فى زمن التعليم المجانى الحقيقى وسطوة المدارس الحكومية وقبل أن ينتشر سرطان الدروس الخصوصية والمدارس الخاصة (كان يلتحق بها الطلبة البلداء أصحاب المجموع المنخفض فى الإعدادية) ابتكرت وزارة التربية والتعليم أيامنا فى بداية السبعينات شكلا من أشكال الارتقاء بالمستوى التعليمى والتزامها الاجتماعى تجاه كل الشرائح الاجتماعية فى مصر، وهى مجموعات التقوية لجميع الطلاب وخاصة غير القادرين.
مجموعات التقوية سواء كانت داخل المدارس أو خارجها زمان، لم تشكل أية أعباء مادية أو اجتماعية على كاهل الأسر وأولياء الأمور فى مصر. كانت بسعر رمزى شهرى يتذكره من التحق بمجموعات التقوية فى تلك الأيام ولم تفرض على الطلاب الذين اكتفوا بالشرح والاهتمام داخل المدرسة.
المدرسة الحكومية كانت هى القاعدة فى التعليم والمدارس الخاصة (مدارس البلداء) كانت هى الاستثناء الشاذ عن القاعدة وكانت محل استنكار ونفور من المجتمع. لكن مع انقلاب الأحوال تبدلت اهتمامات وانحيازات وأولويات السياسة والحكم فى مصر. تغير وجه الحياة وانقلب كل شيء رأسا على عقب انفتاح السداح مداح- كما صفه الكاتب الكبير الراحل أحمد بهى الدين وغضب منه السادات- وهو الانفتاح الذى وضع بذرة الانفلات والإهمال لقضايا التعليم والصحة وبداية ازدهار التعليم الخاص والعلاج الخاص.
تفشت ظاهرة اقتصادية واجتماعية خطيرة وهى ظاهرة الدروس الخصوصية بعد الإهمال والعطب المتعمد للمنظومة التعليمة الحكومية بمدارسها ومناهجها دون مراعاة للتوازن والسلم الاجتماعى. إلى جانب الصحة والعلاج، مثلت عملية التعليم عبئا اقتصاديا كبيرا على الأسر المصرية وتكاليف معيشتها وباتت بداية العام الدراسى للغالبية الآسر المصرية "هم الليل وذل النهار" مع استنزاف الجزء الأكبر من مرتبات ودخول الأسر الفقيرة والمتوسطة. الدروس الخصوصية أصبحت هى القاعدة والمدارس بكافة أشكالها باتت هى الاستثناء وتحولت إلى امبراطورية متوحشة يقودها أباطرة بصورة علنية وسافرة ومتحدية لكافة القوانين والتعليمات.
حاول بعض الوزراء السابقين مواجهه أخطر سرطان اجتماعى ولكن لم يحالفهم التوفيق فى معركة المواجهة مع امبراطورية الدروس الخصوصية التى تستنزف نحو 47 مليار جنيه، لا تراها الدولة ولا الوزارة- حسب تصريحات لوزير التربية والتعليم السابق الدكتور رضا حجازى.
الأسر تئن والأعباء الاقتصادية والاجتماعية تتزايد مع ارتفاع أعباء الحياة المعيشية والظروف الاقتصادية.. وأصبح السؤال الآن هو هل ينجح الوزير الجديد محمد عبد اللطيف فى المعركة الجديدة مع الدروس الخصوصية وضبط العملية التعليمية؟ وهل هناك إرادة حقيقية للحكومة لحسم هذه المعركة الغاية فى الأهمية للآسر المصرية؟
السؤال المطروح يأتى بعد أسبوع تقريبا من قرار وزير التربية والتعليم والتعليم الفنى محمد بشأن آليات تنظيم مجموعات التقوية والدعم التعليمى، والتى تستهدف تحقيق أقصى استفادة دراسية ممكنة للطلاب بمختلف مراحلهم الدراسية، فى إطار حزمة متكاملة من الآليات التى تنتهجها الوزارة مع بداية العام الدراسى الجديد، لتقديم منظومة تعليمية أفضل جودة للطلاب داخل المدرسة.
القرار الوزارى الذى يحمل رقم 1449 بتاريخ 1 سبتمبر الجارى نص على استبدال مسمى مجموعات الدعم المدرسى إلى "مجموعات التقوية والدعم التعليمي"، وأن تكون اختيارية فى المواد الدراسية لجميع صفوف النقل والشهادتين الإعدادية والثانوية العامة؛ بهدف تحسين المستوى الدراسى لمن يرغب من الطلاب بتلك المواد، وذلك بمقابل مادى مناسب.
كما نص على أن تعد إدارة المدرسة جدولًا بحصص المجموعات، بحيث تبدأ من أول يوم دراسى، وفى غير مواعيد الدراسة النظامية، كما نص القرار أيضا على أن تحدد إدارة المدرسة موعد بدء ونهاية مجموعات التقوية والدعم التعليمى لكل فصل دراسى، وتعلن عن ذلك، على ألا تقل الفترة بين الإعلان، وبداية المجموعات عن أسبوع واحد. والمدة الزمنية المخصصة للمجموعة ساعتين أسبوعيا.
القرار بصورته المنشورة يسعد – فى حالة تطبيقه- ملايين الأسر المصرية (حسب جهاز الإحصاء هناك 28 مليون تلميذ بالتعليم قبل الجامعي) ويخفف كثيرا من الأعباء المادية للدروس الخصوصية فلو اقترحنا- مثلا- أن يدفع كل طالب وطالبة ما بين 200-300 جنيه شهريا فى مجموعات التقوية فسوف تحصل الحكومة ممثلة فى الوزارة شهريا على مبلغ ضخم جدا يمكن بعد الدراسة والتشاور مع الجهات المعنية الأخرى توزيعه بين المدرسين وتعويضهم عن الدروس الخصوصية وبين الوزارة للاستفادة من هذه الأموال فى اصلاح وتأهيل المدارس وبناء مدارس جديدة. ولا أستطيع تقدير حجم المبالغ التى يمكن أن يتم تحصيلها من مجموعات التقوية ولكنها بأى حال من الأحوال يمكن تقديرها بحوالى 5 مليارات جنيه شهريا.
القرار خطوة مهمة وجادة فى معركة ليست سهلة لتأكيد إرادة الدولة فى ضبط العملية التعليمية و" استعادة المدرسة هيبتها وقدسيتها"- كما قال الوزير- والقضاء تماما على إمبراطورية وأباطرة الدروس الخصوصية فى مصر، إضافة إلى إجراءات أخرى أعلن عنها الوزير قبل بدء العام الدراسى الحالى مثل الالتزام بالزى المدرسى الموحد، حرصا على الانضباط داخل المدرسة، مع عدم إجبار الطلاب على شرائه من أماكن بعينها( وما أدراك ما بيزنيس الملابس المدرسية)، اتخاذ كافة الإجراءات القانونية تجاه المعلمين المتغيبين عن المدرسة وغير الملتزمين بتواجدهم بالحصص المقررة لهم طبقًا للجدول المدرسى، اتخاذ كافة التدابير اللازمة تجاه من يمارسون المهنة دون وجه حق، اتخاذ الإجراءات القانونية ضد المعلمين الحاصلين على إجازات بدون مرتب أو إجازات طويلة ويمارسون التدريس بمراكز خاصة أو بمقراتهم الخاصة، حظر استخدام أو ترويج أى مقررات دراسية أو كتب أو مناهج بخلاف الصادرة عن الوزارة.
هل هذه القرارات وحدها تكفى فى معركة الدروس؟
عدد كبير من خبراء التعليم فى مصر يعتبر مسألة الدروس الخصوصية أحد التحديات الخطيرة التى تهدد استراتيجية تطوير التعليم وفى الحد الأدنى منها، التأثير على تكافؤ الفرص والعدالة فى التعليم والاستقرار الاجتماعى للأسر المصرية وعلى القدرة الشرائية بشكل عام وبالتالى تأثيرها السلبى على الاقتصاد الوطنى، واقترحوا خارطة طريق للوصول إلى حلول حقيقية وتحسين جودة التعليم العام.
القرارات خطوة جادة ومطلوبة فى حالة توافر الإرادة وفى حال اجراء حوار مجتمعى موسع والاستعانة والاستماع إلى بأفكار وآراء خبرائنا الكبار فى الداخل والخارج.