أكثر من 50 عاما وأنا أبحث عن الإجابة مع بداية كل عام دراسي . مين هي السيدة أو الآنسة "نادية " التي كنا نرتدي الزي المدرسي الذي يحمل اسمها في المرحلة الابتدائية ويتردد على ألسنة ملايين الأسر قبل بداية العام الدراسي.
الزي المدرسي كان عبارة عن مريلة لونها بيج من قماش الكاستور القطن الشهير التي كانت تنتجه شركة الغزل والنسيج في المحلة الكبرى وفي كفر الدوار والإسكندرية لتلبية احتياجات طلاب المرحلة الابتدائية في المدارس الحكومية في محافظات مصر من أسوان الى الإسكندرية.
مريلة تيل نادية كانت هي الزي الرسمي الأساسي للتلاميذ في مدارس مصر ، صبيان وبنات يعلوها رابطة عنق حمراء قصيرة مربوطة بأستيك حول العنق وبنطلون أسفل المريلة من نفس القماش البيج وحذاء " باتا" البلاستيك أو الجلد الأسود يزين القدم. و يا ويله أو ويلها من ناظر أو ناظرة المدرسة من يرتدي بنطلون مخالف للمريلة. فالعقاب معروف توبيخ وتعنيف أمام مئات التلاميذ في وسط الطابور الصباحي أو المسائي وعدم اكمال اليوم الدراسي حتى يأتي " ولي الأمر". وحينها فالعقاب مزدوج من المدرسة ومن الأب في البيت وأمام الناظر ..!
حوش المدرس لم يعرف أية ألوان غير البيج طوال العام الدراسي باستثناء أيام الرحلات أو أيام امتحانات آخر العام التي كان يصعب تعرف التلاميذ بعضهم البعض بدون المريلة.!
لم تكن المدارس الحكومية تعرف الألوان في الزى المدرسي إلا للتفرقة بين المراحل.. ولم تعرف المدارس في مصر " اليونيوفورم" الا مع بداية انتشار المدارس الخاصة والأجنبية بصورتها الحالية.
في الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات كانت المدارس الخاصة الموجودة على استحياء لا يلتحق بها الا الطلبة " البلدة" والفشلة الذين لم يحصلوا على درجات عالية تؤهلهم للالتحاق بالمدارس الحكومية المجانية. التلاميذ الذين يلتحقون بالمدارس الخاصة كان يلاحقهم ويطاردهم تلاميذ المدارس الحكومية صاحبة الهيبة والبنية التعليمية القوية والفصول النظيفة والتلاميذ والأساتذة الملتزمين بنداءات " البلدة أهم – بضم الباء-..الفاشلين أهم" لأنهم يتعلمون بمصاريف تحمل أسرهم أعباء إضافية..!
طوال ست سنوات منذ بداية السبعينات ارتديت مع ملايين التلاميذ في المدارس الحكومية في مصر مريلة تيل نادية يتساوى بداخلها الفقراء والأغنياء ابن العامل والفلاح والصنايعي والبائع مع ابن الناظر والمدرس ومأمور قسم الشرطة وتاجر الذهب والخشب و أصحاب مصانع الحلوى وتجار الفسيخ في مدينتنا. بعدها بسنوات أدركت معنى أن يرتدي الجميع بالتساوي مريلة نادية..! ويمارسون نفس الأنشطة في المدرسة في حصص الألعاب والموسيقى والتربية الزراعية (للأولاد) والتربية المنزلية( للبنات) يتعلمن فيها أصول الطبخ منذ الابتدائي.
بالمناسبة كانت هناك وجبات مدرسية مخصصة للتلاميذ أطلقوا عليها في الثمانينات (المعونة الأميركية) لكنها قبل ذلك كانت عبارة عن قطعة جبنة كبيرة تشبه الجبنة النستون ومربى أو حلاوة طحينية أو العجوة وثمرة فاكهه من البرتقال ورغيف خبز. وفي مدارس الريف يصرف للطلبة دقيق وزبدة ولبن صناعي.
المدارس الحكومية كانت عبارة عن مساحات ضخمة تضم مساحات كبيرة للأنشطة الرياضية ( كرة قدم وسلة وطائرة ويد وتنس طاولة وجمباز )علاوة على مباني الفصول- الفصل لم يتجاوز عدده 30 طالبا- على جانبي فناء المدرس ( الحوش) الكبير الذي كان يشبه ملعب أستاذ ناصر..!
مريلة تيل نادية- الزي الرسمي للمدارس الحكومية- كان حماية اجتماعية ونفسية لكافة التلاميذ والشعور بالمساواة للتفرغ فقط للدراسة وتحصيل العلوم الدراسية، وردعا للتباهي والتفاخر بين الطبقات والشرائح الاجتماعية وتذويب الفوارق بينها...هكذا كنا.
الفارق الوحيد في الزي المدرسي هو ما أدخله العدد القليل جدا من المدارس الخاصة – مدارس البلدة- على الزي الخاص بها من القمصان البيضاء واللبنية والروز بجانب (الجيبة)- للبنات- والبنطلون الرمادي أو الكحلي للأولاد.
في زمن تيل نادية والمدارس الحكومية درس العلماء أمثال فاروق الباز وأحمد زويل ومصطفى السيد وهاني الناظر، كما درس قضاة واعلاميين ومهندسين وعسكريين
على مدار حوالي 5 عقود- أي 50 عاما-كانت المريلة البيج – بتاعة الست أو الآنسة نادية- علامة مسجلة يرتديها الأولاد والبنات من كافة الشرائح الاجتماعية على حد سواء حتى تبدلت الأوضاع وجاء زمن المدارس الخاصة وبدأنا نسمع عن " اليونيفورم" والتيشيرتات الملونة من الأصفر والأحمر والأخضر والأزرق وانسحبت " نادية في هدوء. فلم تستطع مقاومة الثقافة الجديدة والنظام الجديد في التعليم، فتوارت مع المريلة وأفسحت الساحات لملابس العصر الجديد في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات. وأصبحت المريلة رمز الشياكة والرقي والوقار والعدالة والمساواة تنتمي الى الماضي والذوق القديم كما أصبحت المدارس الحكومية في خبر كان..!
بعد كل هذه السنوات و العودة بالحنين الى أيام مريلة تيل نادية... ورغم البحث والسؤال لم أجد إجابة ولم أعرف من هي " نادية".. هل هي أول صانعة للمريلة ، أو هي مبتكرة التصميم، أو احتمال هي ابنة مدير الشركة المنتجة التي عرفت بعد ذلك أن القماش كانت تنتجه شركة المحلة الكبرى للغزل والنسيج.
أدعو كل من لديه معلومات عن السيدة أو الآنسة أو الدكتورة " نادية" -صاحبة التيل- أو أي فرد من عائلتها فليخبرنا .. لأنها منحتنا أياما وسنوات من البهجة والفرحة والرقي والشياكة كنا نستحقها...!