حازم حسين

عناق القاهرة وأنقرة.. ساعة بالطائرة تُلخّص جهود سنوات فى التعقل والسياسة

الخميس، 05 سبتمبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لا مُبالغةَ إطلاقًا فى القول إنها زيارةٌ تاريخية. هى كذلك على معنى أنها الأُولى من نوعها بين الإدارتين، ومن ناحية أنها تُؤسِّسُ لمرحلةٍ جديدة فى العلاقات، وتُعيد العناقَ بين عاصمتين هما الأكبر والأهم فى منطقتهما. وعندما حطَّت طائرةُ الرئيس السيسى فى قلب تركيا؛ كأنَّ الزمنَ يتجمَّدُ لبرهةٍ، ثمّ تدورُ عقاربُ الساعة للوراء عقدًا أو يزيد. الرحلةُ بمثابة جسرٍ عريض بين القاهرة وأنقرة، يُقيم عمادَ ما كان رخوًا أو مُتهدّمًا، ويُوطِّدُ الركائزَ الصالحة لتعلية البناء كما يتطلَّعُ البَلَدَان، ويليقُ بهما، ويملكان الإمكانات الفِعليَّة لإنجازه. إنها مسافةٌ تزيد قليلاً على 1100 كيلومتر فى السماء، تقطعها الطائرة فى أكثر من الساعةِ بقليل؛ لكنها احتاجت قبلَها إلى سنواتٍ من السياسة والكياسة والتعقُّل وفضيلة المراجعة والانصاف.

عشرُ سنواتٍ منذ اعتلى الرئيسُ السيسى موقعَ المسؤولية فى مصر، لم يتبدَّل خطابُه خلالها، ولا حادَ عن الثوابت الاستراتيجيَّة التى وضعَها للسياسة الخارجية، وجوهرُها الحوار والتكامُل على قاعدة السيادة والاحترام المُتبادَل، وعدم الانسياق وراء الشعبويَّة المُتأجِّجة عاطفيًّا، أو الافتتان بالأعمال الاستعراضية والمُغامرات الخفيفة. وعلى كثرة ما شهدته المنطقةُ من مُثيراتٍ وعوامل قلقٍ واضطراب، ظلَّت مصرُ فى موقعها العاقل بين كلِّ التجاذُبات، تلعبُ دورًا إيجابيًّا ملموسًا لتذويب الخلافات وتقريب الرُّؤى، كلَّما كان ذلك مُمكنًا، ولا تقترفُ الأدوارَ السلبيَّة مهما كانت الضغوط، ومهما تبدَّى فيها من فُرَص مواتيةٍ، ومنافع مرحليَّة أو دائمة. والحال أنَّ حَركيَّة الإقليم تُثبِتُ صوابَ رهانِها يومًا بعد آخر، وتقطعُ بأنَّ ما أسَّست عليه جمهورية 30 يونيو دعائمَ نظامها، وفلسفةَ تحرُّكها فى مجالها الحيوىِّ، يربحُ بحسابات المنطق والإدارة الرشيدة، ويتجاوزُ كلَّ ما يُلقَى على الطريق من أحجار، وما تطرأُ عليها من عثرات.

لم تُضبَطْ الدولةُ المصريّةُ مُتلبِّسةً بالانتهازيَّة فى أىِّ قولٍ أو فِعل. ربما لم تكن الظروفُ سانحةً لتفعيل أجندتها الإطفائيَّةِ طوالَ الوقت؛ لكنها ظلَّت على الدوام محلَّ احترامٍ مُعلَنٍ أو مكتومٍ من الأعداء قبل الأصدقاء، وهو ما كان يتكفَّل دومًا بتصويب الانحرافات وإعادة المياه إلى مجاريها. هكذا تحرَّكت فى ملف ليبيا، وتعاطت مع أزمة السودان، وتُدير اشتباكَها اليومىَّ لنحو سنةٍ على الجبهة الفلسطينية، فضلاً عن دورها الفاعل ضمن اللجنة الخُماسية فى لبنان، وجهدها الدؤوب على المحور السورىِّ منذ فَتح قنوات الاتِّصال، حتى استعادة دمشق لمقعدها فى الجامعة العربية. عادت إلى أفريقيا بعد انقطاعٍ برُوحٍ جديدة وعقلٍ مُنفَتح، وأسَّست لمساراتِ تعاونٍ نوعيَّة فى شرق المتوسط والشام الجديد وغيرهما، وما انتقدت بلدًا على سعيه وراء مصالحه طالما يلتزمُ القانون والأعراف وحُسنَ الجوار، ولا زايَدَت على قريبٍ أو بعيد. وإذ تنتهجُ القاهرةُ هذا السلوك الناضجَ، فإنها لا تأتيه عن ضعفٍ أو قِلَّةٍ فى الحيلةِ والخيارات؛ بل من احترامٍ لموقعها فى التاريخ والجغرافيا، والتزامٍ أخلاقىٍّ ينسجمُ مع هُويَّتها الحضارية، ومن إيمانٍ حقيقىٍّ بقُدرة الدبلوماسية على وَصل المُنقطِع بين الدُّوَل، وأنَّ إنفاقَ سنواتٍ فى تعبيد الطُّرق وإقامة الجسور؛ أجدى وأقلُّ كُلفةً من شهورٍ تلمع فيها النار على صورة الذهب. والأهمُّ أنه لا قُدرةَ لأحدٍ على أن يتجاوز حقائق الواقع، ولا أن يقفزَ على الخرائط والأُصول المعنويَّة الراسخة، كما لا بديلَ للجميع عن سِعَة الصدر، وقُوَّة الحُجّة، والانخراط الأمين فى ورشة البناء الجماعىِّ.

وصل الرئيسُ السيسى إلى العاصمة أنقرة بعد ظهر أمس الأربعاء، فى أوَّل زيارةٍ رسميَّةٍ له؛ تلبيةً لدعوة نظيره أردوغان، الذى كان فى مُقدّمة مُستقبليه فى المطار. الرسائلُ الأُولى حملت تعبيرًا عن سعادته بالمناسبة، وأنها تخطُّ ملامحَ مرحلةٍ جديدة من الصداقة والتعاون، مُجَدِّدًا التأكيدَ على ما يجمعُ البلدين من علاقاتٍ تاريخيَّة وشعبيَّة مُتأصِّلة، وروابط سياسية قويّة منذ تأسيس الجمهورية التركية قبل قرنٍ من الآن. ثمّة بديهياتٌ لا تحتاجُ للاستطراد فى المدار المصرىِّ التركى، إذ يعرفُ الطرفان بعضَهما جيِّدًا على المستويين الرسمى والشعبى، والمُشتركاتُ الثقافيَّةُ بينهما أكبرُ من التعداد والحصر، بينما تفرضُ الحقائقُ الجيوسياسية عليهما أن يكونا أوثقَ صِلَةٍ ممّا كانت عليه الحال، لا سيّما وقد دخلت المنطقةُ فى مرحلةٍ من الغربلة التى تُشبِهُ التفكيكَ وإعادةَ التركيب، وتتخطَّفُها أجنداتٌ ونوازعُ بعضُها إقليمىٌّ، وأغلبُها وافدٌ من مياهٍ بعيدة. ولا يُمكن أن تتأمَّن مصالحُها الحيويَّةُ بعيدًا من التقاء قُواها الكُبرى، والتفاهُمِ على الثوابت والمَركزيَّات التى تُبقِى المسائلَ كُلَّها فى حيِّز التنافس الطبيعىِّ، ولا تُيسِّرُ للاعبين من الخارج أن يُحوِّلوها إلى خصامٍ وشِقاق.

ما يقعُ على أكتاف غزّة يخصُّ القاهرة وأنقرة، ويُؤلِمُهما معًا بدرجةٍ واحدة، ومن صالح البلدين أن تستعيدَ سوريا عافيتَها، وأن يعودَ العراقُ قويَّا وفاعلاً فى نطاقِه الحيوىِّ، ولا تظلّ ليبيا فى هياجٍ لا أُفقَ له، بينما تتدحرجُ كُرةُ النار فيما بين السودان والقرن الأفريقى، كما يعنيهما ألّا تستبدَّ النَزعاتُ الأُصوليَّةُ والميليشياتية بالإقليم على خلافِ مصالحه العُليا، وثوابتِه الاستراتيجيَّةِ التى لا تقبلُ الفِصَال أو المُقامرة. وبعيدًا من ارتباك السياسة فيما بعد الربيع العربى، والتداخلات المُعقَّدة بين أطرافٍ من خلفيَّاتٍ وحُقولٍ شتَّى؛ فالسنوات التالية تكفَّلَتْ بإجلاء الحقائق وإزاحة الغبار عن البرواز العريض. ولم يعُد مَحلَّ شكٍّ أنَّ الاستثمارَ فى الاستقرار ضمانةٌ لا غِنَى عنها لكلِّ الأطراف النظاميّة ذات الأوزان الثقيلة، وأنَّ المنطقةَ ترتكِزُ فى ميراثِها الحضارىِّ على ثلاثةِ أعمدةٍ كُبرى: مصر والعراق وإيران، ومثلِها فى الثِقَل الاستراتيجى: مصر والسعودية وتركيا؛ وإذا أمكَن تحييدُ المُكوِّن الثقافىِّ بأثر الاشتباكات الأيديولوجيَّة؛ فإنَّ الفاعليَّةَ الجيوسياسيَّةَ تكتسِبُ أهميّةً مُضاعَفة لناحيتين: أنها تُوظِّف إمكاناتِ المنطقة على أحسن ما يكون، ثمَّ إنها تُعوِّضُ الفاقدَ فى الناحية الثانية. بمعنى أنَّ بقاءَ إحدى الدائرتين آمنةً، بوِسْعِه أن يُقلِّصَ ارتباكَ الثانية، وأن يدفعَ فى اتِّجاه ضَبطِها وإعادة تفعيلها على الوجه السليم، أو الأقرب للسلامة على الأقلّ.

أجندةُ العمل الرئاسيَّةُ تنطوى على تفاصيلَ مُهمّةٍ، بدءًا من القيمة السياسية والسيكولوجية للزيارة نفسِها، ثمَّ تفعيل مجلس التعاون الاستراتيجى رفيع المستوى، وإبرام عددٍ من الاتِّفاقات وبروتوكولات التعاون فى مجالاتٍ حيوية للبلدين. لكنَّ الرسالةَ الأهمَّ تنبعُ من إدراك السياق الذى تعيشُه المنطقة، والتعاطى معه بإيجابيَّةٍ تتجاوز الماضى، إلى ما يُفرَضُ من الحاضر ويُؤمَلُ فى المستقبل. والحال أنَّ مصر وتركيا يعيشان الظروفَ ذاتَها تقريبًا، ورغم اختلاف الحوادث والمسارات خلال العقد الأخير؛ فإنَّ ارتدادات الرياح الساخنة فى أنحاء الإقليم لفَحَتْ اقتصَادَى البلدين وألقت عليهما مزيدًا من الأعباء. القاهرةُ بعد ثورتين وتحدِّياتٍ أمنيَّة وعواصف هائجةٍ من الداخل والخارج، تختبرُ تجربةً غيرَ يسيرةٍ فى العبور الآمن بخُطَطِها للتنمية والتحديث، وأنقرة فى حالٍ شبيهة مع فائض الاستقرار واختلاف السياسات، ولديها متاعبُ فى المُؤشِّرات المالية والاقتصادية، وفى قيمة العُملة ومُعدَّلات البطالة والتضخُّم. وما فرَّقَتْه الدراما الخاصّةُ بكلِّ بلدٍ وفقَ امتحاناته الماضية؛ تُوحِّدُه المآلاتُ التى فُرِضَت عليهما بالتساوى، وتقودُهما من رحم تلك الوحدة إلى إلزاميّة الاتحاد فى مُعالجة الأزمات، بالتلاقى على وِفاقٍ فى الأفكار والبرامج، واختبار القُدرات الكامنة والتطلُّعات المُتطابِقَة، والمزايا التى يحوزها كلُّ طَرَفٍ ولا تتوافر لدى الآخر، من أجل الوصول إلى أوَّل محطّةٍ على طريق التعافى المُشترك.

زيارةُ السيسى لأنقرة حصيلةُ خَمسِ سنواتٍ من العمل. بدأ التقارُب بين البلدين فى العام 2019، ولعبت المُؤسَّساتُ الصُّلبة والدبلوماسيَّةُ دورًا مُهمًّا فى تذويب الخلافات وتعميق التوافقات. وكان لقاءا الرئيسين فى قمَّة العشرين بالهند، ثمَّ فى افتتاح كأس العالم لكُرة القَدَم بقطر، فضلاً على الاتصالات الهاتفية فى مُناسباتٍ عِدّة، فاتحةً لإعادة الأُمور إلى نصابها بين العاصمتين المركزيتين فى الكُتلة الإسلامية والشرق أوسطيّة، لا على صعيد الحاضر فقط؛ إنما فى التاريخ والذاكرة المُشتركة لشعوب المنطقة. حلَّ أردوغان ضيفًا على القاهرة فى مُنتصَف فبراير الماضى، وكانت زيارتَه الأُولى لها رئيسًا للدولة التركية، كأنَّه كان يُخطِّطُ رُوزنامةً جديدةً للعلاقات على صِفَة الشراكة بين جُمهوريَّتين جديدتين تمامًا، مُنقطِعَتَيْن عن ماضيهما القريب ومُتَّصِلَتَيْن بعُمقِهما الحضارىِّ فى الآن ذاته. ما يسمحُ بإعادة قراءة المُدوّنة حديثة العهد بينهما بلُغَةٍ مُغايرة، تُؤكِّدُ تقديرَ مصر للجناح المُقابل لها على أقاصى الإقليم، بقدر ما تُثَبِّتُ احترامَ تركيا لإرادة المصريين وثورتهم، وللطابعِ المَدَنىِّ الذى اختاروه لبلدهم بإرادةٍ حُرّة، واعتباراتٍ وطنيَّةٍ خالصة.

لدى الجانبين طُموحاتٌ عاليّةٌ فى الحقبة الجديدة. حجمُ التجارة البينيَّة يتجاوزُ 7 مليارات دولارٍ بحسب أرقام العام 2022، وكانت أعلى مُستوياته سابقًا عند 10 مليارات، ويتطلَّعان لترقِيَته إلى 15 مليارًا. لتُركيا اقتصادٌ كبيرٌ ومُتنوّع، وقَطَعَتْ شَوطًا بعيدًا فى التِّقنية والصناعات المَدنيَّة والدِّفاعية، ولمصرَ جِسمٌ سُكّانى عملاق، وإمكاناتٌ لوجستيّةٌ وبشريَّةٌ تسمحُ بتسريع وتيرة التنمية أضعافَ ما هى عليه، كما أنَّ كُلاًّ منهما يُمكن أن تكون بوَّابةً للأُخرى على مجالٍ فسيح: شرق أوروبا والقوقاز من جهة الأناضول، وبقيَّة حَوض المُتوسِّط وأفريقيا من ناحية دلتا النيل، فضلاً على إمكانيَّة الاستفادة من اتفاقات التجارة الحُرّة للطرفين مع دول العالم، وما يُمكن أن يُثمِّره التعاون فى السياحة والزراعة والطاقة وتبادل الاستثمارات، والمزايا النسبية لديهما فى مجالاتٍ صناعيّة عدّة كالنسيج والأجهزة الكهربائية والأغذية وغيرها. وفى القلب من كلِّ ذلك، تفعيل القُدرات السياسية والاستراتيجيَّة بما يُحصِّن المنطقةَ من الشَّرَر المُتطاير قصدًا أو اعتباطًا، ويُحفِّزُ جهودَ الاستقرار وتثبيت الأوضاع فى البيئات المُلتَهِبَة، ويستنقذُ غزّةَ والقضيَّةَ الفلسطينية ممَّا يحيقُ بهما من مخاطر ونكبات.

تحدِّياتُ البلدين مُتشابهة، ومصالحُهما مُشتركةٌ. لكليهما أجندةٌ وطنيَّةٌ بنكهةٍ مَدنيَّة، واختبرا أثرَ الأُصوليَّات وثِقَل وطأتها على السياسة والتنمية. أمَّا الرصيدُ الحضارى فإنه كفيلٌ طوالَ الوقت بضبط العلاقة، وتنظيم المسارات، وابتكار اللُغةِ الاتِّصالية وتكييفها بحسب الحوادث والتطوُّرات. وإذا كان المَلمحُ الثابتُ فى رؤية مصر لسياستها الخارجية، يستندُ إلى احترام سيادة الدول ومصالحها، وإلى قاعدة «الاتِّزان الاستراتيجى» فى المواقف والصراعات، ولَعبِ أوراق التهدئة دائمًا بدلاً من النفخ فى النار؛ فإنَّ التلاقى مع الشريك التركى اليومَ على تلك القاعدة يُمكِنُ أن يُعيدَ ترسيم كثيرٍ من خرائط المنطقة المُتأجِّجة، وتجفيف مُستنقعات الفوضى والتوتر فى أنحائها، وإعانة الدُّوَل الواقعة على خطوط الأزمات فى تصليب عُودِها، والانبعاث من جديدٍ على ما يحفظُ ثوابتَها الوطنية، ويخدمُ التصوّرَ الجامعَ نحو ترسيخ قواعد عملٍ إقليميَّةٍ فعَّالة ومُثمرة. والبَلَدَان إذ تتقاطعُ دوائرهما الأمنيَّةُ والاقتصاديَّةُ فى عددٍ من الاتجاهات؛ فإنهما قادران معًا إلى التسانُد وتعزيز مراكزهما الفردية والمُشتركة، وضمان ألَّا تكونَ التمايُزاتُ فى الرُّؤى حائلاً عن الإنجاز على الأرض؛ فعَبْرَ العلاقة الدبلوماسية الحَيَّة، وقناة الاتِّصال الديناميكية من خلال مجلس التنسيق رفيع المستوى، ستَتَّخذُ التفاعُلاتُ صورةً أرشق وأكثر انسجامًا، فى السرعة والكفاءة، وفى المَردود والثمار.

مُدوَّنةُ أسفارِ الرئيس السيسى تمتلئ بنحو 150 زيارة خارجية، شملت ما يزيدُ على 60 بلدًا فى قارات الأرض، والمعنى أنَّ القاهرة ساعيةٌ دومًا إلى الحوار، والعمل الجاد، والتفاعُل المُباشر بكلِّ ما فيه من مزايا الصدق والمُكاشفة وتمتين الروابط. وأنْ تكونَ تركيا بين محطَّاتِه المُهمَّة فى مُستَهَلّ ولايةٍ رئاسية جديدة؛ فإنّه يسيرُ على عادته فى الولوج من كلِّ الأبواب المُمكنة، ولا غايةَ إلَّا أن تكون الدُّوَل قادرةً على الجلوس لمائدةٍ واحدة كما يجلسُ الأفراد، وأن تُطرَحَ الشواغلُ والمُلاحظات على قدم المساواة مع الفُرص والإغراءات. ومثلما أشَرْتُ فى السابقِ إلى أنَّ الزيارة التى قطعتها الطائرةُ فى ساعةٍ، كانت حصيلةَ سنواتٍ من التعقُّل والسياسة؛ فإنها تُؤكد أيضًا ما بلغَتْه الدبلوماسيَّةُ المصرية من نضجٍ واقتدارٍ على مُوازنة الأُمور بحساباتٍ موضوعيّةٍ مُجرَّدة، واحتواء كلِّ المصاعب والمَشقَّات دون إهدارٍ للأُصول الثمينة، أو انصرافٍ عن حقيقة أنَّ الزمن دوَّارٌ كالأرض نفسِها، ولا حقائقَ نهائيَّةً إلَّا الثابت الوطنى، وحاجة الجميع للجميع.

جسرٌ وطيدٌ بُنِى اليومَ بين القاهرة وأنقرة، سيعملُ الجانبان بالتأكيد على تَمتِينِه وتمكينه من أن يحملَ آمالَهما العريضةَ، لنفسيهما أوّلاً، ثمَّ للمنطقة ودُوَلِها بطبيعة الحال؛ إذ لا تستقيمُ المصالحُ الوطنيَّةُ دونَ غلافٍ إقليمىٍّ مُعِينٍ لها وأمينٍ عليها. ومصرُ التى أنفقت كثيرًا فى السابق لأجل التقارُب وترصيص الصفوف، وكانت رافعةً فى كلِّ الفعاليات الجَبهويّة الطموح، بدءًا من الجامعة العربية فمُنظَّمة التعاون الإسلامى وحركة عدم الانحياز وغيرها الكثير؛ تمضى دومًا على طريق الاتِّصال لا القطيعة، والوِفاق لا الشِّقاق، وتحفظُ للآخرين أقدارَهم دون تهوينٍ أو تهويل، وبِلا غُلوٍّ فى المواقف والشعارات؛ لا سيَّما لو كانت ممَّا ينحو للشعبويّة ويُخاطِبُ العاطفةَ لا العقل. إنها بدايةٌ مُهمَّة لطريقٍ وجوبىٍّ على حاضرتين كبيرتين فى مُحيطهما، ومَركزين من أهمِّ المراكز التى يُعَوَّلُ عليها فى سياسة الأُمور، ولَعب أدوارٍ وازنةٍ إزاءَ العِلَل والاختلالات. وأحسبُ أنهما قادرتان على إنجاز ما يُعلَّقُ عليهما من تطلُّعات؛ إذ لا يفقتدان للرغبة أو القُدرة، كما لا رفاهيةَ فى الوقت وفُسحة التجربة والخطأ. الإقليمُ بكامله على حَرفٍ من الاشتعال، وفى هكذا سياقٍ لا يُمكن أن تذهبَ العيونُ إلَّا إلى حواضره الكبرى، وهذا ممَّا لا يغيِّبُ قطعًا عن قيادات البلدين.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة