يُعرَفُ النموُّ بالأرقام؛ إنما لا تُعرَفُ التنمية إلَّا بالواقع، وقد خاضت مصرُ تجربةً قبل أكثر من عقدين، بلغت فيها المُؤشِّرات الكَميّة مستوىً عاليًا، وقال أصحابُها إنهم يُراهنون على أن تتساقط الثمار من أعلى لأدنى، ولم يحدث. والحال أنَّ أزماتنا معروفةٌ منذ عقود، وما تجرَّأ أحدٌ على توصيفها باللغة السليمة؛ إذ لا قيمةَ لأيَّة طفراتٍ يُمكنُ أن تُحقِّقها السوق، بينما يُحاربها الشارع بمُعدَّلات إنجابٍ مُنفلتة، وبالجهل والاتّكاليّة والانقسام على نفسه، وما تزالُ الدولةُ الستينيَّةُ قابعةً فى نقطةٍ عميقة من الوعى، بحيث لا يرى المواطنُ علاقتَه بها إلَّا من زاوية الإعالة الكاملة، وعلى شرطِ أن يكون مُسَيَّرًا فى معاشِه وتعليمه وتوظيفه ومَسكَنِه؛ ثمَّ يتحوّلُ لاحقًا إلى آلةٍ بيولوجية تضخُّ مزيدًا من البشر فى شرايين المجتمع المخنوقة بتعدادها، وبعيدًا من المُراوغة، وبلاغةِ الحديث عن ثقافة الزحام بوصفِها ثروةً وأصلاً من الأُصول؛ فالواقع أنَّ العالم تجاوزَ معيار الكُتلة الهادرة منذ تخطّيه لعصر التقاط الثمار، أو على الأقل عندما تحوّل من الزراعة إلى زمن الثورة الصناعية، وكلُّ ما تحتاجُه ألَّا تنكسر المُعادلةُ السكّانيةُ ليقلَّ نُموّها عن مُعدَّلات الإحلال؛ أمَّا ما يزيد عليها فإنه فائضٌ قد يُرهق ولا يُفيد، وقد لا يكون الكلامُ الشعبوىُّ فيه أكثرَ من ميدان للمُناكفة والابتزاز.
قوَّةُ العمل فى الولايات المُتَّحدة مثلاً تقتربُ من نصف السكان، وتتجاوز ذلك فى الصين، أمَّا فى مصر فإنها تقل عن الثُلثِ، والقصدُ هُنا أنَّ مُؤشِّر البطالة على أحواله الآمنة حاليًا، لا يعكسُ واقعًا مثاليًا بشأن تحويل طاقة العدد إلى طاقة عملٍ وإنتاج. اجتهدتْ الدولةُ لإتاحة الوظائف لطالبيها؛ لكنَّ قطاعًا غير قليلٍ من القادرين عليها لا يطلبونها، والمُعوِّقات هُنا اجتماعيَّةٌ وثقافيّة، وقد تتَّصل بواقع السوق وهيكله ومنظومة علاقاته. وعليه؛ فإننا بقدرٍ من التنمية البشرية الحقيقية؛ يُمكن أن نضيف للقوَّة الفعلية ما لا يقلُّ عن عشرين مليونًا آخرين، ومن ثمَّ تنتفى الحجّة فى مواصلة الإنتاج الكثيف للبشر؛ بدعوى أنهم يُمثِّلون احتياجًا حقيقيًّا لتوليد الدخل، أو استغلال الفرص الاقتصادية والتنموية التى تملكها الدولةُ، ويُمكن أن تُفعِّلَها لصالح مشروعٍ وطنىٍّ للنهوض والتحديث. هكذا تنبعُ الحاجةُ لفلسفةٍ جديدة فى نظرة الإدارة للمجتمع، وفى نظرة المجتمع لنفسه، ولكل فردٍ فيه؛ بحيث يكون الناسُ موضوعًا حقيقيًّا للبحث، والاشتغال على تساؤلات الحاضر وتطلُّعات المستقبل؛ فتتغيَّر المُعادلةُ من كُتلةٍ ضخمةٍ تزحف بمُحرّك واحد/ السلطة، إلى آلةٍ ديناميكيَّة يُحرِّكُها مجموعُ تروسها، وتفاعلاتها البينية المُنتجة.
المعنى الكامن وراء تعبير «بناء الإنسان» ليس جديدًا؛ لكنه استُحضِر بتلك الصياغة إلى واجهة الخطاب السياسى، وصار مُفردةً راسخةً فى أدبيَّات نظام الحُكم خلال السنوات الأخيرة، وبينما يحملُه البعضُ على الصورة الرعويّة القديمة؛ فالظاهر من حدود التوصيف والتوظيف أنَّ الذهنية الرسمية تأخذُه إلى مدارٍ آخر، وتضعُه فى سياقه الصحيح، بحيث يُنظَرُ إلى الفرد من زاويةٍ اقتصادية مُثمرة، فيكونُ مشروعًا وطنيًّا وموضوعًا للاستثمار، ومن مجموع هذه الاستثمارات الصغيرة تتخلَّق تركيبةٌ قادرةٌ على ابتعاث المجتمع من رمادِه القديم، وإعادة تفعيل إمكاناته الكامنة؛ بغرض الهيكلة الشاملة لمنظومة العلاقات فى المجال العام، وتحديث النظرة إلى الأُطُر الجامعة، والقِيَم المُشتركة، وكُلّها فواعلُ مُباشرةٌ فى الحالة المادية التى تحكمُ تلك البيئة وتُصيِّرها، بالاستجابة للمُثيرات المحيطة، أو باستحداث مُحفِّزاتٍ داخلية ناشئة عن الإدارك الجديد للهويّة، والحركة الدائبة لصيانتها وتحديثها. أى أنَّ المعنوى هُنا يُؤسِّس للمادىِّ ويقوده؛ لا العكس.
أُطلِقَت قبل يومين مبادرةٌ رئاسيَّةٌ جديدة، حضر تدشينها رئيسُ الوزراء ونائبُه للتنمية البشرية، ودلالة الاسم «بداية» تحمل معنى القطيعة مع سياقٍ قديم، أمَّا الشعار المُصاحب «بداية جديدة لبناء الإنسان»؛ فإنه لا ينظرُ لمسألة التنشئة بوصفِها عمليَّةً روتينيّة تتحقَّقُ من تلقاء نفسِها، ولا أنها متروكةٌ للظروف والمُصادفات، فكرةُ البناء تستدعى الوقوفَ على أرضٍ مُحدَّدة الأبعاد، وامتلاكَ مُخطّطٍ تفصيلىٍّ، والأهمّ أن يُعرَف السببُ وتتحدَّدَ الحاجاتُ، ثمَّ تتوافر المادةُ المناسبةُ لتلك الأهداف بحِسبة الكُلفة والجدوى. وليس المقصود بالطبع أن تَتَّخذَ الحالةُ بُعدًا تنميطيًّا، ولا أنَّ البشرَ مُتطابقون فى الحال والمآل والأدوار المطلوبة منهم؛ إنما أن تكون المساحةُ التى يتقاطعون فيها صالحةً للمُساكنة، وقادرةً على الاستيعاب والتكامل، ثمَّ يكون الانطلاقُ بعدها بحسبِ القُدرة والحاجة؛ وبما لا يخرجُ عن الكُلّيات التى تضمنُ التجانُسَ دائمًا، والعبورَ السهل بين النطاقات، وامتلاكَ السرديّة نفسِها عن الغلاف الجامع؛ مهما تمايزَتْ السرديَّاتُ الخاصّةُ عن الواقع والبيئة والذات.
حديثُ «مدبولى» فى احتفالية التدشين تضمَّنَ إشاراتٍ مُهمَّةً لفلسفة المبادرة، ومُستهدفاتها، وما يتَّصل منها مع بقيَّة المُبادرات النوعيّة الشبيهة. عرضَ الخطوطَ العريضة، وأنها ستكون منصَّةً جامعةً لجهود 30 جهةً رسميّة، وتُركِّزُ على المزايا والخدمات بطابعٍ شُمولىٍّ، لا يفرزُ فى الفئات ولا فى المُكوّنات، وكان أهمَّ ما أوردَه أنها بمثابة «عقدٍ اجتماعىٍّ جديد»، بينما أفاض وزيرُ الصحّة فى تناول الاستراتيجية ومسارات العمل، والبرامج الفرعية، والاهتمام بالشخصية الوطنية فى أبعادها الإجمالية، مع آليَّةِ إجراءٍ غير مركزية، ومُواكبةٍ عامَّة بالمُتابعة والرقابة والتقويم، وتقارير دورية تُرفَعُ لرئيس الجمهورية بالخطوات ومُعدَّلات التنفيذ. وطبيعةُ الحال؛ أنَّ خطَّةً بهذا الحجم لا يُمكِنُ إجمالُها فى حفلٍ، ولا التعرُّضُ لكلِّ تفاصيلها فى كلمةٍ عابرة؛ لكنَّ الملامحَ الأساسيَّةَ لخِطَابَى الحكومة أجمَلَت ما يُنتَظَرُ تفصيلُه فى المُمارسة العَمليَّة، ورسمت تصوُّرًا مُوجزًا لِمَا تُراهِنُ عليه فى رُؤيتها، وأساسُه كما أسلفنا أنه تُفارق نمطًا موروثًا استنفدَ أسباب البقاء، وتُرسِى معالمَ مرحلةٍ جديدة يُنظَرُ فيها للإنسان من زاويةٍ مُغايرة.
يبدو للوهلةِ الأُولى أنَّ «بداية» تتقاطعُ فى كثيرٍ من الأمور مع مُبادرة «حياة كريمة»؛ ربما لاشتغالهما على مصفوفةٍ شِبه مُتطابقة من الخدمات. أمَّا فى الجوهر فإنهما مُتباعدتان تمامًا فى المُنطلقات والغايات؛ إذ تتركَّزُ الثانيةُ على بيئةٍ اجتماعيَّةٍ بعينها، وتنصرفُ إلى المكان بوصفِه مدخلاً لتغيير واقع السكان، بينما المُبادرةُ الجديدة تتَّسع فى الجغرافيا، وتتجاوزها، وتتَّخذُ من الفرد موضوعًا للتنمية، ومُقدِّمةً لتحسين البيئة ذاتها. وأتصوَّرُ أنَّ هذا الفارق يحتاج للإبراز والتأكيد، وأن يكون واضحًا فى الخطاب والمُمارسة؛ بمعنى أن تعمل المُبادرتان معًا بمنطق تكاملىٍّ، بحيث لا تُغطِّى إحداهُما على الأُخرى، ولا ترتكنُ إليها فيما يتعيَّنُ عليها أن تُنجزَه بنفسها. وأن يكون راسخًا فى وعى المسؤولين قبل غيرهم، أنَّ «حياة كريمة» لها طابعٌ محدودٌ فى المساحة والزمن، بينما تُمثِّلُ «بداية» مشروعًا وطنيًّا مُمتدًّا، لا يُنتَظَرُ أن ينتهى فى فكرته وآثاره؛ ولو أنجَزَتْ الخطَّةُ أهدافَها العريضةَ، وذاب الاسمُ لاحقًا بعدما تنضبط المنظومةُ، وتتحوَّل التجربةُ إلى عقيدةٍ تسكنُ الشارعَ وتحكمُ العقلَ المُؤسَّسىَّ.
اشتغلتْ الدولةُ لعقودٍ طويلة بمنطق إدارة الفقر، وكان ذلك من جُملة أُمورٍ تسبَّبت فى تصدّع الشخصية الوطنية، وتعرُّضِها لاهتزازاتٍ عميقة طالت ركائزَها الاجتماعيَّةَ والثقافية، وانعكست على الهُويَّة، كما على تصوُّرِ المُواطن عن علاقته بالمجال العام. قدّمتْ الإدارةُ نفسَها أبًا أو راعيًا صالحًا؛ بدلاً من أن تكون نائبًا عن الجمهور ومُعينًا له فى تجاوز أزماته. وبأثر الأوضاع السيئة فيما قبل يوليو 1952، ثمَّ بِطَاقة الدَّفْع التى ولَّدَتْها ثورةُ الضبّاط الأحرار، وحالة الانتعاش التى لَمسَتها الفئاتُ المُتداعية فى زمن الملكية، أفلحت التجربةُ فى العبور بتناقضاتها لبُرهةٍ من الوقت؛ لكنَّ المآخذَ عليها بزغت مبكّرًا، ولم تكُن تحتاجُ إلَّا لعقلٍ بصيرٍ كى يلتقِطَها، ويتوقَّعَ مآلات المضىّ على الطريق بالآليَّة نفسِها. ولأسبابٍ عديدة؛ لعلَّ أبرزَها المُواءمة السياسية وشيوع نمطٍ من نفاق الشارع، بقيت الأوضاعُ على حالها، واستفحلت الأزماتُ حتى صارت كُلفةُ تجاوُزِها اليومَ، أضعافَ ما كانت عليه فى السبعينيَّات وما بعدها.
عُقدةُ الإصلاح الآنَ لا تنحصرُ فى تجفيف بِرَك الماضى، ولا إعادة تصويب الفلسفة الإدارية وإغلاق منافذ الهَدر القديمة؛ بل أصعبُ ما فيها أن يقتنعَ المُواطن بمركزيَّته العضويَّة فى أيّة رؤيةٍ إصلاحية، وأنَّ عليه أن يُصلِحَ نفسَه أوَّلاً؛ ثمَّ أن يُؤازر الدولة فى تقويم مسارها، بوصفها كيانًا اعتباريًا ينشأ أصلاً عن وجوده مع الآخرين. تقعُ المسؤوليّةُ هُنا على الجسم التنفيذىِّ فى أن يُوفِّر قاعدةً من المفاهيم المُحَدَّثة، وأن يُنشِّطَ روافعَه لأجل الوصول إلى نقطةٍ صالحة للانطلاق، بمعنى أن يحضر الاجتماعىُّ والإنسانىُّ جنبًا إلى جنبٍ مع الاقتصادىِّ والتنموىِّ، وفى سياق رُؤيةٍ مُتطوِّرةٍ لا تُغلِّبُ أحدَهما على الآخر، ولا تجعلُ العارضَ منهما دائمًا وبالوتيرة ذاتها. أى أن تضطلعَ أجهزةُ الدولة بمهمّة تحسين معيشة القطاعات الفقيرة، والسعى لتمكينها، مع تخليق كوابح تمنعُ الانتكاسات وتقطعُ طريقَ الوافدين الجُدد؛ أكان فى مسألة الانفجار السكّانى أم فى غيرها. وهذا ممَّا لا تُحقِّقُه الإجراءاتُ الحمائية وحدها، ولا النواهى فيما يخصُّ الدعمَ والمزايا الاجتماعية، وإن كانت كلّها ضروريَّةً ومطلوبة؛ إنما الاشتغالُ على ضبط الأفكار وتحفيز الوعى وإعادة صياغة الأبعاد الثقافية للشخصية، بحيث يتحوَّلُ البرنامجُ الجديد إلى قناعةٍ جماعيَّة، ويُحصِّنُها الأفرادُ بسُلوكِهم مثلما تتحصَّنُ بأدوات القانون والتنظيم، وبهذا يتحرَّكُ المجالُ العام بإيقاعٍ مُتجانس، حتى لو تفاوتت السرعةُ بين الرسمىِّ والشعبىِّ، أو بين فئةٍ وغيرها من الناس.
من الجيِّد أن تُركِّزَ «بداية» على احتياجات السكان، وتُوجِّه جانبًا كبيرًا من طاقتها إلى الخدمات وتحسين الواقع القائم؛ إنما يتوجَّبُ أن يظلَّ معنى «البناء» حاضرًا فى الواجهة، وحاكمًا للفكر والحركة. يصحُّ فى شأن المُبادرة أن نتداولَ فى أحوال الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية، وأن نبحث عن كلِّ السُّبل الكفيلة بتطويرها مرحليًّا؛ لكنَّ الأساس أن تظلَّ فلسفةُ التغيير ركنًا أصيلاً فى مُداورة الحاضر بحثًا عن المُستقبل. ويتطلَّبُ ذلك تفعيلاً كاملاً لإمكانات الدولة على كلِّ مستوياتها، الأهلىِّ قبل الرسمىِّ، والنخبوىِّ قبل الشعبىِّ. وهُنا قد نحتاجُ للنظر فى المنظومة التعليمية بكاملها، وفى تعدُّد روافدها واختلافها وتمايُزها عن بعضها، كما نحتاجُ للنظر بعُمقٍ إلى الثقافة بمعناها الأنثروبولوجى الشامل، وأثرِها المُباشر على التنشئة والوعى وبناء الشخصية، فضلاً على تحفيز النقابات والجمعيَّات والأندية، وترقية خطاب المسؤولية الاجتماعية لدى الشركات والمُستثمرين، والبحث عن فعاليات اجتماعيَّةٍ واتِّصاليةٍ جديدة تُعيدُ بناء اللُحمة بين المواطنين، وتُمكّنُهم من امتلاك لُغةٍ مُشتركة، بجانب تجميع مُشتركات الهُويَّة فى سبيكةٍ واحدة، لا تنفصلُ عناصرُها بالطَّبَقِيَّة أو الجِهَويَّة، أو بالارتداد إلى انتماءاتٍ أَوليّة فى الدين والعرق وغيرهما.
ستلعبُ وزارات الصحة والتعليم أدوارًا عظيمة؛ لكنَّ مركزَ الثِّقَل كما أراه فى تلك التجربة يبدأ من الثقافة والشباب والمالية والاستثمار والتضامن الاجتماعى، والأوقاف بدرجةٍ مُنضبطة ومُحدَّدة المعايير. عنوان «العقد الاجتماعى الجديد» الذى أثاره رئيس الوزراء؛ يجبُ أن يكونَ قلبَ الفكرة ومحورَ عملِها، والضابطَ الأساسىَّ للنظر فى أهدافها وكفاءة الوصول إليها. والمعنى هنا يتجاوز ضبطَ العلاقة بين الدولة والمواطن، إلى إعادة ترسيم حدود المجتمع البينيَّة وتقاطعاتها.
والتحدِّى الأكبر ربما يكون ظاهرُه تمكين الفقراء والفئات الأَولى بالرعاية؛ إنما لا يقلُّ عنه فى الأهميّة؛ إن لم يَزِد، أن يُعادَ تكوينُ الطبقة الوسطى وإنعاشها، لا سيَّما أنها نقطةُ الاتِّزان ومخزن القِيَم، والرافدُ الدائمُ للنخبة والبرجوازيّة صعودًا، وللتكافُل والعمل الاجتماعى والإنسانى هُبوطًا. وتلك المهمَّة تتطلَّبُ تطوير التعليم والصحة، بقدرِ الاهتمام بالاقتصاد ومُؤشِّراته، وتحسين الدخول الحقيقية، والتركيز على مهارات سوق العمل عبر برامج التأهيل وصَقل القدرات والتدريبات التحويلية، وتقليص الضغوط والأعباء، وأهمُّ من كلِّ هذا تعزيزُ موقعِها المعنوىِّ وحضورها الفاعل؛ بعدما تعرَّضت لاهتزازاتٍ دفعتها للانكماش، أو أبعدتها عن الاشتباك مع مجالها الحيوىِّ.
يتطلَّبُ بناءُ العقد الاجتماعىِّ تصوُّرًا شاملاً وناضجًا عن الدولة وقدراتها، وعن طبيعة العلاقة الصالحة لإدارة المجتمع فى زَمَنَى الانتكاس والصعود. وهو لا ينفصلُ بالضرورة عن امتلاك تصوُّرٍ ثقافىٍّ أصيلٍ ومُنتمٍ للعصر، واستعادة الانضباط وروحيّة القانون وسيادته، وتعزيز لُغة الحوار على مُرتَكَزٍ من الإيمان بالتعدُّد واحترام الاختلاف. إنَّ اعتلالات ما قبل يناير 2011، ثمَّ الفوضى التالية وما ترشَّح عنها من موجةٍ رجعيَّة، تكاتفت معًا لتصبغَ وجه الأُمَّة المصرية بألوانٍ لا تخصُّها ولا تنسجمُ مع ميراثِها الحضارىِّ، واستعادةُ الملامح الحقيقية للمصريين تبدأ من مُداواة العِلَل الموروثة، ودَفعِ الاختلالات الطارئة، والتصدِّى للانفلات الذى صار سِمَةً غالبة على السلوك والخطاب، فى وسائل التواصل الاجتماعى وغيرها. والقَصدُ أن يكون القانونُ رادعًا؛ إنما بالدرجة نفسها أن تكون الثقافةُ السَّلِيمَة والسِّلمِيّة جدارًا حصينًا، يعصمُنا من الحاجة للعقاب أصلاً.
الطابعُ الخِدْمِىُّ مهمٌّ طبعًا؛ لكن البُعدَ المعنوىَّ أكثرُ أهمية. التأسيسُ النفسى القويم سيسمح للمواطنِ أن يكون إيجابيًّا وصاحبَ مُبادرة، وسيُعينه على تغيير واقعه، وعلى أن يكون مُعِينًا لغيره أيضًا. وبهذا التصوُّر؛ لا يكفى أن تصل الخدمةُ الثقافيَّة مثلاً إلى الجمهور بحالِها الراهنة، ولكن يتعيَّنُ أن يُعاد بناؤها فى الرُّؤى والمعالجات بما يتناسَبُ مع السياق المطلوب. والحاجة ماسَّة لتفعيل قصور وبيوت الثقافة، وأن تكون الأنديةُ ومراكزُ الشباب مُنتدياتٍ اجتماعية حقيقية، وربما يُمكن التعويل على المدارس فى العطلات. والفكرة هُنا أن تُنظَّمَ أيَّامٌ ومُلتقياتٌ دوريَّة للنشء خارج المندرجات الرسميَّة، بمفردهم أو مع ذويهم؛ لتُمارَسَ من خلالِها أنشطةُ الاتِّصال والتفاعل وتبادُل القِيَم والمعارف والخبرات؛ فتتشابك عقولُهم وأرواحُهم، وتترقّى لُغةُ الخطاب فيما بينهم، وفى القلب من هذا تُكتَشَفُ المواهبُ والمهارات، وتتعمَّقُ الثقافةُ السياسية والمعيشيّةُ، عبر تجاربَ تفاعليَّةٍ نوعيَّة ذات طابع تمثيلى تربوى. كأنْ يتشاركَ الحضورُ فى نماذج مُحاكاة للبرلمانات والأحزاب والحكومة والأسرة والإدارة المحلية وغيرها، وبتوسعة المجال عبر التبادُل وتصعيد المستوى من القرية للمحافظة للجمهورية، واستحداث مسابقاتٍ وورشٍ تدريبيَّة مُحَفِّزة، يُسْتَحصَلُ الوصولُ للضبط المطلوب، وتنحلُّ قيود التمايُزات الطبقية والجِهَوية والعقيدية؛ لا إلى إلغائها الكامل، وإنما لتقوية المُشتركات وتعظيم حضورها فى الوعى والسلوك.
ما حملته المُبادرةُ الرئاسيَّةُ «بداية جديدة لبناء الإنسان» مُهِمٌّ ومُطَمئِن، وما تُبشِّر به يُعمِّقُ الرهانَ عليها أن تكون أداةً عُضويَّة للتقييم والتقويم، وضبط المُختلِّ وتصويب المُنحَرِف فى ماكينة التنشئة وإنتاج البشر. وبقدر ما تُعلِّقُ الدولة عليها من آمالٍ؛ يتوجَّبُ أن يكون المجتمع مَعْنِيًّا بالدرجةِ نفسها. النخبةُ والفاعلون وقادةُ الرأى عليهم أدوارٌ والتزامات، والمُؤسَّساتُ الرسميَّةُ والأهليَّةُ يجبُ ألَّا تنفصلَ جُهودُها عن بعضها، وإذا كانت المسألةُ احتياجًا مباشرًا للفرد أن يُعايِنَ حياةً أفضل ممَّا يعيشها، فإنها مصلحةٌ للبلد بكامله، وللمستثمرين والشركات بحِسبةٍ اقتصاديَّةٍ نَفعِيَّة مُجرّدة. إنَّ بناءَ عقدٍ اجتماعىٍّ جديدٍ ليس أمرًا سهلاً، ولا رفاهيةً تعلو على واجب اللحظة؛ بل إنّه الضمانةُ الحقيقية لأنْ تنضَبِطَ كلُّ المسارات المُستقبليَّةِ المأمولة فى جوانب الإدارة والحياة؛ وعلى الجميع أن يُجَدِّفوا مع تلك الغاية، لا عليها؛ فما ارتفع بناءٌ إلَّا بساعد إنسانٍ أو على كتفيه، كما لا قيمةَ ولا أثرَ لبُنيانٍ قبل بناء الإنسان.