حازم حسين

الطبل هنا والعُرس فى واشنطن.. هل يصوب نتنياهو على الليبرالية من بندقية بايدن؟

الأحد، 08 سبتمبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لا صفقةَ فى المدى المنظور، إذ على ما يبدو أن نتنياهو حزمَ أمرَه بشأن استمرار الحرب حتى يتصاعدَ الدخانُ الأبيض من مداخن واشنطن، وتُعرَفَ هُويَّةُ الرئيس المُقبل بما تترتَّبُ عليها من التزامات، ووقتَها سيكون الاتفاقُ عربونَ محبَّةٍ للإدارة الجديدة. والتعنُّتُ الراهنُ بقَصدِ الإرجاء لا ينبعُ من حساباته الشخصية فحسب؛ بل يُقصَدُ منه أن يكون أداةً لتوجيه الانتخابات الأمريكية، ما يسمحُ وفق ذهنيَّة زعيم الليكود بأن يتخلَّص من إزعاج الديمقراطيين، ويُلاقى حليفَه المُفضَّلَ على موعدٍ تتبدَّلُ فيه المُعطيات، وتُجنَى المكاسبُ المقصودةُ كلُّها بأثرٍ رجعىٍّ، أو هكذا يتخيَّلُ أنَّ حلول ترامب بدلاً من بايدن ونائبته، سيُطلِقُ يدَيه فى إنجاز خطَّته للنزاع الراهن، ولمُستقبل الدولة الفلسطينية المُعلَّق بين شَدٍّ وجَذب، تتقدَّمُ فيه القوَّةُ على السياسة، ويتخطَّى الميدانُ أسقُفَ القانون وسوابق القرارات الدولية.

والمُؤكَّد بعد كلِّ تلك الشهور من المُماطلة والتلاعب بالحليف العجوز، ما عادت النوايا خافيةً على البيت الأبيض؛ لكنه لا يعرفُ كيف يتعاملُ مع شريكٍ مُنِحَ كلَّ الامتيازات دون مُطالبته بأىّ شىءٍ، ولا سبيلَ اليوم لترويضه عند الحدود الضامنة للمصالح الأمريكية، أو على الأقلِّ إلزامه بأن يكون مُحايدًا فى موسمٍ انتخابىٍّ شديد السخونة.


لعب نتنياهو أوراقَه على طاولة السباق الرئاسىِّ مُبكِّرًا. لم تكُن الهُدنةُ الأُولى والوحيدة فى نوفمبر الماضى؛ إلَّا محاولة لامتصاص الضربة الافتتاحية، تمهيدًا لمباراةٍ من الأشواط المفتوحة. أراد وقتَها أن يستكشف حدود «حماس» فى الأثمان المطلوبة بعد طوفان الأقصى، ويُبرِّدَ الشارعَ الإسرائيلىَّ قليلاً بعد الصدمة، ثمّ يُرخِى للإدارة الأمريكية ما يكفى من عوامل الجذب؛ ليقتنصَ كلَّ ما يُمكن من صُور الدعم والمُساندة، مع إيحاءٍ بجاهزيّته لمُلاقاة واشنطن فى المحطَّات الضرورية؛ إذا رأت وجوبَ النزول عن الشجرة. وقد حقَّقت له الصفقةُ باقةً من الأهداف: أوحى للجميع بإمكانية الاتفاق، وتركَ للغزِّيين مَرجعًا تُقاس عليه موجاتُ التصعيد اللاحقة؛ فتنقلب المشاعرُ تجاه الفصائل؛ وقد بدا أنَّ بإمكانها مَنحَ القطاع مزيدًا من مُهَل التقاط الأنفاس، إنما الأخطرُ أنه نوَّمَ إدارةَ بايدن قبل أن يستنزفَ كلَّ إمكاناتها، وينفُضَ يدَه منها لاحقًا وقد دخل سباقُها الانتخابىُّ مرحلةَ الحسم، وتأمَّنَت حظوظُ المُرشَّح الجمهورى بدرجةٍ تسمحُ بالرهان عليه والاشتغال فى حملته. وبهذا المنطق لا يُمكن النظرُ للمُراوغة الدائمة إلَّا من زاوية تضييع حظوظ الديمقراطيين، بالضبط مثلما ذهب للكونجرس على غير هوى الإدارة، ونقلَ الجدلَ الأخلاقىَّ بشأن نكبة فلسطين إلى الداخل الأمريكى، مع الاستمرار فى مَنح الترضيات لبايدن فى الغُرَف المُغلقة، وسَلبه إيَّاها فى العَلَن.


عندما طرحَ سيِّد البيت الأبيض ورقتَه لاتفاق الهُدنة أواخرَ مايو، قال إنها مُقترَحٌ إسرائيلىٌّ أنتجَته حكومةُ تل أبيب، أو أُنتِجَ بالتوافق معها، ومنذ اللحظة الأُولى أعلنَ نتنياهو اعتراضَه عليها، ثمَّ أخذ يُبدِّل فيها ويستحدثُ على بنودها، وبعدها اجتاح رفح وسيطر على محور فيلادلفيا، ثمَّ جعل منه «مسمارَ جحا» الذى يشبكُ فى طرفِ أيَّة مُقاربةٍ فيقطع أوصالَها. الشهورُ الثمانيةُ الأُولى كان مطلبه إفناء حماس أو تحييد قدراتها، مع استعادة الأسرى وتعقيم الإدارة التنفيذية للقطاع؛ أمَّا الأشهرُ الثلاثة التالية فقد جعلَ من الهيمنة على خطِّ الحدود ثابتًا لا يقبلُ النقاش؛ والقَصدُ ليس أن يستدركَ خطأً استراتيجيًّا كان يتصالحُ معه فى ثلاثة أرباع الحرب؛ بل أن يُعمِّقَ الفجوةَ بين ما يُراد تحقيقُه، وما يُمكن تحصيلُه فعلاً؛ بحيث يضمنُ تفخيخَ الطاولة فى أحسن الظروف، أمَّا فى أسوأها فقد يستخلصُ تهدئةً برائحة النار والبارود، وبما يسمحُ له بأن يُلوِّحَ بصورة النصرِ المطلوبة، ويُفجِّرَ الميدانَ فى أيَّة لحظةٍ تقتضيها الأجندةُ التى لا يعلمها سواه.


ما طُرِحَ أوَّلَ الأمر كان حديثًا عن المخاطر وتحييدها؛ لكنَّ الحربَ صارت مع الوقت غايةً مطلوبةً لذاتها. حدث تصحيفٌ فى رُزمة الأهداف من واقع التطوُّرات الميدانية، أو استُدعِىَ ما كان كامنًا فى وعى الصهيونية بجناحيها القومىِّ والدينى؛ لاستغلال الفرصة التى رأوها مُواتيةً للتعجيل بمُخطَّط الابتلاع ونسف الجسور مع أيَّة تسوية سياسية. والأداةُ فى ذلك أن يُنتِجَ التصعيدُ وقودَه الذاتىَّ من داخل الحالة الجنونية المُستعرة. عنفٌ مفتوحٌ لاستنهاض أقصى صور الردِّ المُتاحة، وتعقيبٌ على الردود بمزيدٍ من البطش. وتوازناتُ الميدان هُنا تلعب دورًا مزدوجًا؛ إذ التصدِّى للآلة الإسرائيليَّة يُوجب عليها الارتقاءَ لمستوىً أعلى من الضربات، كما أنَّ الصمتَ ينقلُ إليها إحساسًا باختلال توازُن الرعب، ويُشجِّعُها على مزيدٍ من التغوُّل ورسمِ حدودٍ جديدة للمُعادلة. تكرَّر ذلك فى غزَّة على مدى شهور، مثلما حدث على الجبهة الشمالية مع حزب الله وإيران، ثمَّ فُتِحَت ساحةٌ إضافيَّةٌ لاختباره فى الضفَّة الغربية، وهى ثلاثةُ حروبٍ تأخذُ صِفَة الحرب الواحدة، وتُدار بقانونٍ واحد: الاستثمار فى النار، وإبقاؤها مُشتعلةً دون الاستشراء وفوق الانطفاء، انتظارًا لما ستُسفِرُ عنه تقاطعات السلطة الجديدة فى واشنطن مع المنطقة.


فى ثُنائيَّة الاحتلال والمُمانعة، كان ضَعفُ الردِّ على نزوات نتنياهو يُعزِّز انفلاتَه، وكُلَّما تمادَى يَضعُفُ الردُّ أكثر، هكذا وفقَ حسبةٍ مُركَّبةٍ تُموِّل فيها الخطَّةُ نفسَها. وهى المسألةُ ذاتُها التى أُدِيرَت فى فلسطين لسنواتٍ باختلافاتٍ طفيفة؛ إذ جرى الاستثمارُ فى الانقسام وتمكين حماس، بغرض إضعاف السلطة وتفكيك أُصولها المادية والمعنوية المُتبقّية من ميراث أوسلو، وكلما تضآلت مكانةُ رام الله تَصَّاعَدُ حظوظُ غزَّة، إلى أن توافرت الظروف لاصطياد القضيَّة بكاملها فى صورة الحركة وعلى تُراب القطاع. وما يحدثُ اليومَ أنَّ المُعادلات الطَّردِيّة والعَكسيَّة تداخلت؛ فإضعافُ كلِّ طَرفٍ لم يعُد يصبُّ لصالح الآخر، والتنكيلُ بهما معًا يُغلق المسارات الطبيعية لتقليص الضغط وتنفيس الغضب المكتوم، ويُحفِّزُ خطابَ الأُصوليَّة الزاعق، كما يُهدِّدُ بانفجار الداخل الفلسطينى، فضلاً عن ضغوطه على الخواصر الهشَّة فى المنطقة، وتأجيج الفوران العاطفىِّ بين الحواضن الشعبية، لا فى الدول المُختطَفَة من الميليشيات وحدها؛ بل فى بعض الساحات المعروفة بالاعتدال.


أُرِيْدَ من جانب تل أبيب؛ أو نتنياهو على التحديد، أن يكون السلاحُ بديلاً حصريًّا عن السياسة، إذ يعتبرُ أنَّ مهمَّة اصطياد المُقاتلين أسهل من إطاحة الدبلوماسيين. وقد ابتلع الحماسيِّون الطُّعمَ للأسف، وتصوُّروا أنهم قادرون على وراثة تركة مُنظَّمة التحرير، دون اضطرارٍ للانخراط تحت سَقفِها الوطنىِّ، أو الالتزام بما رتَّبته عليها الصِفَة الشرعيَّة من التزامات. وما حدثَ أنها قدَّمتْ هَديَّةً مجّانية واستثنائية للاحتلال فى المسألتين: عسكريًّا تعرَّت بإرادتها من الغطاء السياسى الذى يُحصّن قوَّتها ويُثمِّرها لصالح المسار النضالى الطويل، وسياسيًّا لم يكُن مُمكنًا أن تنوبَ عن الإدارة فى المشروعيَّة والاعتراف الدولىِّ بينما تُنكرُ ميثاقيَّة المُنظَّمة، ويُطوِّقُها الحصارُ والوَصْم الغربىُّ بالإرهاب. كأنها إذ أخلَصَتْ لمشروعها الذاتى، أو للغلاف الأيديولوجىِّ المَفروض عليها من المحور الشيعى؛ كانت تُعبِّئ القضيَّةَ الوطنية بتاريخها الطويل وأطيافها المُتنوِّعة، فى قارورةٍ فصائليَّةٍ عَقيديَّة ضَيِّقة، يسهُل التصويب عليها بعيدًا من اعتبارات القانون والتأريخ الموضوعىِّ للصراع.


المُقدِّمة المُشوّهة فى غزَّة؛ هى ما فتحت الباب لاستلحاق الضفَّة إلى الحرب على الصيغة المُحرَّفة نفسِها. لقد تعرَّضت كُتلةُ فلسطين الصلبة للاعتداء والتنكيل منذ اندلاع معركة الطوفان، وما مَكَّنَت العدوَّ من وَصل الجبهات ببعضها فى عُقدٍ إبادىٍّ واحد. صحيحٌ أنَّ المُستوطنين لم يتوقَّفوا عن العُنف والاستفزاز ورقصات الدم، لكنَّ شباب المُخيَّمات أبقوا الأُمورَ فى نطاق التوازُن الذى يُحجِّم العدوانَ ولا يُفجِّرُ الميدان. والتحوُّلُ إنما حدث بعد إطلاق العمليَّات الانتحارية فى الداخل العِبرى، وحديث «حماس والجهاد» عن العودة لِمَا كانت عليه الأوضاع منذ التسعينيات إلى ما بعد الانتفاضة الثانية. هنا تأمَّنَتْ للحكومة المُتطرِّفة دعايةُ الانخراط فى الضفَّة على صِفَةٍ أمنيّة، بينما واقعُ الحال أنها تشتغلُ برؤيةٍ سياسية طويلة المدى، جوهرُها استدراكُ ما طالَ المُعادلةَ المُعتمَدَةَ فى آخر عقدين من انحراف، بمعنى أنَّ «حماس» التى كانت أصلاً من أُصول الفلسفة التقسيمية لحكومات اليمين، يُخشَى أن يَصُبَّ تآكُلُها فى رصيد السلطة الوطنية؛ لذا فالحلُّ أن تُكسَرَ العلاقةُ الطَّردِيّة بينهما بعَمَلٍ مُباشرٍ ضدَّ الأُصول السياسيَّة لفلسطين.


الشعارُ المُعلَن أنَّ الاحتلال يتصدَّى استباقيًّا للخطر المُتصاعد؛ لكنه فى واقع الأمرِ يرومُ إنهاءَ ما تبقَّى من أوسلو، وإعلانَ الحرب على مرافق الدولة بحيث لا تعودُ قادرةً على الجلوس لطاولة التسوية، ناهيك عن الاضطلاع أصلاً بمهام الإدارة ووَصْل المُنقطع من الجغرافيا. يُمكن النظر أيضًا للعملية التى مَنحَها نتنياهو اسمَ «مُخيَّمات صيفية» باعتبارها رَدًّا خَشنًا على اعتراف بعض الدول بفلسطين، وتصاعُد الحديث عن تمكينها من العضويّة الكاملة فى الأُمَم المتحدة، بجانب قَطع الطريق على الرئيس عباس بعدما لوَّح بزيارة غزَّة مع حكومته، تمهيدًا لتسَلُّم مسؤوليات القطاع وتقديم بديلٍ عَمَلانىٍّ عن خطط «اليوم التالى»، المشمولة ببقاء الاحتلال أو سيطرته الأمنية. ومع الإدانة الكاملة للعصابة الصهيونية، دائمًا ودونَ قَيدٍ أو شرط؛ فالواقع يشى بأنَّ سوءَ إدارة عنصر القوَّة من جانب الفصائل، هو ما يسَّر فَتحَ الباب للتصويب على السياسة فى صورة السلطة والمُنظَّمة، والأصلُ أنَّ تجزىء النضال وفَصلَ أدواته عن بعضها لم يكن مُفيدًا للقضية؛ بقدر ما مَكَّن العدوَّ من الانفراد بكلِّ جناحٍ منها على حِدَة، وتصفية السلاح قبل أن يستديرَ لِمَا تبقَّى من الشرعية القانونيّة.


يتحكَّمُ اليمينُ التوراتىُّ فى مفاتيح العلاقة مع الفلسطينيين، إذ يُسيطر على وزارتى المالية والأمن القومى، وله مقعدٌ مُؤثِّرٌ بالشراكة فى وزارة الدفاع. وتُمثِّلُ الضفَّة ثابتًا عقائديًّا فى الرؤيّة اليهودية، وبطبيعة الحال فإنهم مُستعدّون لخَوض حربٍ مُكبَّرة عشرات المرَّات عن النسخة الغَزِّيّة؛ للهيمنة الكاملة على «يهودا والسامرة»، أو تضييع الهامش الضئيل من سُلطة الحكومة الفلسطينية عليها. الخطورةُ هنا أنَّ مُواصلةَ الضغط لا تستنفر المواطنين فحسب؛ بل تُهدِّدُ بانفلاب حالة ضبط النفس التى تُمارسها الأجهزةُ الأمنيَّةُ للسلطة، فتدعم مجموعات المقاومة أو تنخرط معهم فيها، ما يعنى انفجارَ «انتفاضةٍ ثالثة» لا يخشاها توراتيِّو الحكومة؛ بل ربما يسعون إليها أصلاً، وهو ما يُكبِّدُ الفلسطينيين خسائر مادية وبشرية فادحة، بجانب تفكيك السلطة، والضغط أمنيًّا وإنسانيًّا على الجانب الأردنى. والتوتُّر هنا قد يُشجِّعُ «محور المُمانعة» على ترقية حركته شمالاً؛ صحيحٌ أنه لن يذهب لحربٍ شاملةٍ، يخشاها أكثر من الصهاينة؛ لكنّه سيكون حافزًا إضافيًّا لخَلط الأوراق، وتأجيج العواطف، وتعزيز حصَّالة الليكود فى حاضنته المُباشرة، ومع الحليف الأمريكى المُرتبِك.


ارتباكُ واشنطن بدا واضحًا للغاية مُؤخّرًا؛ حتى أنها اضطُرَّت للتلويح بسَحب حاملات الطائرات، والحديث عن اتجاهها لإبرام صفقةٍ جُزئيَّة للأسرى مع حماس. والظاهرُ أنَّ إدارة بايدن تغلَّبت على ظُنونها الساذجة، وتتعاطى مع سُلطة تل أبيب اليومَ بوصفِها حليفًا غير نزيه، وكانت تتلاعبُ بالبيت الأبيض وحظوظ الديمقراطيين فى الرئاسة. مُعضلة مُرشَّحته كامالا هاريس أنها بين خيارين سيِّئين: أن تتصدَّى لألاعيب نتنياهو فتخسر أصوات اليهود والمسيحانية الصهيونية وأموالَ ومُؤازرة جماعات الضغط، أو تُواصل الانجراف فى تيَّاره فتستثير التقدُّميِّين والشباب والأقلّيات المُسلمة والمُلوَّنة فى قاعدتها الحزبيَّة وبين المُستقلّين، أمَّا الأخطرُ فأنّها بحِسبةٍ انتهازية بين الخيارين قد تنحازُ للصمت وتمرير الوقت؛ فيحسبها كلُّ طَرفٍ على الآخر وتخسرهما معًا. وإشارةُ الرَّدع المعنوىِّ بشأن تقليص الأُصول العسكرية فى المنطقة لها معنىً مُتداخل مع المسألتين؛ إذ تُفهَمُ على صِفَة التضحية بإسرائيل فى أزمتها، وقد تُشجِّعُ المُمانعين؛ حتى لو أنها جاءت بعد توافُقاتٍ مع إيران بإرجاء أو استبعاد رَدِّها على مقتل «هَنيّة»، وحال اشتعال الأوضاع مُجدَّدًا فإنها قد تُضطرّ للعودة بفاتورةٍ مُضاعَفة؛ إذ لن يَغفرَ لها الصهاينةُ أنها لوَّحت بالانصراف وكانت سببًا فى ترقية مشاعر الخطر، كما سيكون العبءُ النفسىُّ بين العرب والمسلمين مُضاعَفًا عمَّا كان عليه لو أنها ما غادرت، ولا حدث تلويحٌ بورقة المُغادرة من الأساس.


إرخاءُ الحَبل فى جانبٍ يخنقُ «هاريس» من الآخر، والتحفُّظ الصامتُ يَصلبُها بعُنفٍ بينهما؛ أمَّا ترامب فيربح تحت كلِّ الاحتمالات. قد لا تكون القضايا الخارجيَّةُ حاكمةً فى سباق البيت الأبيض؛ إنما لا ينطبقُ ذلك إطلاقًا على إسرائيل. والمُراوحةُ التى تُحافظ عليها إدارةُ بايدن تستوفى فاتورةَ الفشل كاملةً من نائبته، ولا تمنحُها أىَّ رصيدٍ من الإنفاق الضخم والاشتباك الكثيف فى الشرق الأوسط، كما تُبقِى مُنافسَها، مُمثَّلاً فى صورة نتنياهو، خارجَ تعقيدات التسوية أو الحرب الشاملة. والمنطق يقضِى بالضغط لإنجاز اتِّفاقٍ يُضاف للديمقراطيين على أيَّة صورة، طالما أنهم يتكبَّدون أعباءَ الملفِّ المُلتهب فى كلِّ الأحوال. أمَّا تعنُّت نتنياهو بشأن محورى فيلادلفيا ونتساريم فبإمكان واشنطن أن تتجاوزه إن أرادت؛ ولو بخشونةٍ غير مُعلَنة، بينما تَصَلُّب «حماس» فى مسألة الأعداد المقبولة ضمن صَفقة المُبادَلة يُمكن تذويبُه بقليلٍ من العقل والمنطق، وبإقناعها أن السياقَ المُختلَّ تجاوزَ ما يُردِّدُه مُتحدِّثُها المُلثَّم عن الحصول على ما تُريد ولو بخمسةِ أسرى فقط، بينما يتآكلُ مخزونُها يومًا بعد آخر؛ كلَّما انكشفت أنفاقُها للعدوِّ، ولا تضمنُ للمُحرَّرِين مُستقبلاً حياتَهم خارج السجون، وعدمَ التفاف الاحتلال على الصفقة بالتصفية أو إعادة الاعتقال. السياقُ على حاله القائمة لا يصبُّ إلَّا لصالح نتنياهو وائتلافِه، ويُهدِرُ ما تبقَّى من مُقدَّرات فلسطين فى القطاع والضفَّة، ويهُدِّدُ بمزيدٍ من الجنون؛ لو نجح زعيمُ الليكود فى تمرير مُخطَّطه؛ ليكونَ الصوتَ المُرجِّحَ فى السباق الرئاسى.


رومانسيَّةُ المُقاومة لم تعُد منطقيَّةً إزاء الترجيديا الحاكمة فى فلسطين. لا سبيلَ لإبرام نُسخةٍ جديدة من صفقة شاليط، كما لا سبيلَ للعودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر. الفارقُ الكبيرُ اليومَ أنَّ الخصمَ المُباشرَ لا يُريدُ الأمرين، ولديه من عوامل القوَّة واختلال الموازين ما يُمكِّنُه من إنفاذ رؤيته. أمَّا التعقُّل فيجب أن ينصرفَ لوَقفِ عدَّاد الخسائر؛ وليس البحث عن مكاسب لم تعُد مُمكِنة. الرسالةُ تخصُّ «حماس» فى جانب النزول عن الشجرة عند أقرب نقطةٍ عقلانية؛ لكن المسؤولية الكاملة تنصرفُ إلى الإدارة الأمريكية، إن لم يكُن بالدور الأخلاقى والاعتبارات النفعية للانتخابات؛ فعلى الأقل بمنطق جَبر الضَّرَر، وأن تتكفَّل بإصلاح ما تسبَّبت فى إفساده بصورةٍ مُباشرة. العُقدةُ لا تنتهى بإنجاز تفاهُمٍ تكتيكىٍّ يزيحُ شَبحَ الحرب مع الشيعيَّة المُسلَّحة، ويُبقِى إيرانَ وأذرُعَها فى نطاق الرَّدع المُؤقَّت لحين نَقل الملفِّ لإدارةٍ جديدة؛ إذ ما تزال عواملُ القلق والاضطراب كامنةً فى غزَّة والضفَّة، ويُقلِّبُها اليمينُ الصهيونىُّ على نارٍ عالية، بأجندته الساعية لخلط الحربىِّ بالسياسى، وتوظيف الاشتباك مع حماس فى النَّيْل من أُصول فلسطين، لا سُلطتها الوطنية فحسب. إن مَضَتْ الأمورُ على حالها سيخسر الديمقراطيون الانتخابات غالبًا، ولن يُحصِّلوا الحَدَّ الأدنى من الاتِّساق القِيَمى والأخلاقى؛ بل ربما يتركون وراءهم محرقةً إقليميَّةً لا أُفقَ لها، تكون مُستقبلاً من ركائز الترامبيَّة فى التمكين لحقبةٍ طويلة مع اليمين المحافظ، تتجاوزُ خسائرُها مُومياءَ بايدن وابتسامةَ هاريس البلهاء؛ إلى مرحلةٍ انحسارٍ لليبرالية التقدُّمية، بالنزعة الأُوباميَّة أو أيَّةِ وَصفةٍ غيرها، حتى لا تعودَ قادرةً فيها على الحياة خارج الولايات المتحدة، ولا حتى صالحةً للتسويق فى الداخل.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة