ليس مهمًّا أن تكون صاحبَ الرصاصة الأُولى؛ بقدرِ ما أن تظلَّ قادرًا على الإفلات من الرصاصة الأخيرة. تقولُ الاستراتيجية وعلوم العسكرية إنَّ المُبادأة قد تلعبُ دورًا حاسمًا فى الحروب؛ لكنَّ خُلاصات التجارب العملية تحتفظُ بقصص كثيرين كانت لهم الضربة المُبكّرة، وغادروا الميدان مهزومين أو فى حالة أسوأ ممَّا دخلوه عليها. والحادث فى غزّة وجنوب لبنان تصحُّ فيه مسألةُ البدايات الخاطئة والمآلات السوداء؛ إذ كانت العاطفةُ حجابًا يمنعُ من استبصار الواقع وتوازناته، وظلَّت أداةَ تضليلٍ تتوالدُ منها الخسائر والنكبات، لا لشىءٍ إلَّا أنَّ طرفًا وَضَعَ الأيديولوجيا فوق المصلحة، والذاتىَّ فوق الموضوعى، ونظرَ للغايات الظرفية بمعزلٍ عن القضية الوطنية، واعتباراتها فى ضوء أجندة العدوِّ واختلال مُعادلة القوَّة. وهكذا وقع الإيذاءُ فعلاً على الغريم؛ لكنه ارتدَّ على أصحابه بما يفوقُ قدرتَهم على الاحتمال، ويُعطِّل خططَهم فى البقاء واستدامة النضال الفعَّال. والمشكلةُ أنَّ الزمن لا يعودُ إلى الوراء، والخطايا الكُبرى تتناسلُ من بعضها، فى ديمومةٍ لا سبيلَ لكَسر حلقتِها المُغلقة، بعدما تُفلت خيوطُ اللعبة من بين الأصابع. وقتَها لا يعودُ الندمُ مفيدًا، ولا يُبشِّر الإصرارُ إلَّا بمزيدٍ من الانحسار.
فى الحرب العالمية الثانية توافرت المُبادرة لدول المحور أكثر من مرَّة على امتداد أشواطها. فى الشرارة الافتتاحيّة، وفى التوسُّع الكاسح وغير المحسوب على امتداد الخريطة الأوروبية، ثمَّ غزو الأراضى الروسية، وكذلك لوثة الجيش الأحمر اليابانى بقصف ميناء بيرل هاربر واستدعاء الولايات المتحدة للميدان. كلها كانت قفزاتٍ مُتقدِّمةً باتجاه الحسم السريع؛ وارتدَّت عليهم بما يُعاكس الأهدافَ الموضوعةَ لها تمامًا، ويُغيِّر دفَّةَ المواجهة لصالح الحلفاء. وفوارقُ القوَّة هناك لم تكُن على الصورة الماثلة هُنا، بين الشيعية المُسلَّحة والنازية الصهيونية المُتجبِّرة، ولا رقعةُ القتال ضيِّقةً ومخنوقةً كما هى فى فلسطين وجنوب لبنان، فضلاً عن الأوضاع الإنسانية والاقتصادية وأثقالها على الحاضنة الشعبية، وعن الطابع الميليشيوىِّ المحكوم بإملاءاتٍ خارجية، وقد وظَّفته إسرائيلُ فى تعزيز سرديَّتها، وفى وَصْم المُقاومة بامتداداتها العابرة للجغرافيا ونقاط النزاع؛ حتى أنها فى حالة «حزب الله» توصَّلت لطَوق النجاة بعد 2006 من جهة القرار الأُمَمىِّ رقم 1701، وحتى اللحظة تتعالى عليه؛ كما لو أن لها اليدَ العُليا فى المعركة غير المُتكافئة.
كان «طوفان الأقصى» قفزةً مُتعجِّلةً على أسوار الزمن. ومَبعثُه أنَّ «حماس» امتلكت أسباب القوَّة الكفيلة بقَدح الشرارة وإشعال المواجهة؛ لكنها لم تحصلُ مُسبَقًا على الضوء الأخضر من الرُّعاة، ولا نسَّقت معهم خطَّةَ التعاطى مع الارتدادات المُحتمَلَة؛ بعدما تُمرِّرُ سكاكينَها بين أنياب الضِّباع. والحركةُ التى نشأت فى أواخر الثمانينيات، ظلَّت عند منسوبٍ مُتواضِعٍ من القُدرة والإمكانات لنحو عقدين تقريبًا، ثمَّ انتفخت كثيرًا بعد الانقلاب على السلطة والاستئثار بحُكم القطاع. كانت فلسفةُ نتنياهو فى ذلك أن يُعزِّز مركزَها فى سياق الاستثمار فى الانقسام، وتغييب الشريك الصالح لمُلاقاته على طاولة التفاوض، وتحت راية الإجماع والأجندة الوطنية المُوحَّدة، أمَّا فلسفةُ الشركاء الأيديولوجيين ممَّن وفَّروا لها الأموال واللوجستيات بدءًا من موجة الربيع العربى، أن تكون كتائبُ القسَّام خزَّانًا إضافيًّا لحقبة المدِّ الإخوانى التى بدا أنها تتقدَّم لتغطية سماء المنطقة، أو أن تُضافَ لدائرة الأذرُع الشيعيَّة على صِفَة «البيدق المُتقدِّم»، دِفاعًا عن المشروع الصفوىِّ ونظرية تصدير الثورة الإسلامية، أو البحث عن مواطئ إقليمية للقدم الإيرانية. باختصارٍ؛ جرى تصليبُ ظَهر الحماسيِّين وتثبيت مواقعهم لأغراض مُتباينةٍ، لم تكُن فلسطين منها على الإطلاق؛ أو لعلَّها حضرت على معنىً مُضادٍ لحقيقتها الجوهرية، أى بوصفِها موضوعًا للمُناكفة وتمرير الأجندات المُلوَّنة، وليس من زاويةٍ أنها قضيةٌ عادلةٌ وحقوقٌ واجبة الاستيفاء.
أغلبُ الظنِّ؛ وليس كلُّه إثمًا على أىِّ حال، أنَّ رأسَ الشيعيَّة المُسلَّحة عمدت إلى ترقية قُدرات الحركة؛ لأجل توظيفِها فى خدمة أهدافها الاستراتيجية للتمدُّد وإعادة ترسيم المنطقة. كانت طهران تفخرُ دومًا بأنها تتحكَّمُ فى أربع عواصم عربية؛ ولعلَّها نظرَتْ لغزَّة باعتبارها الطرفَ الخامس فى الجسم الأُخطبوطىِّ الضخم. هكذا لم يكُن النفخُ فى الأنفاق رِساليًّا ولا مجّانيًّا، أو لأجل الإزعاج وإبقاء جمرة النضال مُتّقدةً فى أحضان الاحتلال. وعلى الأرجح كان يُخطِّطُ لعمليَّةٍ واسعة المدى مع الصهاينة، ربما بحلول أواخر 2025 أو بعدها بشهور، وسيكون أُفقُ التوافق بين طهران والغرب قد أُغلِق تمامًا، وبرنامجها النووىُّ يقتربُ من محطَّة الاكتمال أو وضعيَّة «دُوَل العَتَبة»، مع استفحال مناخ الاستقطاب فى الولايات المتحدة سواء ظلَّ الديمقراطيون فى الحُكم، أو عاد الجمهوريون على جناح ترامب. أمَّا قرار السنوار باستباق المسارات المُعدَّة سلفًا فبقدر ما يبدو غريبًا؛ لعلَّه يكشفُ عن استشعارٍ مُبكَّرٍ منه لفداحةِ أن يكون بيدقًا على الرُّقعة الشيعيَّة، وإشارةٍ إلى أنَّ شكوكَه فى الحُلفاء تعاظمت لدرجةِ أن تُحرِّكه عشوائيًّا للصدام غير المحسوب وغير المُتعقَّل مع الأعداء.
يُنظَرُ لقرار «الطوفان» من بعض المُحلِّلين على أنه اتُّخِذَ فى مُنتصَفِ سبتمبر الماضى، قبل ثلاثة أسابيع فقط من تنفيذه، وبعد حوار ولىِّ العهد السعودىِّ مع شبكة فوكس نيوز، وإشارته إلى تقدُّم المُفاوضات بشأن التطبيع بين الرياض وتل أبيب. وكتبتُ شخصيًّا ما يحملُ هذا المعنى، ولا أنكرُه إلى اليوم؛ لكننى بعدما نظرتُ فى المسألة مُجدَّدًا، ووسَّعتُ زاويةَ الرؤية بعيدًا من حسابات التحالُفات الضيِّقة وأثرها على رجُلِ حماس القوىِّ؛ صرتُ أعتقدُ أنَّ الفكرةَ لمعتْ فى ذهنه قبل ذلك بستَّة أشهرٍ على الأقل، وتحديدًا مع إبرام الاتفاق السعودىِّ الإيرانى برعايةٍ صينية فى بكين. وقتَها كان منطقيًّا أن تتضخَّم الهواجسُ فى الأنفاق والصدور، وأن يستشعرَ السلاحُ القسَّامىِّ؛ ولو بالخطأ وسوء التقدير، أنه مدفوعٌ لتجربةٍ تتجاوزُ كلَّ ما عرفوه من إزعاجٍ، وقد تبدَّلت المنطقةُ من حولهم، وانزاح الإخوانُ من مواقع السلطة؛ بل ومن المشهد الاجتماعى العربىِّ أصلاً، وبقيَّة الدعم الإقليمىِّ للجماعة ستتبخَّرُ عاجلاً أم آجلاً بالصُّلح وترميم علاقات الحكومات، وبعدها لن يتبقَّى لهم سوى الحاضنةِ الشيعيَّة؛ ومن ثمَّ فأىُّ تحريكٍ للتوازنات القائمة يُهدِّدُ حضورَهم السياسىَّ والعسكرىَّ؛ وإذا لاح شبحُ الفناء الناعم، فلا فارقَ بين الصمت عليه أو المُبادرة إلى تخليق نسخةٍ خَشِنةٍ منه، قد يصدُفُ أنْ تخلطَ الأوراقَ وتُربكَ المنطقة، فتظلّ الأوضاعُ على حالها دون تغيير.
ما رآه «السنوار» غالبًا أنَّ اتفاق بكين قد يكونُ مُقدِّمةً لضَبط أجندة الشيعيَّة المُسلَّحة فيما يخصُّ دول الاعتدال، وحدود الاشتباك والتقاطعات الاستفزازية معها، وربما تبعَته تسوياتٌ إقليميَّةٌ أُخرى، وعندها سيكون تمديد ستار الاتِّفاقات الإبراهيمية مشفوعًا بقبولٍ ضِمنىٍّ من طهران، وربما بترضياتٍ وتوافقاتٍ تجمعُها مع الشيطان الأكبر تحت الطاولة، أو بالاضطرار إلى الصمت المرحلىِّ على أمل أن تتبدَّل الأوضاع لاحقًا. حضورُ الصين فى المشهد يعنى أنها لا تعترضُ على التصوُّر الأمريكىِّ لتبريد المنطقة، وروسيا تنشغلُ بمواقعها الدافئة على السواحل السورية لا أكثر، وهكذا قد يصحُّ استشراف أنَّ طرحَ الاقتصاد بديلاً عن التسوية التفاوضية يمضى لحيث أرادت واشنطن وتل أبيب. وفقَ هذا الفَهم؛ فإنَّ المُبادأة بالطوفان لم تكُن خطوةً تكتيكيَّةً تُؤسِّسُ لِمَا بعدها برَوِيَّةٍ ورؤيةٍ ناضجتين؛ إنما كانت أقربَ إلى «العملية الانتحاريَّة» التى نظرَتْ فيها حماس لنفسها بين خيارين: الموت صمتًا، أو إزعاج العالم على احتمال النجاة بالفوضى والمُصادفة. ما يعنى أنها كانت ضربةً مُوجَّهةً لحُلفائها قبل خصومها، واستهدفت محورَ المُمانعة وخُططَه المرحليَّةَ وطويلةَ المدى، بأكثر ممَّا كانت تُصوِّبُ على «فِرقة غزَّة» وحزام المُستوطنات اللصيق بالقطاع.
ما يُعزِّزُ ذلك أنَّ إيران فُوجئت بالغزوة الغزِّية فعلاً، وصُدِمَت من نتائجها، واستهلَكَتْ وقتًا طويلاً بين النشوة والارتباك، والعجز عن بناء خطابِها المُراوغ؛ بحيث لا تتحمَّلُ نتيجةَ المُغامرة ولا تفقدُ مَغانِمَها المُأمولة. وقد أنكرتْ صراحةً أنَّ لها علاقةً مُباشرةً بالعملية، وعندما نشطت ماكيناتُ الدعاية الحماسيَّة لابتزازها ودعوتها إلى الالتحاق بالميدان المُشتعل، استدعت الراحلَ إسماعيل هنيَّة إلى طهران؛ لتحميله بقائمة الأوامر والنواهى، وقد تعرَّض للزجر والتأنيب من المُرشِد نفسِه على تعريض جماعته بالجمهورية الإسلامية، وطالبَه بإسكات الأصوات الزاعقة فى مسألة حقِّ النُّصرة وتفعيل دعايات «وحدة الساحات»، وهو ما حدثَ سريعًا بالفعل، وانتقلت المُزايدات بعدها بكامل زَخْمها إلى الدائرة العربية، وتكثَّفت غيومُها الثقيلة فوق السماء الأردنيَّة؛ حتى أن قُطبًا حَماسيًّا رفيعًا مثل خالد مشعل تخلّى عن وقاره المعهود، ودعا عَلنًا لتأجيج الشارع، وحرَّكت الحركةُ عناصرَها على الأرض قبل أن يتصدَّى لها أمنُ المملكة بمُنتهى الحسم. والقَصدُ من استعادة تلك الحكايات المعروفة؛ ليس تأكيد ما أثبتته الوقائعُ عن تعرُّض الفصائل الفلسطينية للخذلان من جانب المُمانعين، بعد كلِّ ما قِيْلَ لهم عن رباط الاعتقاد واتِّحاد المقاصد والغايات؛ إنما النبشُ فى نثارات المواقف والأحداث؛ سعيًا لفَهم ما اختلج فى صدر السنوار، فدفعَه لتفخيخ الجغرافيا المهتزّة أصلاً تحت قدميه وأقدام حُلفائه، مع تمكين عدوِّه اللدود من ذخيرةٍ لا تنفد فى حرب الذرائع والسرديَّات.
لقد دُفِعَ «حزبُ الله» على أطراف المشهد؛ ليكون أداةً لغَسْل سُمعة المحور، واستبقاء مقعدٍ حاكمٍ له فى مسار التهدئة وما ستترشَّح عنها من تسوياتٍ وقتية أو دائمة. ودلالةُ الاسم الذى أطلقه حسن نصر الله على العملية تحصرُ الدورَ المنوطَ به فى «الإسناد والمشاغلة»؛ على معنى تمكين «حماس» من لعب مُباراةٍ شِبه مُتوازنةٍ قدر الإمكان، وفى الوقت ذاتِه ضمان ألَّا تنتهى دون إرادة صاحب القرار على الجبهة الشمالية. وإذا كانت الشيعيَّةُ المُسلَّحة قد فعَّلَتْ «وحدة الساحات» على استحياءٍ، وعند أقلِّ منسوبٍ يضمنُ لها اقتسامَ المنافع بأقلِّ الأضرار؛ فإنَّ نتنياهو على الجانب الآخر بدا أكثر إخلاصًا لدعايات المُمانَعة من أصحابها، ولم يَعُد ينظرُ إلى الشمال والجنوب على أنهما جبهتان مُنفصلتان، ولا بمعزلٍ عن موقفِه الراديكالىِّ الثابت من إيران وبقيَّة ظِلالِها الحاضرة فى أرجاء الإقليم. وإذا كان ابتلاعُ المرارات إثرَ بعضِها تعبيرًا عن ضعفٍ بنيوىٍّ كامنٍ فى أعماق المحور؛ فإنه لا يخلو كذلك من احتمالاتِ مُعاقبة «حماس» وقائدها على شَقِّ عصا الطاعة، والقَبض على زمام القرار بنزعةٍ استقلاليَّةٍ لا تتناسَبُ مع طبيعة العلاقة، ولا حدود ما يقبلُه المُرشِدُ والحرسُ الثورىُّ من الأتباع والقوى الرديفة. هكذا انحسر الدعم حتى لَيَكاد أن يختفى، وتأخَّر الردُّ على اغتيال هنيَّة كثيرًا؛ ولو عند حدودٍ استعراضيَّةٍ غير مُؤثِّرة؛ كما حدث بعد تصفية قاسم سليمانى أو قصف القنصلية فى دمشق. ولا أعتقد أنَّ وطأةَ الرسائل الجارحة تغيبُ عن «السنوار» فى مخبئه؛ لكنه مُضطرٌّ لمُواصلة اللعب تحت العمامة السوداء؛ لأنه لا بديلَ عنها فى مناخ الحرب، ولا فى المدى المنظور بعدها؛ إنما لا شَكَّ فى أنَّ شروخًا عميقةً أصابت الجدارَ الواصلَ بين غزَّة وطهران، وقد لا تَعُدُّ الأخيرةُ الحركةَ مُستقبلاً بين أُصولها الثمينة، كما لا يَبقى الحماسيِّون على عهد التَّبَعِيَّة الكاملة فى الأجندة والأهداف، وإن حافظوا على شَكلٍ من الارتباط؛ تُؤطِّرُه النَّفْعِيَّة وانعدام الخيارات.
لا ينظرُ الأُخطبوط لأطرافِه على قدمِ المُساواة، ولا من عينٍ واحدة. إذا خُيِّرَ رأسُ المُمانعة بين أذرُعه سيُرتِّبُ حزبَ الله قبل الباقين، وسيختارُه ولو كان المُقابل أن يُضحِّى بحماس والجهاد والحوثيِّين والحشد الشعبى، وبكلِّ القضايا والمركزيَّات، والبلاغة الركيكة عن المُثُل والمبادئ السامية. لقد كان الحزبُ أوَّلَ استثمارٍ للجمهورية الإسلامية خارج حدودها، والأنجحَ إلى الآن؛ بالنظر إلى أنه صَيَّر لبنانَ تابعًا، ومَردوعًا بفائض القُوّة، ودولةً تُطلُّ على البحر لكنها حبيسةٌ داخل دُويلة الميليشا. وعليه؛ فالربط بين الضاحية وأنفاق القطاع كان مطلوبًا لاعتباراتٍ دعائيَّة؛ لكنه اليومَ صارَ عِبئًا ثقيلاً بالحسابات الاستراتيجية. وبينما يتصوّرُ «نصر الله» وقادتُه فى مكتب المُرشد وألوية الحرس، أنَّ التهدئة مع حماس ستنعكسُ بالضرورة على الحزب؛ فإنَّ إسرائيل لم تعُد ترى المسألة هكذا؛ لكنَّ المُهمَّ أنَّ الوهمَ المُمانِعَ قد يدفعُ عاصمةَ المحور لاستشراف كلِّ السُّبل الكفيلة بإيقاف مسلسل الهزائم والنكبات، وتحصين دُرّة تاجِها قبل أن تتشقَّق تحت ضربات الصهاينة الثقيلة، وقد تخطّت كُلَّ الأسقُف ولم تعُد تُوفِّر هدفًا فى جنوب لبنان؛ حتى أن الأمينَ العام نفسَه يجلسُ على باب الرَّجاء ألَّا تلحقه ضربةٌ من الضربات.
بالنظرِ إلى مُماطلة نتنياهو فى مُفاوضات الهُدنة، وإفساده كلَّ المُحاولات الفائتة بما فيها ورقة بايدن؛ فإنَّ ما تسرّب عن اقتراحه بتوفير مَمرٍّ آمن لخروج «السنوار» وأسرته وبعض رجاله من غزَّة، مقابل وقف إطلاق النار وتبادُل الرهائن، وبدء مسار نحو إعادة إعمار القطاع وترتيب اليوم التالى للحرب؛ إنما يُحتَمَلُ أنه تلويحٌ بالثغرة الإنقاذية لإيران نفسها. وليست مُصادفةً أن تُطرَحَ الفكرةُ على الطاولة؛ بالتزامن مع تشديد الضغط على حزب الله إلى مداه الأقصى؛ فكأنهم يتقصّدون أنْ يستثيروا قلبَ الشيعيَّة المُسلَّحة قلقًا على الحليف الأهمّ، فيكون البديل أن يذهبوا للضغط على الفصائل الفلسطينية لتَقَبُّل الخيارات المُتاحة. فى المُقابل فإنَّ «حماس» لن تقبلَ الهزيمةَ المعنوية على صِفَة النجاة الوَقتيَّة المشروطة، مع ثقتها بأنَّ قائدَها سيكون هدفًا مُقبلاً للتصفية؛ ولو فى أحضان المُرشِد كما حدث لهَنيّة. وإن صحَّ التصوُّر فإنه سيدقُّ إسفينًا جديدًا بين الطرفين، وقد يُمهِّد الطريق لفَكِّ حلقة الوصاية الشيعيَّة على قرار الحماسيِّين جنوبًا، وبحث الحزبيِّين شمالاً عن تسويةٍ تقود لتطبيق قرار مجلس الأمن؛ ولو بإخلاء مواقعه للجيش واليونيفيل، وسَحب تمركُزاته إلى شمالىّ نهر الليطانى. وبهذا تتضاعفُ خسائرُ الطوفان؛ إذ بجانب ما أوقعته على الغزِّيين من موتٍ ودمار؛ فإنها قد تقطعُ روابطَ المُقاومة مع الرُّعاة الأيديولوجيين، ودون أن يبنوا جسورًا بديلةً مع دُول الاعتدال، وهذا مِمَّا يُوقِعهم فى فَخٍّ مُزدوَجٍ تنحَلُّ فيه قُدراتُهم العسكرية، مع غياب الفاعلية السياسية، فيكون مُتاحًا أن تتقدَّم السلطة الوطنية، أو يبحثَ الوسطاءُ والضامنون عن ترتيباتٍ إداريَّة مُستقبلية من القماشة نفسِها؛ لا يكون فيها للأُصوليَّة مَوطئُ قَدمٍ فى السياق الجديد، ولا قُدرةٌ حقيقية على إرباكه من الداخل أو الخارج.
لم يكُن صائبًا أن تتلوَّن فلسطين بألوانٍ مذهبيَّةٍ أو عِرقيّة، ولا أنْ تُحسَبَ على محاورَ وأحلافٍ تتجاوزُ حُدودَها ونطاقَ خصومتها العادلة. والحال أنَّ ما كان ورقةَ قوّةٍ فى السابق، أو هكذا ظنَّته حماس؛ صار نقطةَ ضعفٍ وخاصرةً هشّة تُهدِّدُ القضيَّةَ بكاملها، أكان على صعيد الحركة أم فيما يخصُّ مُنظَّمة التحرير وشرعيَّتها، وما يُمكنُ أن تُوفِّره من مظلَّةٍ جامعةٍ للجغرافيا والديموغرافيا. لو صدقت النوايا ما أُديرت الجولةُ على تلك الصورة المُزرية، ولا تتابعت حلقاتُها طوالَ الشهور الماضية من سيّئٍ لأسوأ؛ إنما الإشارةُ وراءَ هذا أنَّ الفصائل تمرّدت على رُعاتها، أو أنَّ الرُّعاة اختزلوا وجيعةَ شعبٍ كامل فى أجندةٍ سياسيَّةٍ غير نزيهة، والنتيجةُ أنهم تكاتفوا معًا ليوفّروا لعدوِّهم المُشترك ما يكفيه من حججٍ وذرائع، وبعثروا أرصدتهم مع مواصلة النزيف على المكشوف. كان «الطوفان» صرخةً فى وجه الاحتلال، واعتراضًا على مواءماتٍ الشيعيَّة المُسلَّحة وحساباتها الشخصية، وبقدرِ ما عبّرت عن رغبةٍ حماسية فى إرباك المنطقة، وإدخال المحيط العربى فى لوثةٍ إقليمية على أمل تخليق الحرب الشاملة بين الجميع؛ فإنها عبَّرت أيضًا عن شكوكٍ عميقة فى بِنية المحور الشيعىِّ؛ تكشف عن هشاشةِ التحالُف وعدم اقتناع أطرافه به أو إخلاصهم العميق له؛ حتى أنهم بينما يُصوِّبون على خصومهم فى الميدان، طاشت نيرانُهم الصديقةُ لتسكُنَ المُضغةَ القاتلة من قلب الأيديولوجيا.