ما زلنا مع بعض أكثر الأكاذيب التاريخية شيوعا، وكشف حقيقتها، فأرجو من القارئ العزيز مراجعة الحلقات السابقة من هذه السلسلة.
10 كتب الإسكندرية وقودا للحمامات.. تقول رواية غريبة: إن عمرو بن العاص عندما فتح الإسكندرية، وجد بها آلاف الكتب من ميراث مكتبتها الشهيرة، فلم يعرف ما يفعل بها، فأرسل للخليفة عمر بن الخطاب يسأله، فأجابه الخليفة بأنه «إن كان ما فى الكتب يخالف الإسلام فلا حاجة للمسلمين به، وإن كان بها ما يوافقه فكتاب الله غنى عنه».. فأمر ابن العاص بإحراق الكتب، فاستُخدِمَت وقودًا للحمامات العامة لمدة ستة أشهر حتى احترقت عن آخرها.
يحلو للبعض ترديد هذه القصة دون التحقق من صدقها أو دقتها، فقط ليدللوا على ما يروجون له من أن العرب قد جاءوا مصر بالخراب والدمار، وأنهم قد دمروا حضارة مصر القديمة وموروثاتها «وهو ما سأرد عليه لاحقا».
الواقع أن تلك القصة يبدو كذبها من نواح كثيرة لا تخفى على صاحب عقل.. فأولا لم يذكر هذه القصة سوى المؤرخ عبداللطيف البغدادى، الذى جاء بعد فتح العرب لمصر بستة قرون كاملة، لكن لا ذكر لها فى أية كتابات سابقة له لا عربية وغير عربية، وواقعة شديدة الخطورة، كحرق كتب مكتبة الإسكندرية لم تكن لتمر مرور الكرام، دون أن يذكرها حتى مؤرخو الأقباط، مثل يوحنا النقيوسى مثلا، الذى عاصر دخول العرب لمصر.
وثانيا: فإن كتب الإسكندرية- التى كانت موزعة بين مكتبتها القديمة ومكتبة معبد السيرابيوم- قد دُمِرَت على مراحل، المرحلة الأولى كانت خلال محاولة القائد الرومانى يوليوس قيصر فرض سيطرته على الإسكندرية واندلاع ثورة السكندريين ضده، فقام بإحراق بعض السفن الراسية فى الميناء لخلق «حاجز نارى» بينه والثوار، فامتدت النيران للحى الملكى ومنه لمكتبة الإسكندرية التى احترق معظمها، وقد حاول القائد الرومانى ماركوس أنطونيوس بعد ذلك أن يعوض السكندريين بإحضاره بعض كتب مكتبات آسيا الصغرى وإهدائها لكليوباترا.
المرحلة الثانية كانت فى العصر المسيحى، وتحديدا فى النصف الثانى من القرن الرابع الميلادى، عندما حارب الإمبراطور الرومانى ثيودوسيوس العقائد غير المسيحية، وأمر ألا تكون ديانة فى الإمبراطورية الرومانية سوى المسيحية، فقام بعض المتعصبين من المسيحيين فى الإسكندرية بمهاجمة معبد السيرابيوم وخربوه وأحرقوا كتبه.
أما المرحلة الثالثة فكانت متفرقة فى فترات الاضطرابات والتمردات، التى كان الدمار يعم فيها أنحاء المدينة بحكم ما يقع من شغب، فلم يكن مستبعدا أن تتعرض الكتب لما تتعرض له باقى محتويات المدينة.
ثالث أدلة نفى تلك الواقعة هو أن الإسكندرية كانت بها بالفعل مدرسة لاهوتية مسيحية أرثذوكسية بها كتابات أساتذتها فى اللاهوت، وشروح الكتاب المقدس وسير القديسين والآباء البطاركة، وبطبيعة الحال فإن فى بعضها ما يختلف مع عقيدة الإسلام، ومع ذلك لم يتعرض لها العرب.
أما آخر أدلة النفى، فهو أن العرب لم يكن نمطهم تدمير كتابات الحضارات السابقة، بل إن أوروبا مدينة بحفظ التراث اليونانى القديم للتراجمة العرب، وحركة الترجمة التى بلغت ذروتها فى العصر العباسى الأول.
11 الصليبيون أم الفرنجة؟ فى التاريخ ما يوصف بأنه «خطأ شاع حتى استحال تصحيحه».. من نماذج ذلك مصطلح «الصليبيون/الصليبية» الذى يوصف به الفرنجة الذين غزوا المشرق العربى والإسلامى بداية من القرن الحادى عشر الميلادى فى ثمانى حملات ترف بدورها بـ«الحملات الصليبية»، بينما يمثل الصليب فى المسيحية قيمة «التضحية والفداء»، وهو ما يتناقض مع دوافع تلك الحملات من أطماع اقتصادية وسياسية، وكذلك مع ما شهدته من وحشية الغزاة وهمجيتهم.
مصدر هذه التسمية كان انتشار عادة بين المحاربين المتوجهين للشرق أن يخيطوا صلبانا قماشية على ثيابهم، وكذلك لأن البابا الكاثوليكى كان إذا أراد أن يتوجه بعض ملوك أوروبا لقيادة حملة جديدة يأمرهم أن «يحملوا الصليب»، باعتبار أن الصليب هو «علم ولواء القيادة» فى الحملة، وأيضا لأن «حمل الصليب» فى المسيحية يعنى «حمل العبء والمسؤولية والتضحية للآخرين»، ولكن الفرنجة لم يستخدموا مصطلح «الصليبى/الصليبية» إلا فى مرحلة متأخرة، أما قبل ذلك فكان الشائع أن يوصف المتوجه للغزو بـ«الحاج»، وهذا لأنهم قد اعتبروا أن توجههم للأرض المقدسة هو نوع من «الحج المسلح» لإعادتها للمؤمنين، وحتى العرب لم يستخدموا هذا المصطلح، بل كانوا يصفون الغزاة بـ«الفرنجة» أو «الإفرنج»، أو كانوا يصفون ملوكهم بصفاتهم الرسمية، مثل «ملك الإنكلتير» أو «ملك الفرنسيس» أو «رى دى فرانس/ Roi de France»..إلخ، ولم يصفوهم حتى بالمسيحيين أو- وفقا للغة هذا العصر«النصارى».هذا الموقف من المؤرخين والكتاب المسلمين آنذاك يعكس وعيا منهم بحقيقة تلك الحملات، وأنها إنما تحركها مطامع دنيوية من ثروات وأراض، وليست مطامع دينية كما كان يشاع.
وقد تحول مصطلح «حملة صليبية/Crusade» فى اللغة الإنجليزية فى مراحل لاحقة إلى تعبير للدلالة على القضية، التى يتفانى الشخص فيها والتى ترتبط عادة بمواجهة الفساد أو شر، فيقال عنها «حملته الصليبية/His crusade».
12 سأقتل كل من يقول «إنى مسلم».. فى مسلسل الفرسان من إنتاج العام 1995، يظهر الفنان القدير أحمد ماهر فى دور القائد المغولى «هولاكو»، ويقول بشراسة: «سأقتل كل من يقول إنى مسلم!».
الشائع عن المغول أنهم كان لديهم عداء خاص للمسلمين، وأنهم من هذا المنطلق قد حاربوا المسلمين واقتحموا العاصمة العباسية بغداد ودمروها. وحرقوا كتبها وقتلوا الخليفة العباسى شر قتلة.
الحقيقة أن المغول لم تكن لديهم مشكلة «دينية» مع أى شعب، ولكن مشكلتهم الحقيقية كانت «عرقية»، بل إن مؤسس دولتهم جنكيز خان كان معروفا بالتسامح الدينى، وكثير من ملوكهم وقادتهم كانوا يضمون لبلاطهم وزراء وعلماء مسلمين.
تركيبة المغول الدينية كانت أشبه بالفسيفساء، فكان الشائع بينهم عبادة «تندرى» رب السماء، وكانت بينهم ديانات أخرى مثل تقديس أرواح الأسلاف، والمسيحية والإسلام، أو فلسفات وطرق دينية، مثل الكنفشيوسية الصينية والبوذية.
فلم يكن الانتماء الدينى مشكلة بالنسبة لهم، وإنما كان الانتماء العرقى، فجنكيز خان عندما وضع «الياسا»، التى تعتبر الكتاب التأسيسى لدساتير وقوانين المغول، قرر فيها أن «السماء تريد أن يتسيد المغول العالم»، أى أنهم قد آمنوا بـ«تفوق العرق المغولى» مثلما آمن الألمان النازيون بتفوق الجنس الآرى أو آمن العثمانيون بتفوق العرق الطورانى.. وهكذا.
يؤكد ذلك ثلاثة أدلة: الدليل الأول أن المغول قد حاربوا شعوبا غير مسلمة، مثل مملكة تشن الصينية وإمارات الروس وغيرهما بنفس شراسة محاربتهم للمسلمين فى المشرق العربى الإسلامى.
والدليل الثانى أن بعض قادة المغول قد اعتنقوا الإسلام وحاربوا لتوسيع الإمبراطورية المغولية، مثل القائد بركة خان، ابن عم هولاكو الذى انقلب على ابن عمومته وحاربه بسبب وقوع خلاف على منصب الخان الأعظم، إنحاز فيه هولاكو لصالح قوبلاى خان بينما دعم بركة خان معسكر بايدو، وبعد ذلك ازدادت العداوة بسبب اجتياح هولاكو لبغداد، فتحالف بركة خان مع المماليك فى مصر، وتزوج السلطان الظاهر بيبرس من ابنته.
أما الدليل الثالث فهو أن إسلام ملوك المغول فى مراحل لاحقة، لم يغير من سياستهم فى غزو المسلمين ولا حتى قلل من وحشيتهم وممارساتهم الدموية البشعة، كما فعل قادة المغول، مثل محمود غازان أو تيمورلنك أو غيرهما، وبقوا على نفس العادات المغولية فى مراسم التحذير للمدن المحاصرة من رفع الأعلام «اليوم الأول العلم الأبيض يعنى الأمان للجميع إن استسلموا، اليوم الثانى العلم الأحمر يعنى قتل المقاتلين فقط، اليوم الثالث العلم الأسود يعنى قتل الجميع» أو فى استقبال «الطقوزات» وهى من مراسم الاستسلام بأن يقدم لهم المهزوم تسعة من كل صنف من الهدايا حسب تقاليدهم، أو كإعدامهم المهزومين أو المتمردين من أصحاب الدم الملكى بطرق لا يسيل فيها دمهم، لاعتقادهم أن سفك الدم الملكى يغضب السماء.. وغيرها من عاداتهم القديمة.. فالأمر إذن لم يتعلق بالدين من بعيد أو قريب.
وللحديث بقية إن شاء الله فى الحلقات المقبلة من هذه السلسلة من المقالات.. يتبع.