وليد فكرى يكتب: أكاذيب تاريخية شائعة.. لماذا قتل بيبرس قطز؟.. وحقيقة جملة "فلاح خرسيس نرسيس" (5)

الأربعاء، 15 يناير 2025 03:41 م
وليد فكرى يكتب: أكاذيب تاريخية شائعة.. لماذا قتل بيبرس قطز؟.. وحقيقة جملة "فلاح خرسيس نرسيس" (5) وليد فكرى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ما زلنا مع الرد على بعض أشهر الأكاذيب التاريخية، فأرجو من القارئ العزيز مراجعة الحلقات السابقة من هذه السلسلة.

13 لماذا قتل بيبرس قطز:

الشائع - وغالبا المصدر هو رواية وا إسلاماه لعلى أحمد باكثير أو مسلسل الفرسان المأخوذ عنها - أن الأمير ركن الدين بيبرس - السلطان الظاهر بيبرس بعد ذلك - قد دبر اغتيال السلطان سيف الدين قطز، غضبا منه لأنه - قطز- قد وعد بيبرس بولاية حلب بعد أن ينتصروا على المغول، فلما تحقق النصر تهرب قطز من وعده. ويضيف البعض ذلك المقطع الشهير من المشهد الدرامى لاحتضار قطز، أنه كان ينوى أن يتنازل عن السلطنة لبيبرس!
وهذه مشكلة خلط البعض الدراما بالتاريخ، فالمبدعون فى مجالى الأدب والدراما لديهم الحق فى مساحة كبيرة من تطويع التاريخ لصالح الغرض الأدبى أو الدرامى، ولكن على الباحث عن المعرفة التاريخية الحقة أن يسعى إليها فى كتب التاريخ المتخصصة.


التاريخ يقول: إن قطز وبيبرس كانت بينهما عداوة شديدة بعد قيام قطز باغتيال الأمير أقطاى لصالح السلطان عز الدين أيبك، وقد كان أقطاى صديقا لبيبرس ورئيسا لحزبه من المماليك، فهرب بيبرس ورفاقه من مصر وتنقلوا فى خدمة أمراء الشام، حتى إذا ما هدد المغول مصر عاد بيبرس ومن معه ووضعوا أيديهم فى يد قطز، وقد كانت تلك عادة فى المماليك أنهم كانوا يتحاربون ويتصارعون حتى إذا ما واجههم خطر مشترك نحوا خلافاتهم جانبا وحاربوا معا.
قبل معركة عين جالوت طلب بيبرس من قطز أن يوليه حلب إذا ما انتصروا على المغول وطردوهم من الشام، فوعده قطز بذلك، ولكن بعد أن تم تطهير الشام من المغول تراجع قطز عن وعده وقال لبيبرس إنه يريده إلى جواره، ومن هنا عادت مشاعر بيبرس العدائية تجاه قطز تستيقظ.. فلماذا؟


ببساطة فإن بيبرس حين طلب حلب بالذات - وكانت «الديار الحلبية» آنذاك تضم حلب وكل الحدود الشمالية للسلطنة جنوب شرقى الأناضول - فهم قطز أن الأمر يتجاوز طلب منصب أو ولاية غنية ومهمة، فإن حلب كانت - وما زالت- تسيطر على شبكة طرق بلاد الشام والتى إن تمكن بيبرس من فرض سيطرته عليها فإنه سيتمكن بعد ذلك من ابتلاع الشام كله ثم تهديد عرش قطز فى مصر، إذن فطلب بيبرس كان وراءه طموح خفى كبير، ولأن معركة فاصلة كانت على وشك الوقوع، سارع قطز لوعد بيبرس بما أراد كى لا يخلق شقاقا أو توترا قبل المعركة، فلما انتصر المماليك وحان وقت تنفيذ الوعد وتراجع قطز عن وعده، أدرك بيبرس أن غرضه قد انكشف، وعندما طلب منه قطز أن يبقى إلى جواره استشعر بيبرس الغدر لأن قطز بعدما اغتال أقطاى، ثم قتلت شجر الدر أيبك، دبر - قطز - القبض على شجر الدر وتسليمها لأرملة أيبك، ثم أطلق العنان لحملة قمع وقتل وتشريد لمن استشعر منهم أقل الخطر من أمراء المماليك، فأحس بيبرس أن مصيرا مماثلا ينتظره، وهنا أصبحت نظرته لقطز هى «لا نجوتُ إن نجوتَ»، ولهذا دبر اغتياله عند حدود مصر، وتقدم وتربع هو على كرسى السلطنة.
إن القارئ ربما يمتعض من كل هذا القدر من التآمر والقتل، لكن دولة المماليك بشكل عام قد تأثرت بالأصول القبلية القبجاقية ثم الجركسية للمماليك وقانون «الحكم للأقوى»، فأصبح قانون السلطة هو «هى لمن غلب»، ورغم ذلك فإن تلك الدولة قد قدمت الكثير لمصر والشام وللحضارة العربية والإسلامية بشكل عام وكانت بمثابة الحصن الأخير لتلك الحضارة قبل أن يجتاح العثمانيون الشرق ويدمروا كل شىء.
 

14 فلاح خرسيس نرسيس:

الصورة النمطية للعلاقة بين الأتراك العثمانيين والفلاحين المصريين هى أن التركى ينظر بتعالٍ واحتقار للفلاح ثم يضربه بالكرباج صائحا به: «فلاح خرسيس نرسيس!»، فما هى بالضبط مشكلة الأتراك مع الفلاحين؟ هل هى ببساطة - كما هو التفسير الشائع - فكرة الاحتقار الأرستقراطى للفلاح البسيط؟
الأمر ببساطة يتعلق بموروث قديم جدا شائع فى الحضارة الإنسانية، هو النظرة السلبية المتبادلة بين الفلاحين والبدو الرُحَل.
فالإنسان البدائى عاش حياة البداوة، الارتحال والاعتماد على الجمع والالتقاط والصيد والرعى، ثم تطور إلى الاستقرار والزراعة والتمدُن..
رغم ذلك بقيت فئات من البشر تفضل الارتحال من مكان لآخر، مثل بدو الشاسو والخابيرو فى الشام والذين عاصروا الحضارة المصرية القديمة، وقبائل شمالى أفريقيا وليبيا، وفى عصور لاحقة أعراب جزيرة العرب، وقبائل الرعى فى أفريقيا، والهون والمغول وبدو التُرك قبل استقرارهم، وغيرهم.
ومع الوقت نشأت نظرة سلبية متبادلة بين الشعوب البدوية والشعوب المزارعة، فالمزارع المستقر الذى أقام حول زراعته المدن والدول والحضارات نظر للبدو باعتبارهم أقل تحضرا وأقرب للبدائية، والبدو نظروا للمزارعين باعتبارهم أناس ضعفاء تخلوا عن حريتهم وأصبحوا عبيدا لأرض واحدة ربطوا أنفسهم بها بقيود معنوية.
وعندما راحت الشعوب البدوية تغير على الدول وتنهب ثرواتها وعلى رأسها محصولات الفلاحين، ازداد البدوى فخرا بأنه من صنف قوى ينتزع رزقه بسيفه، وأن الترحال فى ظروف صعبة قد جعله أشد بأسا من أولئك «المائعون» الذين اعتادوا حياة الاستقرار وتخلوا عن مظاهر قوتهم.


تلك النظرة السلبية بقيت مستمرة حتى عندما استقرت بعض الشعوب المرتحلة وتخلت عن بداوتها، ومن هؤلاء: الأتراك، وتحديدا العثمانيون.


فالعثمانيون نظروا لأنفسهم باعتبار أنهم شعب مقاتل اقتنص بسيفه مُلك دول عتيدة كالسلاچقة والبيزنطيين ثم المماليك، وأسس بقوته الباطشة إمبراطورية مترامية الأطراف، فتوارثوا تلك النظرة الفوقية لمن حولهم خاصة فئة الفلاحين، وراحوا ينظرون لهؤلاء الأخارى باعتبار أن عبوديتهم لـ«السادة» الأتراك هى أمر بديهى وقانون من قوانين الطبيعة، وبالتالى فإن رفض الفلاح هذا الوضع وتمرده عليه ومطالبته بمساواته بالتركى هو عبث بناموس وخروج عن الأدب من هذا الفلاح الـ«أدب سيس»، وحتى وإن لم يدرك التركى العثمانى السبب التاريخى لهذا الشعور بالتفوق فإن احتقاره الفلاح بقى أمرا واقعا عنده.


وللحديث بقية إن شاء الله فى الحلقة القادمة من هذه السلسلة من المقالات.







مشاركة



الموضوعات المتعلقة

أكاذيب تاريخية شائعة (2)

السبت، 04 يناير 2025 08:49 ص

عن سلاح الشائعات نتحدث «1»

السبت، 23 نوفمبر 2024 02:02 م



الرجوع الى أعلى الصفحة