تمامًا عن مُداولات الهُدنة المأمولة فى غزَّة. وإذ تتجَّهز الولاياتُ المُتّحدة لاقتراح صفقةٍ جديدة، ويتصوَّرُ الحزبُ أنَّ إبرامَها سينعكسُ عليه بالضرورة؛ فإنَّ ذئبَ الصهيونية العجوز حزمَ أمرَه على مُواصلة الحرب حتى تسقطَ تُفَّاحتُها فى صندوق الانتخابات الأمريكية، وإن اضطرَّ للرضوخ جنوبًا فإنّه مُستعدٌ للتصعيد شمالاً، وفيما بين مُتناقضاتِ الجبهات المُشتبكة والمُتداخلة، يخلقُ تناقُضاته الداخليَّة التى لا تُمكِّنُ للتهدئة مع الفلسطينيين، ولا تقطَعُ طريقَ الحرب مع اللبنانيين والإيرانيين.. إنها صورةٌ من الإدارة على طريقة «الثور الهائج»، يضربُ فى كلِّ الاتجاهات، ويُربِكُ الجميعَ بحركته اللاهثة واندفاعِه العنيف؛ فيَعمى العيونَ بالتراب ويشقُّ البطونَ بالقرون.

أحدثُ جولات إثارة الغبار تتأتَّى من تكثيف الحديث عن العمليَّة الوشيكة فى لبنان، ومُزاوجتها مع بالونات اختبارٍ تُشير لاقتراب رئيس الحكومة من إقالة وزير دفاعه، وأنه يخوض نقاشًا مع كُتلة حزب «أمل جديد» ليحلَّ رئيسُها بدلاً منه، أو يتولَّى حقيبةَ الخارجية؛ على أن يخلُفَ وزيرُها الحالى الجنرالَ جالانت فى موقعه. والمُفارقة أنَّ التقاربَ هُنا وصلَ لغريمه جدعون ساعر، الذى نافسَه سابقًا على قيادة الليكود، ثمَّ انشق عنه، وتحالف مع بينى جانتس. وإنجازُ تفاهُمٍ من هذا النوع معناهُ توجيه طعنةٍ قاسيةٍ لمُعارضيه فى معسكر الدولة وخارجه، وإعادة ترميم شبكته الليكوديَّة بالوافدين الجُدد، أو بتحفيز داعميه الذين أصابتهم الرخاوة، فضلاً على توجيه رسالةٍ خَشِنَة لحُلفائه من الحريديم والقُوى الاستيطانية التوراتيَّة. صحيحٌ أنَّ «ساعر» لا يملِكُ إلَّا أربعة مقاعد، وهى لا تكفى لتغطية مخاطر انشقاق بن جفير وسموتريتش بمقاعدِهما الأربعة عشر؛ إلَّا أنه يقولُ من ورائها إنه ليس مكتوفَ الأيدى ولا فاقدًا للخيارات، وبإمكانه تكرار تجربة الانفتاح وتوسعتها مع آخرين؛ ولو على شروطٍ أقلّ ممَّا يتمسَّكُ بها الآن. باختصار؛ يُترجِمُ الرجلُ براجماتيَّته المعروفةَ سُلوكًا عمليًّا، ويُلمِّحُ لمعارضيه بأنه يُمكن أن يذهب لتعقيدِ المشهد بكلِّ الصور، ولو من باب إرباك الجيش بإقالة قائده فى زمن الحرب، كما يقول لحلُفائه إنهم لو لم يُلاقوه على أجندته، فبإمكانه الانحراف عنها باتّجاه بُدلاءٍ، سيتنازل لهم بما يقلُّ كثيرًا عن تنازلاته للدائرة التوراتيَّة المُتطرِّفة.

بلغَتْ التركيبةُ مَبلغًا عظيمًا من التعقيد. حربُ غزَّة تراجعت وتيرتُها؛ لكنها لم تتوقَّف. الضِفَّة جاهزةٌ للاشتعال فى أىِّ وقت، وتفجيرُ الجبهة اللبنانية لا يحتاج سوى أن يرفعَ هاتفَه ليُصدِرَ الأمر. وباطمئنانه إلى «التراجُع التكتيكىِّ» من جانب طهران؛ فإنه قد يُغامر بمزيدٍ من التجرّؤ عليها والسعى لاستفزازها. والشارعُ يشتعلُ غضبًا ثمَّ ينطفئ، أمَّا المُعارضة فلا قُدرةَ لديها على تعطيل برنامجه النافذ، ولا الدفع لتغليب خيار الاحتكام للانتخابات. والائتلافُ مُتحَصِّنٌ بأربعةٍ وستّين مقعدًا، قد تزيد فى أيَّة لحظة إلى 68، ما يجعلُ استمالةَ أحد الوزيرين المتطرفين: المالية بتسلئيل سموتريتش والأمن القومى إيتمار بن غفير، تحييدًا للآخر بعدما تنتفى قُدرته على إسقاط الحكومة مُنفردًا. والإدارةُ الأمريكية لانَتْ له فى قُوَّتها، ولا أملَ فى تَصَلُّبها وقد دخلت حلقةَ الضعف، وصارت مَواقفُها حاكمةً لحظوظ مُرشَّحتها. وبينما ينظرُ الجميعُ إلى غزَّة باعتبارها النقطةَ الحَرِجَة التى أجَّجت النار، ويُمكن أن تُطفئها؛ فإنه تجاوزَ مسألةَ القطاع من حيث كونها عنوانًا وحيدًا على التصعيد أو التبريد، وباتت لديه منافذُ بديلةٌ لإبقاء المنطقة مُتوتِّرةً إلى أن يحينَ مَوعده مع جَنى المكاسب من كلِّ الساحات. إنْ فازت كامالا هاريس فستجد واقعًا عليها التعامُل معه بمادّته وظروفه، وإن تحقَّقت أُمنيتُه فى «ترامب» فسيُعيدُ وقتَها رسمَ الواقعِ نفسِه من جديد، وعلى هَواه بالكامل. لهذا لا يُنتَظَرُ منه أن يتخلَّى عن مَواطئ قدمِيه الحالية، ولا أنْ يتوقَّف عن إثارة الغُبار وخَلط الأوراق؛ ولهذا أيضًا قد يصحُّ القول إنَّ آمالَ الهُدنة تبدَّدت، أو تكاد، على الأقلِّ لأسابيع مُقبلة؛ حتى معرفة هويّة سيِّد البيت الأبيض الجديد، ولا قيمةَ لكُلِّ ما تُثيره واشنطن من دعاياتٍ عن أوراق مُحدَّثةٍ وضُغوطٍ أكثر جدّية، فقد نجحَ نتنياهو فى سرقة العقارب من ساعات الجميع، وطَوَى الملفَّ على خياراته المُعلَّقة منذ أوَّل الحرب، وما يزال ثورًا هائجًا لا يجدُ مَنْ يُروِّضه أو يُناطِحُه.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة