أجواءٌ استعراضيّة لا تختلفُ عن مُمارسات إسرائيل المُعتادة. أرادوا إخراجَ المشهد على صورةٍ دراميّة كاملة: يرتقى نتنياهو منصَّةَ الأُمَم المُتّحدة مُتحدِّثًا أمامَ العالم فى زِيَّه الرسمى المُتحضِّر؛ بينما تُغِيرُ طائراته بالتزامن على ضاحية بيروت الجنوبية؛ لتُقدِّمَ وجهًا جديدًا للبربريَّة الصهيونية المعروفة للجميع. وبهذا تصلُ الرسالةُ المقصودة من الحدث بغَضّ النظر عن مآلاته، وهل كانت الضربةُ مُخطَّطةً سَلفًا؟ أم اتُّخِذ قرارُها على عَجَل؟ وما إذا كان الأمينُ العام للحزب بين الضحايا أم خرج سالمًا؟ كلُّ ما بعد القصفِ تفاصيلُ لا تُبدِّل شيئًا من معناها الأساسى، وخُلاصتُه أنَّ دولةَ الاحتلال لا تحترمُ النظامَ الدولىَّ، ولا تُقيم وزنًا للقانون والاعتبارات الإنسانية، وأنها تلعبُ دورَ الذئب المُنفلِت تحت رعاية واشنطن وانحيازها، وتكتبُ خطاباتها السياسيَّةَ بالدم الذى تُريقه فى نزواتها العسكرية.
الوصفُ العَمَلانىُّ لِمَا جرى فى معقلِ الحزب لا يشى بعمليَّةٍ عشوائية، ولا تَحرُّكٍ مُتعجّلٍ لانتهاز الفرصة بعد الوقوع على معلومةٍ ثمينة، فجأة أو بالمصادفة. فرضَ الاحتلالُ حِزامًا ناريًّا من أطراف مُخيَّم برج البراجنة حتى حارة حريك، ونفَّذ نحو 10 غارات جويَّة، أسفرت عن تسوية 6 مبانٍ بالطبوغرافيا المُحيطة، وحَفْر الأرض فى باطنِها إلى عُمق عشرات المترات، بفضل الذخيرة الخارقة للتحصينات من زِنة 2000 رطل. ولا يُمكن افتراض أنها قد تذهبُ لهجمةٍ من هذا النوع والحجم، دون اطمئنانٍ إلى أنها تنطلقُ من تقييمٍ استخباراتىٍّ سليم، وثقةٍ مُطلَقة فى أنَّ الأهدافَ المقصودة تقعُ فعلاً فى مرمى النار. وهنا تتجدَّدُ الأسئلةُ المُزعجة والمُحرجة عن درجة الانكشاف فى بيئة الحزب، والمدى الذى وصلته حالةُ الاختراق لأقنية الاتِّصال وتسلسُل القيادة، وطبيعة الاحتياطيَّات التى فرضتها الميليشيا فى مُستوياتها العُليا؛ بعدما تبدَّت لها من حصيلة الأيام الماضية أنها عاريةٌ ومُهلهَلة تمامًا، وأن السِّريَّة التى واكبت صعودَها طوالَ أربعة عقود، لم تعُد حاضرةً إلَّا فى بيئتها الداخلية، وربما مع الدولة اللبنانية وحكومتها وجيشها الوطنى؛ إنما بالنسبة للعدوِّ المُباشر، فلعلّها أقربُ إلى كتابٍ مفتوح، وتتطاير صفحاتُه بين مكاتب المُوساد وبقيَّة الأجهزة الأمنيّة فى إسرائيل.
أعلن جيشُ الاحتلال رسميًّا تصفيةَ الأمين العام، ونفى نجلُ «نصر الله» إلى وقتٍ مُتأخِّر من صباح أمس، مُشدِّدًا على سلامة والده. ولم يصدر موقفٌ رسمىٌّ عن الحزب إلا وقت كتابة المقال، بعد نحو عشرين ساعةً من الغارة، وكان قد أعلن بعد وقوعها مباشرة أنه سيُصدر بيانًا إعلاميًّا فى غضون وقتٍ قصير. حالةُ الارتباك فى البيئة الجنوبية، تلاقت معها أنباءٌ بشأن انعقادٍ طارئ للمجلس الأعلى للأمن القومىِّ الإيرانىِّ فى منزل المرشد على خامنئى، وتلميحاتٍ من عسكريين وسياسيين فى طهران إلى احتمالات الغياب، بالقول إنَّ التنظيم مُتماسكٌ وقادرٌ على إحلال قياداتٍ بديلةٍ فى أيّة لحظة. والإشارةُ هُنا كانت تتجاوزُ مسألة الموت والحياة؛ إلى الفوضى وانقطاع الاتصال داخل هيراركى السُّلطة فى الضاحية، والعجز عن الوصول إلى معلوماتٍ سريعة ودقيقة ومُوثَّقة. ولعلَّ هذا يعودُ فى جانبٍ منه إلى ثِقَل وطأة الضربات الإسرائيلية خلال الأسبوعين الأخيرين، وأثر تفجيرات «البيجر» والأجهزة اللاسلكية، واستهداف وإسقاط عددٍ كبير من كوادر الصفِّ الأوَّل، ما يعنى أنَّ خطَّة الاحتلال لتقطيع الأوصال، وإحداث حالة من السيولة والاضطراب النفسىِّ والحَرَكىِّ، قد حقَّقت قدرًا عظيمًا من أهدافها، وتركت آثارًا ثقيلة وظاهرةً على قُدرات الحزب البشريَّة والمُؤسَّسية، وهذا مِمَّا يُنذرُ بمخاطر أكبر؛ لا سيَّما مع فاعلٍ من خارج الدولة، لا يُمكن الحديثُ عن انتظامه الإدارى بعيدًا من النزعة الفرديَّة المُطلَقة.
غاب الأمينُ العام لحزب الله بصورةٍ لم تكُن بعيدةً عن خياله إطلاقًا؛ ولعلّه كان يتوقّعُها فى أيَّة لحظةٍ منذ صعوده على جُثّة سلفِه فى إزاحةٍ شبيهة. المُلاحَظةُ أنَّ العدوَّ ينطلقُ من شعورٍ باليقين والاقتدار، ويخترقُ كهفَ الأسرار الذى عَزَّ على اللبنانيين؛ ولم يكُن بعيدًا من مُتناوَل الصهاينة. وأنكى ما فى المسألةِ أنْ يتوصّل الاحتلالُ إلى كَسبٍ كبيرٍ وسهلٍ بتلك الصورة، وأنْ تنبُعَ السهولةُ من استهانة المُمانِعين وخِفّة تعاطيهم مع الملمَّات والامتحانات. بدا إلى الساعة الأخيرة من عُمرِه أنه يتحرَّكُ تحت ستارٍ كثيفٍ من الأوهام، ويستندُ لتصوّراتٍ قديمة عن المَنْعَة والفاعليَّة، وعن قُدرته غير النهائيّة على مُناورة الغريم وخداعه. هكذا أنكرَ الرسائلَ الثقيلةَ فى إسقاط حلقة رجاله الضيّقة على بُعد خطواتٍ منه، وشطب الدائرة العُليا فى قيادة النخبة (قوات الرضوان» بجَرّة قلمٍ قبل أسبوعٍ واحد؛ فتَكرَّرت الرعونةُ المُتَمِّمة لمأساته الموصوفة، بتجميع مراكز القرار معًا فى غُرفةٍ بالمقرِّ المركزى، قبل أن يعرفَ مُستوى الاختراق وحدود صلاحيَّاته فى الوصول، وأن يضمن أنه بمأمنٍ من إذاعة حركته وتحديثاتها كما لو أنه موصولٌ بجهاز GPS.
حسن نصر الله ليس مُؤسِّسَ الحزب ولا أمينَه الأوَّل؛ لكنّه القيادةُ التاريخيَّة والأرفعُ قيمةً. كان من قواعد حركة أمل فى صدر شبابه، وعندما التقى عباس موسوى والتحق به؛ صار من دائرة الذراع الجديدة التى ورثت تركة نبيه برّى فى البيئة الشيعية. وإذا كان أوَّلُ الأُمناء قد قضى نحو سنتين فى المنصب، ولم يتجاوز «موسوى» تسعةَ أشهُرٍ قبل اغتياله؛ فإنَّ السيد نصر الله يقبضُ على مقاليد القرار لأكثر من اثنتين وثلاثين سنة. وفى زَمنِه تحقَّقت كلُّ النجاحات العسكرية والسياسية: انسحبت إسرائيل من الجنوب، وتخلَّص من مُنافسيه المُزعجين فى الداخل وعلى رأسهم رفيق الحريرى، واقتحم بيروت بالسلاح مُختصمًا حكومةَ السنيورة فى تثبيت ولايته على المجال العام، وخاض حرب العام 2006 مُعَزِّزًا الرصيدَ العاطفىَّ للشيعيَّة المُسلَّحة فى لبنان والمنطقة، ثمَّ انتزعَ «الثُلثَ المُعَطِّل» وصار صاحبَ القرار المطلق فى ترسيم قواعد الحُكم داخل الدولة. ومن غير المُحتَمَل فى حال غيابِه أنْ يتوصَّل الحزبُ لقيادةٍ على المستوى نفسه من الشعبيَّة والكفاءة، فضلاً على أنها تأتى فى مناخِ أزمةٍ وانحلال، ومع وَفرةٍ فى الشَّكِّ والانكشاف وتهَدُّم الجُدران الحصينة، ما يضعُ بين قائمة الاحتمالات أن يكون ذلك مُقدِّمَةً لانحسار الحزب، أكان لصالح «أمل» والرئيس برّى، أم لإعادة تركيب التوازنات الداخلية؛ اتِّصالاً بالطائف وابتعادًا عن اتفاق الدوحة فى 2008. باختصارٍ؛ غَيبةُ السيِّد ليست كأىٍّ من سابقيه، وما بعدها يختلفُ تمامًا عن كلِّ ما عاشَه الحزبُ منذ التأسيس إلى المحنة الخانقة.
قبلَ سَنةٍ تقريبًا، تردَّدَ فى الإعلام العِبرىِّ ما يحملُ معنى التهديد. قالوا إنهم يرصدون الأمينَ العامَ وتَبَدُّلَه على المقرَّات الآمنة، وقادرون على الوصول إليه فى كلِّ وقتٍ ومكان. أثار الحديثُ سُخريةَ الحِزبيِّين ورُعاتهم ومُحازبيهم، ولم يتجاوز لدى مُعارضيهم نطاقَ الدعايات والحروب النفسية؛ إنما ما حدث خلالَ الفترة الأخيرة يُرجِّح أنهم ما كانوا يَهذون، ولا يُطلقون بالونات اختبارهم فى الهواء، والسؤال: لماذا صَمَتوا عليه طوال الفترة السابقة إذا كانوا طائليه؟ ولماذا قَرَّروا أن يشطبوه من المُعادلة الآن بالتحديد؟ لا يعودُ الأمرُ بالتأكيد إلى عداوته الراديكاليَّة للاحتلال وهى من ثوابتِ خِطابه، ولا إلى «حرب الإسناد» المُتفرِّعة عن طوفان غزَّة وقد قاربت على السنة، كما لا يعودُ قَطعًا لانسداد قنوات التوافق معه؛ وكانت نَشِطَةً قبل سنتين فقط فى اتِّفاق ترسيم الحدود البحرية. الفكرةُ على الأرجح ترتبطُ بأجندة نتنياهو وخطَّته للحرب، وما يُريدُ أن يدفعَ الأوضاعَ الميدانيَّةَ إليه فى الفترة المُقبلة، على صِفَة الحسم الكامل فى بيئة الشمال بمُهدِّداتِها العميقة، أو سَعيًا لإرساء «مُعادلة الرَّدع» بصورةٍ تضمنُ ألَّا يشهدَ الجليلُ ما وقعَ فى القطاع، ولا أن يكون بمقدور «دائرة النار الشيعيَّة» إثارة الإزعاج؛ بعدما تنطفئ معركة الجنوب، وستنطفئ فى كلِّ الأحوال.
خَسِرَ الحزبُ فى عشرة أيَّامٍ ما لم يخسره فى عشرة شهور. تلقَّى ضرباتٍ قاسيةً منذ أكتوبر على صعيد الاغتيالات واستهداف الكوادر؛ إنما بقيِتْ أُصولُه على حالها، وخطوطُه الحُمر آمنةً نِسبيًّا. التطوُّر الأوَّل وقع باغتيال فؤاد شكر فى قلب الضاحية، وإذا فوَّت «نصر الله» الرسالةَ ساعتَها؛ فكان عليه أن يستوعِبَها بعد أقلِّ من 24 ساعة، عندما نُحِرَ إسماعيل هَنيَّة فى أحضان المُرشد والحرس الثورىِّ، ومن بُقعةٍ حصينة بعاصمة محور المُمانعة. كانت الضربةُ استكشافيَّةً أكثر من كونها للعقاب أو التصعيد، وأُرِيدَ منها اختبارُ حدود الغضب الإيرانى، وهل يقودُ لحربٍ تشتبكُ معها الولايات المُتَّحدة والحاضنةُ الغربية، أم يُمرِّرُ الأهدافَ الصهيونيَّةَ الجديدة مشفوعةً بخطابِ ضَمانٍ لصَمت الملالى، وابتلاعهم كلَّ ما يُمكن أن يتأتَّى لاحقًا خارج أراضيهم. وباختصارٍ ووضوح؛ فقد عاد المَظروفُ إلى تلِّ أبيب مَمهورًا بتوقيع القبول والإقرار.
تعرَّض الحِزبُ لخديعةٍ من رأس المحور. صحيحٌ أنها لم تكُن مقصودةً، ولا دار فى أذهان القيادة الفارسيّة أن تُضطَرَّ إليها تحت أىِّ ظرفٍ؛ لكنها حدثت فى النهاية، وبأسوأ الصُّور التى يُمكن أن يُلقيك بها أحدٌ فى النار وينصرفَ مُتجاهِلاً صِراخَك. بَشَّر المُرشِدُ بالتراجُع التكتيكىِّ أمام العدوِّ وأنه لا ضَيرَ فيه، ثمَّ تحدَّث الرئيسُ الجديد عن رغبتهم فى الانفتاح على الغرب، وأنهم لا يُعادون أحدًا، ويَرون الأمريكيِّين إخوةً، وبينما قال إنَّ الحزبَ لا يُمكنه التصدِّى لإسرائيل بمُفرده، مع فارقِ القوَّة والانحياز الغربىِّ، كما لو أنه يُلمِّحُ إلى جاهزيَّة بلدِه لإسناد الميليشيا اللبنانية، التى يرونَها حَليفًا وترى نفسَها لواءً تابعًا للحرس الثورىِّ؛ فإنَّ مسؤولين آخرين قالوا إنه قادرٌ على الدفاع عن نفسه، وكأنهم ينفضون أياديهم منه، ويكتفون بما قدَّموه له فى التسليح والتأهيل. وبينما راهنَ «نصرُ الله» على خطاب الصقور، تحرَّكت إسرائيلُ انطلاقًا من رسائل الحمائم، والخُلاصةُ أنها ما قرَّرت تصعيدَ هُجومِها على الضاحية، فيما يُشبه استنساخ النكبة الغزّية هُناك؛ إلَّا بعد ثِقتِها التامّة فى أنَّ مصيرَ الحزب مع الرُّعاة الصَّفَويِّين لن يكون مُختلفًا عن مصير حماس، وآخره الدعاية والرسائل الساخنة ومَزج الإملاءات بالمعنويَّات فحسب، وأنَّ كلَّ ما يُقال بشأن «وحدة الساحات» أو مَركزيَّة الأُصول العسكرية فى الإقليم بالنسبة لطهران، ربما كان يصلحُ للاستناد إليه فى حقبةٍ سابقة؛ لكنّه اليومَ لم يعُد مُغريًا لها إزاءَ ما تتطلَّعُ إليه من مكاسب فى عمليَّة التفاوُض والمُقايضة مع الشيطان الأكبر، أو ما تخشاه من خسائر؛ إذ هى تجاوزت شروطَ اللحظة، وأدارت المشهدَ المُركَّبَ والمُرتبِكَ فى الحاضر، بما كان يحكمُها من وعىٍ وتصوُّراتٍ وأوهامٍ بطوليّة فى الماضى.
أراد المحورُ الاستثمارَ فى الطوفان؛ إنما من دون أن يُسدِّد حصَّتَه الكاملةَ من رأس المال والنفقات. هكذا أملى على الحزب أن يفتحَ جبهةَ الشمال، ثمَّ انصرفَ عنه تمامًا مع تتالِى الضربات، وتأكُّده من العجز عن الذهاب فى المُغامرة لآخرها. والخطيئةُ كانت فى رَبط الجبهتين معًا؛ فصارَ على «نصر الله» أن يتشدَّد لتصليب ظَهر حماس، وعلى «السنوار» أنْ يتنازلَ لإنقاذ الحزب، وكلاهما يَصُبَّان معًا فى صالح نتنياهو وإسرائيل. وفى الذاكرة أنه عندما لاحت فُرصةٌ وشيكة للهُدنة فى أواخر أبريل الماضى، خرج خامنئى بنفسِه مُعترضًا، ولم تكُن ضربةُ القُنصليَّة الإيرانية فى دمشق قد جَفَّت بعد. وهُنا ثمَّة تناقُضٌ غير مفهوم؛ إذ أنكرتْ طهران علاقتَها بهجمة القطاع، وعنَّفَتْ «هنيّة» عندما طالبت الحركةُ بانخراط الجمهورية الإسلامية فى المعركة، وفى الوقت نفسه قطعَتْ كُلَّ الطُّرق على تليين المواقف لاغتنام فُرَص التهدئة؛ رغم صعوبتها غير المُنكَرَة. والناظرُ من الخارج لا يُمكِنُ أنْ يُفسِّر المسألةَ إلَّا بالتلاقِى مع حكومة اليمين الصهيونى فى أهدافها، وقد بدا أنَّ إطالةَ الحرب لا تصبُّ فى صالح أحدٍ إلَّا تلّ أبيب؛ فكأنَّ عقلَ المُمانَعة أحسَّ ببوادر الهزيمة، وبدلاً من التراجُع؛ قرَّر أن يُلقِى كلَّ حَطَبِه فى النار الهائجة، على أمل أن يُحصِّل منفعةً مُرجَأة، أو يستنقذَ نفسَه على الأقل. إذ من دون ارتداعِ حماس والحزب؛ فالأمرُ قد يتمدَّدُ وُجوبًا إلى الدولة الفارسيّة، أو مَرافقِها النوويّة؛ لذا فإنها تحتاجُ للتفريط هُنا، لتَتجنَّبَ الإفراطَ هُناك.
مُفارقةٌ مُضحكةٌ مُبكِية فى آنٍ واحد، أن يتدخَّل نصرُ الله لإنقاذ السنوار، فيُنحَر بسهولةٍ مُوجِعَةٍ بينما لم تتمكَّن إسرائيلُ إلى اللحظة من قائد حماس. هكذا لا يعودُ الحديثُ عن الإسناد ذا معنى، إذ لم يستنقِذْ غزّةَ ولا وَفَّر لِترًا من دمائها، بينما وَضَع لبنانَ فى عين العاصفة. والمأساةُ شمالاً أنكى وأفدحُ من الجنوب؛ إذ المسألةُ فى فلسطين بين مُقاومةٍ واحتلال، ودولةٍ ضائعةٍ يُبحَثُ عنها بين رُكام التاريخ والجغرافيا، بينما فى ساحلِ الشام تقومُ الدولةُ اللبنانية فعلاً، وما يحدثُ يُهدِّد بضياعِها، فى سياقٍ مُتخَمٍ بالأزمات ولا تنقُصُه أزمةٌ جديدة؛ أكانت بإملاء إيران أم بإجرام إسرائيل. فضلاً عن ضغوط ذلك على الخواصر الهَشّة فى سوريا والعراق، وما يُهدِّدُ به من ترقية مخاوف الوصول إلى مُواجهةٍ شاملة، وخطورة التصعيد فى ترجيح كفّة ترامب على حساب هاريس، ما يعنى عودة أشرس الإدارات الجمهورية، وبدء جولة من العداء الصاخب بين واشنطن وطهران. لهذا تنصرفُ غايةُ المُمانِعين الكُبرى إلى إيقاف الحرب، وكانوا يعتبرونها قبلَ سنةٍ واحدةٍ فُرصةً استثمارية لا تُقاوَم، ومُنتهى أملِ «حماس» اليومَ أن تعود إلى السادس من أكتوبر؛ فكأنَّ ما حدثَ كان مُغامرةً مُعلّقةً على الظروف واتجاهات الريح، وليست مُنطلِقَةً من رُؤيةٍ استراتيجيَّةٍ أو برنامجٍ سياسىٍّ واضح.
بِيْعَ الحزبُ من أوَّل الردِّ الاستعراضىِّ «فارغ المضمون» على قصف القنصلية، ثمَّ الصمت المُطبِق والمشفوع بيمينٍ مُغلَّظةٍ عن أن إيران لن تنجرف للحرب، وبالتبعية لن تردَّ على اغتيال قائد حماس السابق. كأنها قدَّمت لإسرائيل ما يحمل معنى المُوافقة الضمنيَّة على تصفية حساباتها من الأذرُع، والاطمئنان التام إلى حياد الرأس. وبعدما أخذت الجولةُ إيقاعَها الراهن؛ لم يعُد حتى الرجوع للميدان مُزعجًا أو قادًرا على تغيير المُعادلة؛ لأنها ستشتبك من نقطة الذروة، والوحشيَّة الصهيونية فى أَوْجِها، والولايات المُتَّحدة أعادت توزيعَ قُوَّاتها وتتحضَّر للأسوأ. وأقصى ما يُمكن حدوثه أن يتوقَّف الحزبُ لترتيب أوراقه، مع مُناوشاتٍ عارضةٍ لإثبات الوجود لا أكثر، وربما يتلقّى أمرًا صارمًا من قيادته الفارسية بالتراجع، أو يُفرَض على «السنوار» الذهاب لتهدئةٍ سريعة ولو بشروطٍ غير مثالية؛ لأجل تبريد جبهة الشمال دون اضطرارٍ لفَكِّ الجبهتين بما يحملُه من معنى الهزيمة. والمُشكلة على التَّمَاس اللبنانىِّ أنه بعيدٌ من الحاضنة العربية المُعتدلة، وتغيب عنه الوساطةُ الحاضرةُ فى غزّة، أمَّا القادرون على التدخُّل فأبرزهم واشنطن وباريس، وكلاهُما يلعبان فى فريق إسرائيل على اختلاف المراكز والإسهامات. كان وضعُ نتنياهو لعنوان إعادة المستوطنين النازحين بين أهدافه مناورةً ذكيّة، لم ينطلِقْ فيها من إبداء رغبته فى الحرب، ولا تصعيد مطلبِه لمستوى الإفناء كما مع حماس، لكنه توصَّلَ من خلالها للهدف نفسه، بفضل ارتباك رؤية الطرف الآخر، وعدم قراءته الديناميكية الواعية لتطوُّرات الميدان، وما تشهده المنطقةُ من تبدُّلاتٍ حادّة ومُتسارعة فى الوقائع والتوازنات.
ربما يُنظَر لحربِ الإملاء والإسناد باعتبارها ضرورةً وُجوديَّة للحزب؛ لكنَّ إزاحةَ «نصر الله» بتلك الصورة أحدثت شرخًا فى جدار المُمانَعة، وضربت ثقةَ الحزب فى نفسِه وحُلفائه؛ بعيدًا بالطبع من التزامه العقائدىّ تجاه العتبات المُقدَّسة. الاغتيالُ مقصودٌ بالشخص والأثر، وقد تتبعه تحرُّكاتٌ بَرّية، والمناخُ غائمٌ فيما يخصُّ أوراقَ الاحتلال المُخبّأة، من مفاجأة البيجر إلى مَسح قادة الرضوان، ثم عمودِ خيمته الأكبر؛ ولعلّ ما يُخفيه أكبر. يحتاجُ لبنان، وعلى وجه السرعة، إلى لَملَمة نثار الجبهة الداخلية، شريطةَ أن تعودَ الميليشيا الشيعيَّة للحاضنة الوطنية، وأن يكون الهدفُ استنقاذَ الدولة لا البقاء على أطلال الدعايات المذهبية. وأخطر المُهدِّدات أن يذهبَ لتفسير مواقف الرافضين بالخيانة والتواطؤ، لا سيَّما أنَّ نقدَ اللبنانيين سابقٌ على حرب غزّة، والاعتراضات تُلاحقه من مقتل الحريرى إلى تعليق انتخاب الرئيس. طُوِيَتْ صفحةُ الأمين العام بيدٍ صهيونيّة غاشمة؛ إنما على وَرَثته أن يَطووا الكتاب الذى كان يقرأ فيه، من مُنطلَقٍ وطنىٍّ يستوعبُ أنه لم يُنظَر له خارج نطاق الوظيفيَّة والاستتباع، وأن الحُلفاء ضحَّوا به عندما لاحت لهم مخاطرُ أصعب أو مكاسبُ أكبر، ولا ضمانةَ له إلَّا أن يكون لبنانيًّا أوَّلاً وأخيرًا، لبنانيًّا فحسب، وليس أىَّ شىءٍ آخر؛ مهما كان زاعقًا فى الخطابة ومُشبِعًا للعاطفة.