الكمال لله وحده، هذه حقيقة يعلمها الجميع، ولذلك لا يوجد نظام أو قانون فى العالم منذ بدء الخليقة وحتى الآن يخلو من العيوب، فالكمال فى الأنظمة الوضعية التى يضعها البشر لتنظيم وتسيير أمور حياتهم أمر صعب المنال بل قد يكون مستحيلا، والحقيقة المؤكدة هى أن أى نظام وضعى مهما كان متسقا وقويا ومنظما لديه بعض السلبيات ويحمل فى طياته تحديات وصعوبات تظهر عند التطبيق، وبtصفة عامة يمكن القول إن عيوب أى نظام لا يجب أن تأخذ دليلاً على فشله ولا سببا فى تعطيله، بل هى فرصة للبشر للتعلم والتطوير لتحسين آلية عمله ليكون أصلح فى التطبيق. المهم هنا هو القدرة على التكيف مع التحديات التى تواجهنا عند تطبيقه وتحسين جوانبه التى تحتاج إلى تحسين باستمرار، فلكى ينجح أى مجتمع فى تطبيق أى نظام عليه تعظيم الاستفادة من مزاياه ومعالجة عيوبه وسلبياته بصورة آنية، والاستمرار فى تنفيذ الدراسات العلمية التى تهدف إلى تحسينه بما يتلاءم مع المتغيرات المجتمعية والاحتياجات المتجددة للمواطنين.
ومن ضمن النظم الإدارية التى نالت سمعة سيئة على مر السنين هو النظام البيروقراطى والذى نشأ فى منتصف القرن الثامن عشر فى أوروبا بغرض توحيد الإجراءات وتوزيع المسؤوليات فى دواوين العمل الحكومية، وأتذكر أنه فى إحدى محاضراتى عن مفهوم الحوكمة سألنى أحد الحضور عن مدى ارتباط البيروقراطية بالفساد ومن ثم التراجع الاقتصادى للدول، وكانت إجابتى له هى أن البيروقراطية، مثلها مثل أى نظام بشرى آخر، لها مزايا وجوانب إيجابية، والتطبيق السليم لها يحمى المسؤول من مخالفة القانون كم يحقق العدالة فى خدمة المواطنين، ومع ذلك فالبيروقراطية أيضا لها عيوب وتحديات فى التطبيق قد تؤدى بالفعل إلى الترهل الإدارى والفساد والتراجع الاقتصادى إذا لم تطبق بطريقة متوازنة ومرنة، وفى هذا المقال أقدم للقارئ بعض فوائد وعيوب النظام وكيفية تعظيم الاستفادة من مميزاته ومواجهة عيوبه.
من أهم مزايا النظام البيروقراطى هو الاستقرار والاتساق فى اتخاذ القرارات حيث توفر البيروقراطية نظاماً ثابتاً يتبع إجراءات وقواعد محددة وتسلسل هرمى يساعد فى تحقيق مبدأ الحوكمة، مما يقلل من العشوائية فى اتخاذ الإجراءات والقرارات ويساعد على اتخاذها بطريقة منهجية وعلمية سليمة، كما يحقق النظام البيروقراطى أيضا مبدأ مهما جدا من مبادئ الإدارة الرشيدة وهو الكفاءة التنظيمية، فالهيكل الهرمى فى تقسيم العمل إلى وحدات متخصصة يؤدى إلى زيادة الإنتاجية والكفاءة من خلال بيئة عمل تحدد لكل فرد دوره وما هو متوقع منه. كما يضمن النظام البيروقراطى تحقيق مبدأ هام من مبادئ الحوكمة وهو المساءلة وذلك من خلال تحديد المسؤوليات بوضوح، ومحاسبة الأفراد على تصرفاتهم وقراراتهم، وهى المساءلة المطلوبة لضبط الأداء وتحقيق الأهداف المؤسسية، بالإضافة إلى ذلك فالبيروقراطية تساعد المؤسسة على تطبيق القوانين والعدالة وعدم التمييز، حيث يعتمد النظام البيروقراطى على القواعد والإجراءات التى تنطبق على الجميع بالتساوى، وأخيرا فإن النظام البيروقراطى يساعد المؤسسات الكبيرة فى إدارة عملياتها بكفاءة، بفضل نظامها المنظم والإجراءات الموحدة والتى قد تفشل الأنظمة الإدارية الأخرى فى تحقيقه بسبب الحجم الكبير للمؤسسة.
وبالرغم من المزايا السابقة للنظام البيروقراطى إلا أنه يتسم أيضا بمجموعة من العيوب والتى جعلت البعض يظن أن كلمة البيروقراطية مرادفة لعدم الكفاءة فى أداء الجهاز الحكومى، والعيب الأكثر انتشارا فى النظم البيروقراطية هو البطء والتعقيد حيث من الممكن أن تكون الدورة المستندية فى ظل البيروقراطية بطيئة ومعقدة بسبب الإجراءات الطويلة والتسلسل الهرمى الكبير الذى يتطلب توقيع أو موافقة عدد كبير من الأفراد، ويمكن التغلب على بطء الدورة المستندية بتطبيق التوقيع الإلكترونى وهو أحد مستهدفات الدولة المصرية فى الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، أيضا قد يعانى النظام البيروقراطى من الجمود بسبب الالتزام الصارم بالقواعد وعدم المرونة فى تطبيقها، وهو ما يؤدى فى النهاية إلى صعوبة التكيف مع المتغيرات أو الابتكار، هذا الجمود يمكن أن يعوق الاستجابة السريعة للتحديات أو الفرص، كما يمكن أن يحدث مع مرور الزمن فى تطبيق البيروقراطية ما يسمى بظاهرة الروتين الإدارى والذى يؤدى إلى استنزاف موارد المؤسسة فى إجراءات غير ضرورية، تكلف المؤسسة ملايين الجنيهات من أجل تحقيق إيرادات لا تتعدى آلاف الجنيهات، وأخيرا فإن النظم البيروقراطية تعانى من محدودية الإبداع وعدم التماهى مع الأفكار الجديدة أو الابتكارات بسبب القواعد الصارمة التى تفرض اتباع الإجراءات التقليدية.
وختاما نؤكد أن البيروقراطية هى نظام بشرى يقدم مميزات عديدة للمؤسسات والمواطنين، كما أنه يعانى من بعض أوجه النقص، ولكنه يوفر هيكلًا إداريا قويًا وفعالًا لتشغيل المؤسسات الكبيرة، والتى يصعب فيها تنفيذ الأنظمة الإدارية الأخرى، ومن أكثر الانتقادات التى توجه للبيروقراطية هى أنها تعانى من محدودية المرونة المطلوبة فى مجتمع يتطلع إلى الابتكار والتنمية المستدامة، ويحدث ذلك دائما عندما يبالغ العاملون فى المؤسسة فى الإجراءات المطلوبة فى أعمالها، وهو ما يؤدى إلى أن تصبح الإجراءات والقواعد بمرور الوقت هى غاية فى حد ذاتها وليست وسيلة لتحقيق العدالة وعدم التمييز، كما أن التمسك الحرفى بالقواعد والإجراءات قد يحرم المؤسسة من فرص التجديد والتطوير والابتكار. ولكى نعظم الاستفادة من الجوانب الإيجابية للنظم البيروقراطية فيجب أن يكون هناك توازن بين التنظيم الجيد الذى تتسم به هذه النظم والقدرة على التكيف مع المتغيرات المجتمعية والاحتياجات المتطورة وتطبيق إجراءات المؤسسة بفاعلية وانسيابية ومرونة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة