ستكون غزَّة مُجرَّد تفصيلةٍ صغيرة بين محاور النقاش. وعندما يلتقى الرئيس السابق والمُرشَّح الجمهورى دونالد ترامب، مع منافسته الديمقراطية كامالا هاريس، فى مُناظرتهما الرئاسية الأولى غدًا؛ ستَّتخذ المُقاربة الأمريكية للعدوان الإسرائيلى على الفلسطينيين مُنعطَفًا مُغايرًا لِمَا كانت عليه طوال الفترة الماضية. إنهما من مجالين أيديولوجيين مُختلفين تمامًا؛ لكنهما ينظران للمسألة من زاويةٍ واحدة، مع فارق اللغة. يلعبُ الجميعُ مع حُمَّى الشرق الأوسط لُعبةَ الوقت: واشنطن أكبر من وسيطٍ وأقلُّ من ضامن، ولا تعرفُ كيف تخرجُ من الفَخِّ أو تردَعُ نتنياهو عن مُواصلة الحَفر، والأخير يُمرِّرُ أجندتَه من الفجوة العريضة بين انقضاء إدارة واستحداث تاليتها، كما أنَّ الفصائل، وعلى رأسها حماس، تترقَّبُ غَيبًا لا ملامحَ له، ولا يُعرَفُ متى يتخلَّقُ وعلى أيّة قاعدةٍ؛ وقد تآكلت عناصرُ قوَّتها الذاتية، وأخَلَّت الفوضى بالتوازُنات والشروط الموضوعية لتسويةِ ما لم يعُد قابلاً للعودة إلى قديمِه، ولا مُستشرِفًا ما قد يؤول إليه من جديدٍ فى مُقبل الأيام.
آخرُ ما يُريده ترامب أن ينقشعَ ضبابُ الإقليم عن تهدئةٍ، مُؤقَّتةٍ أو طويلة المدى، ويطمئنُّ إلى أنَّ حليفَه الليكودىَّ يتكفَّلُ بإحراق الورقة قبل أن تتمكَّن منها قبضةُ الديمقراطيين. ومناخُ الانسداد لم يعُد خافيًا على أحد، ولا تُوارِى إدارةُ بايدن فى الإشارة إليه تلميحًا وتصريحًا. لقد قالت فى وقتٍ سابق إنها بصدد إنجاز مُقترَح نهائىٍّ على صيغة «خُذه كلّه أو اتركه»، ولوَّحت بعدها بالبحث عن صفقةٍ جزئية مع حماس لاستعادة الأسرى ذوى الجنسيَّة الأمريكية، وآخرُ الإفادات أنها ربما تتَّجه لتجميد وَساطتها، ما يعنى عمليًّا مُغادرة غرفة التفاوض وإخلاء الميدان لحكومة اليمين، وسواء صرَّح البيت الأبيض بالفشل فى إبرام الاتفاق، أو اختار أن يَطوى على فشله عباءةَ الصمت والمُداراة؛ فالنتيجةُ النهائيَّة أنَّ العجوزَ الذى سعَّر الحرب بصهيونيَّته المُفرطة، سيُغادر منصبَه قبل أن تنطفئ نارُها؛ إلَّا لو تفتَّق ذِهنُ الحملة الجمهورية عن حيلةٍ ماكرة فى الشوط الأخير قبل نهاية السباق، بأن يتدخَّل ترامب بصفةٍ شخصيَّة لتليين المَوقف الصهيونى، بحيث لا يعودُ مُمكنًا أن يُضاف ذلك لرصيد هاريس، ولا أن تتمكَّن من تعويضه فيما يتبقَّى من هامش الوقت.
ربما نُبالغُ قليلاً أو كثيرًا فى نظرتنا لتأثير الحرب على السباق الرئاسى. فالناخبُ الأمريكىُّ مواطنٌ محلىٌّ حتى النخاع، ولا يتَّخذ قرارات التصويت لاعتباراتٍ خارجية إلَّا فيما ندر. ربما حدث ذلك فى زمن حرب فيتنام، إنما الفارق وقتَها أنَّ الولايات المتحدة كانت طرفًا، وتدفعُ من دماء أبنائها فى نزاعٍ لم يقتنع الشارعُ بأنّه وجودىٌّ أو يُدافع عن أُصولٍ وطنية. أمَّا فى المسألة الإقليمية الراهنة؛ فالأغلبيَّة ربما لا يكونون مشغولين بها من الأساس. يدورُ الأمرُ فى نطاق عِدَّة ملايين من المسلمين، وأقلِّ أو أكثر من التقدُّميِّين المَعنيِّين بالقضايا الحقوقية والضميرية، وبعضِ الطَّيف المسيحانىِّ الذى لا يتجاوز خُمسَ الكُتلة السكّانية. والمعنى أنَّ ثلاثة أرباع البلد ربما يُصادفون أخبارَ العدوان عَرَضًا فى نشرات القنوات العامة، أو لا يعرفون عنه شيئًا أصلاً.
بعضُ استطلاعات الرأى أشارت إلى أنَّ فلسطين فى المرتبة التاسعة بين القضايا ذات الاهتمام من الناخبين، وتأخَّرت عدَّةَ مراكز عن ذلك فى استطلاعاتٍ أُخرى، وفى كلِّ الأحوال فإنها لا تتقدَّمُ على موضوعات الاقتصاد والتضخُّم والتوظيف والرعاية الصحية والهجرة والإجهاض. وإذا كانت القضيَّةُ مُختلفةً قليلاً طالما يتَّصلُ الصراعُ بإسرائيل؛ فإنَّ هذا الاختلافَ مِمَّا يصبُّ فى صالح الأخيرة لا العكس، لا سيَّما أنها مُتقدِّمةٌ فى الوعى الأمريكى العام، وتترسَّخ صورتُها لديه باعتبارها امتدادًا للحضارة الغربية، وتنوبُ عن القِيَم البيضاء فى عالمٍ لم يُغادر توحُّشَه القديمَ بعد. صحيحٌ أنَّ ثمّة تفاوتاتٍ فى الرُّؤى، والصورة الإجمالية ليست على هذا الشكل من الانحياز والتحريف؛ لكنه الجانب الغالب على النظرة الأنجلوساكسونية للدولة العبرية، والحروب هنا مهما اشتدَّت وتصاعد لَهيبُها، لا تكفى لتغيير الصور النمطية الراسخة لعقودٍ طويلة. ربما تفاءل البعضُ باستفاقة ضمير الشباب فى الجامعات والشوارع؛ إنما كثيرٌ من السوابق تشى بأنها مواسمُ عابرةٌ من الأسى والتطهُّر، ما أحدثت فارقًا فى المعارك السابقة؛ لنُعوِّلَ عليها اليومَ فى التأسيس لتيَّارٍ مَعرفىٍّ ومَواقِفىٍّ دائمٍ وفعَّال.
المُعضلة تدورُ كلُّها فى نطاقِ الوقت؛ لا على مستوى مُراوغة الاحتلال وبُطء إيقاع الفصائل، وشيخوخة بايدن التى ضبَّبت الساعات فى عينيه وأصَمَّت سمعَه عن دقَّاتها؛ إنما منذ الرصاصة الأُولى فى الحرب قبل قرابة السنة. كان خطأ الحساب مُلازمًا للطوفان من بدايته، وقد أُخِذَت «حماس» بالتطوُّرات الإقليمية من ناحيةٍ، وكبَّلَتها إملاءاتُ المحور الشيعىِّ من الأخرى، فما رأت السياقَ على حقيقته، ولا أعدَّتْ العُدَّةَ لارتداداته المُحتمَلَة. فكرةُ الغزوة الحماسيَّة لغلاف غزَّة لم تكن نابعةً من الجمود وتعطُّل المسارات فحسب؛ وإلَّا كانت اندلعت قبل موعدها بعدَّة سنواتٍ على الأقل، كما أنها لا تتأسَّس على خُفوت المسار السياسى الذى لم تُؤمن به الحركةُ أصلاً، ولا كانت جزءًا منه فى أيَّة حقبةٍ سابقة، بعيدًا من تقديرنا له بالسلب أو الإيجاب. الباعثُ الوحيد أنها استشعرت خطورةَ الصفقات الإقليمية المُتزايدة تحت شعار «السلام الإبراهيمى» أو غيره، وأقلقَها بالتحديد أن تقتربَ موجةُ التفاهُمات من السعودية برمزيَّتها العقائديَّة العالية، ما يعنى أنَّ السرديَّةَ الأُصوليَّة وتكييفَ مَوقعِها على أنها تنوبُ عن الأُمَّة الإسلامية فى أراضى وَقفِها الفلسطينى لن تعودَ فعَّالةً، بينما المأزق المُضاف أنَّ اتفاق بكين بين الرياض وطهران، منعَ الأخيرةَ من التصويب على الصفقة ولو بالدعاية. هكذا كان البديل أن تُدفَع فصائلُ غزَّة لإثارة الغبار وخَلط الأوراق، وهو حَقٌّ وطنىٌّ وأخلاقىٌّ أن يختاروا كيفية المُقاومة وموعدها؛ لكنَّ التقييم النهائى العاقل لا يُمكن أن يخضع للأيديولوجيا ولا سَطوة العاطفة. والخلاصةُ أنَّ اختيارَ المَوعد لم يكُن صائبًا، والطريقة نفسها كانت مُغامرةً بأكثر ممَّا تحتمل حماس، أو يتوفَّر للقطاع من إمكانات، وحديث الاقتدار هنا يتجاوز إشعال الشرارة إلى النجاة من حرائقها، أو تحييد الخسائر على الأقل.
الخطأ الحماسىُّ له طابعٌ مُركَّب، من الظروف والمواعيد، أوَّلاً لأنَّ الهجمةَ الأضخمَ فى سلسلة النضال الفلسطينى انطلقت على أرضيّة الانقسام، وكان يتعيَّن أن يسبقَها عملٌ جَبهَوىٌّ توحيدىٌّ مع بقيَّة المُكوِّنات النضالية، وبحثٌ عن وحدةِ القُوى الوطنية بأكثر من الانصراف إلى دعايات «وحدة الساحات»، والثانية أنَّ المنطقةَ كانت تئنُّ من تداعيات الحرب الأوكرانية والجائحة الصحية السابقة عليها، وليست فى كامل لياقتها لتضطلع بمهمَّة الإسناد المطلوب، أو أقلّه أن تظلَّ آمنةً من ارتدادات التصعيد؛ بما يُجنِّبُ القضيَّة تكاليف الهشاشة والسخط فى بعض نطاقِها المحيط. أمَّا المأخذُ الأكبر؛ ولو لم يكن واضحًا وقتَها، فيتَّصل بإطلاق الحرب قبل سنةٍ من موعد الانتخابات الأمريكية، وهو فاصلٌ قصيرٌ بالنسبة لمُواجهةٍ مُتكافئة، وطويلٌ جدًّا بالنظر لفارق القُوَّة بين الاحتلال والغَزِّيين العُزَّل. ربما راهن «السنوار» على أنَّ الاشتباك لن يتجاوز عِدَّةَ أسابيع، وتعودُ الأمورُ لحالها بهُدنةٍ وصَفقة تبادل، وما أحدثَه الهامشُ الواسع أنَّ نتنياهو وجدَ نفسَه مُطلقَ اليد فى براحٍ مفتوح، استهلك فيه كلَّ إمكانات الفصائل والقطاع، وعندما حَلَّ أوانُ الحسابات السياسية كان بإمكانه توظيف الورقة نفسِها ضدَّ بايدن، ثمَّ لصالح ترامب داخل تيَّاره اليمينى وعلى حساب الديمقراطيين، ولعلَّ مشهد خطابه أمام الكونجرس كان يُلخِّصُ أثرَ التوقيت الخاطئ، بحيث تمكَّنَ من ارتكاب كلِّ الجرائم المُمكنة فى الميدان، ثمَّ ظلَّ مُتمتِّعًا بإمكانية استحلاب القُدرات الأمريكية لآخرها؛ استغلالاً للتناقُضات المُعتادة فى مواسم الانتخابات، وأجواء التشنُّج والاستقطاب.
يُسدِّدُ الأبرياءُ المنكوبون فاتورةَ الوحشية الصهيونية؛ لكنَّهم بالدرجة نفسها يتكبَّدون أعباءَ الاستخفاف بالواقع والخِفَّة فى مُقاربة الموضوعات الوجودية على مُرتكزاتٍ شخصيَّة وأيديولوجية. ومهما قِيْلَ عن انفراد القيادة الحماسية بقرار الطوفان؛ فإنها لم تكُن لتُقدِمَ عليه عاريةً من الوعود والتطمينات. ربما بادرت دون استئذانٍ، أو استَبَقَتْ الموعدَ المضروبَ للعملية من غير مُشاورةٍ أو إخطارٍ للحلفاء؛ لكنَّ «السنوار» الذى أنفق خمس سنواتٍ فى التفاوض على صفقة شاليط، وشهد حروب إسرائيل السابقة على «الجهاد» من موقع المُتفرِّج، وطال صبرُه لسِتِّ سنواتٍ فى رئاسة الحركة بين إعدادٍ عسكرىٍّ ونزاعات اقتصادية، بدا فيها مشغولاً بأعداد العُمَّال العابرين للخط الأخضر وحصيلة ما يجنونه من دولاراتٍ وشواقل، لم يكُن لينزعَ غطاءَ التثبُّت والوقار دون هندسةٍ مُتَّفَقٍ عليها للمُواجهة مع بقيَّة أطراف الشيعية المُسلَّحة. لقد خُدِعَ فى أحسن الظنون والافتراضات، وسَعَى لابتزاز حُلفائه قبل مُناوئيه فى أسوأها؛ إنما دخول «حزب الله» على الخطِّ منذ اليوم التالى للطوفان، ومَنحُ مُشاركته صِفَة «الإسناد والمُشاغلة»، ثمَّ تنشيط بقيَّة الأذرُع على استحياء، من الحوثى جنوبًا إلى الحشد الشعبى العراقى على أقصى الشمال الشرقى، ربما يُؤشِّرُ لتوافقاتٍ حقيقية بين الأطراف، صُدِمَتْ لوَهلةٍ من المُبادَأة غير المحسوبة، أو اهتزَّت قليلاً لسوء التخطيط والتنسيق؛ لكنها لم تكُن غائبةً تمامًا عن قنوات الاتصال المارة من دول المحور لتتلاقى فى طهران. والخِفَّة هُنا أنَّ العمامةَ الكُبرى ربما تخيَّلت أنها تضغطُ على إدارة بايدن للعودة إلى الاتفاق النووى، أو مُواصلة تقديم الترضيات وغَضِّ البصر عن اختراق العقوبات، ولم تضع فى احتمالاتها أن يعبُرَ ترامب من مصفاة الحزب الجمهورى، ومرَّةً أُخرى لعبَ هامشُ الزمن دورًا فى إرباك الحسابات؛ فتقدَّمَ الرئيسُ العجوز إلى الميدان مُحاربًا لا يقلُّ راديكاليَّةً عن نتنياهو، وانتزع سلفُه بطاقةَ الترشُّح دون مُنافسةٍ تُذكَر، ثمَّ أطاحَه فى مُناظرةٍ عابرة لم تتجاوز تسعين دقيقة، وما عاد بإمكان المُمانعين إسناد غزَّة، ولا تعويضها عن النزيف، كما لا يحِلُّون قبضتَهم الخانقة عن عنق قيادتها، لتتحرَّر فى استقراء الحوادث والتعاطى معها بمنطقٍ ورَوِيّة.
الهُدنة التى أُبرِمَت فى نوفمبر كان يُمكن تجديدها فى الشهور التالية؛ لكنَّ التحجُّرَ الأُصولىَّ اعتبرَ دخولَ نتنياهو فيها توطئةً لمزيدٍ من التنازُلات كلَّما تعاظمت الضغوط، ومن جانبه لم يكُن يبتغى منها إلَّا تهدئةَ شارعه، وتصويرها كنتيجةٍ مُباشرة لسبعة أسابيع من الحرب، ما يعنى أنه لا بديلَ عن التفاوض تحت النار. أمَّا أقربُ النقاط للتهدئة فكانت بعد جولتى باريس أوائل العام، ولم يكُن الاحتلالُ قد وصلَ إلى رفح ولا بسطَ سيطرتَه على محور فيلادلفيا. ساعةُ «السنوار» تتأخَّرُ شهورًا عن إيقاع الميدان، ولعلَّه ينظرُ للوراء طوالَ الوقت، بينما يتطلَّعُ غريمُه للأُفق الواسع ويُدير عقاربَ ساعته بسرعة جنازير الدبابات. الأوَّلُ يُفتِّشُ عن مرحلةٍ سابقة يعودُ فيها جنوبُ القطاع خاليًا من الجنود، والثانى ينظرُ للبقاء الدائم والسيطرة العسكرية. الأوَّلُ غايةُ مُناه أن يعود لِمَا قبل الطوفان، ولو على تلٍّ من رُكام غزَّة وأشلائها، والثانى ينظرُ فيما وراء الهَدم والخرائب والقبور الجماعية لمرحلةٍ يُقبَرُ فيها السلاح هُنا، وتُدفَنُ بقايا أوسلو فى الضفَّة الغربية، والحال أنَّه ربما يُراجعُ نفسَه أو لا يفعل، لكنه يتقدَّمُ للأمام دائمًا، بينما ما تزالُ لوثةُ العاطفة وحماوةُ الأيديولوجيا مُتسلِّطَتين على عقول الفصائل وحُلفائها، وتغيب عنهم تمامًا فضيلةُ المُراجعة والاعتراف بالخطأ؛ ناهيك عن الاعتذار والمُبادرة بالتصويب.
القوَّةُ أفضلُ صديقٍ؛ سواء كنت ظالمًا أو مظلومًا، ورغم أنَّ رصيدَ زعيم الليكود منها لا حدودَ له؛ فإنه لا يعدَمُ الأصدقاءَ أيضًا. لديه حاضنةٌ داعمةٌ لآخر مدىً، من الولايات المُتَّحدة والغرب، وقاعدةٌ أُصوليَّة توراتيَّة تقف خلفَه وتلعبُ لصالحه لُعبةَ «الرادع المُتشدِّد»، كما أنَّ لديه أيضًا ناقدين وناصحين لا يُوفِّرون فرصةً للاشتباك معه بالتخطئة والتقويم، ولا فارقَ إن كانوا مُتجرِّدين أم انتهازيِّين، ولا إن كان يسمعُ لهم أو يتجاهلُ ما يصخبون به صباحَ مساء؛ فالمُهمُّ أنّه أمام بُوفيه مفتوحٍ من الخيارات والبدائل، ويرى الصوابَ والخطأ على قدم المساواة، ويختار بينهما بحسب نواياه ونزواته. إنما على الجانب الآخر؛ لا يسمعُ يحيى السنوار ورجالُه إلَّا أصواتَهم وداعميهم العقائديِّين، ويتجاوزون كلَّ الانتقادات والنصائح قبل أن يتثبَّتوا من كونها مُخلصةً أم مُغرضة، وبطبيعة الحال فإنهم لم يُبادروا لافتتاح ورشة نقدٍ ومُراجعةٍ ذَاتِيَّين، وعليه فإنهم يُديرون جبهةَ الحرب ومسارات التفاوض بالطريقة نفسها التى دخلوا منها إلى النفق المسدود، ولا يستشعرون حجمَ ما تغيَّر من حولهم بعد أحدَ عشرَ شهرًا من الانتحار المجانىِّ، ولا ما يُهدِّدُهم فى غضون أسابيع إذا عاد ترامب للبيت الأبيض، أو حتى أهدَتْ الصناديقُ الأمريكية لتل أبيب رئيسةً معدومةً الخِبرة وقليلةَ الفاعلية، ولن تستفيق من غيبوبة الرئاسة الطارئة إلَّا بعد شهورٍ من دخول المكتب البيضاوىِّ فى يناير المُقبل.
حافزُ بايدن الوحيدُ أن يختتمَ ولايتَه الوحيدة بإنجازٍ كبير، وصِفَة الإنجاز لديه لن تتحقَّق بالصدام مع نتنياهو؛ أوَّلاً لعقيدته الصهيونية المُتجذِّرة، وثانيًا لأنه لن يُترَك لإنفاذ إرادته بما يُضاد مصالح الديمقراطيين فى الانتخابات، ومنطقيًّا فالذين منعوه من الترشُّح دفاعًا عن حظوظهم، لن يتركوه يُصوِّب عليها سياسيًّا بمقترحات اللحظة الأخيرة. وعليه؛ فالحربُ باقيةٌ على حالها حتى ترتيب وفادة الساكن الجديد للبيت الأبيض، أو أن يختار ترامب، بالتفاهم مع زعيم الليكود، تصفيةَ التركة لتصُبَّ فى حصَّالته الانتخابية، ويتجنَّبَ بالتبعية عبءَ افتتاح ولايته بملفٍّ ملغوم. والمسألةُ فى حالة كامالا لن تختلف كثيرًا؛ إنها اليومَ أضعفُ من اتِّخاذ موقفٍ صريح لصالح أحد الطرفين، وغدًا ستكون تحت سطوة المُواءمة نفسها، وإن بدرجةٍ أقل. التوازُنات الإقليمية أوهنُ من حَسم الصراع، ولا مواقفَ مأمولةً من محور المُمانعة. تبدو اللعبةُ مُقفلةً لمدىً غير معلوم؛ ولعلَّ هامشَ الاختراق الوحيد لدى «السنوار» فى نَفَقِه البعيد. قد يكونُ الخيارُ الأنضج أن تتراجع «حماس» خطوةً للوراء، وتُقدِّمَ مُنظَّمةَ التحرير للإمساك بزمام الأمور، بمعنى تفويضها الكامل فى التفاوض الحالى والمستقبلى، والاضطلاع بالمسؤوليات الإدارية العاجلة فى القطاع، واقتراحات اليوم التالى، بما يُمهِّدُ لتنحية الحركة بنعومةٍ عن الواجهة، ووَصْل المُنقطع فى الجغرافيا والسياسة. والحال أنَّ هذا الطرح قد لا يكون مُثمرًا إزاءَ الجنون الصهيونى، ولن يقودَ وجوبيًّا لإيقاف الحرب وإنتاج التسوية المأمولة؛ لكنه على الأقل سيسمحُ بإسباغ شىءٍ من الشرعيَّة القانونية على الروشتة الفلسطينية لمُداواة غزَّة، وتحييد النزعة الأُصوليَّة بما تُوفِّره من مُبرِّراتٍ للأُصوليِّين التوراتيِّين على الجانب الآخر، ووَضع نتنياهو فى مواجهةٍ كاملة مع البيئة الدولية، وهى لا تُصنِّفُ السلطةَ الوطنية فصيلاً إرهابيًّا ولا تحسبها على أجنداتٍ إقليمية مُفخَّخة. لا منطقَ للمُفاضلة بين السلطة والاحتلال، وإذا كان سيِّدُ الأنفاق أمامَ مصيرٍ واحدٍ لا فكاكَ منه، وهو اتصال الإبادة حتى إزاحته مع بقيَّة الأُصول القسَّاميّة الصلبة؛ فربما من الحصافة أن يُبادر إلى الخسارة لصالح القضية، وأن يُبقِى ثمارَ نضاله، الحلوَّ منها والمُرَّ، فى داخل البيت الوطنى، بدلاً من استمرار عَرضها فى سوق الشيعيَّة المُسلَّحة، ودَهسها بأقدام الصهيونية النازية المُتوحِّشة.