ليس صدفة إذن أن (جهاز الرقابة) قد أنشئ فى البداية كقسم تابع لوزارة الداخلية بل وفى شعبة الآداب العامة مرادفا لجرائم الدعارة وهتك العرض (والاعتداء) على الأخلاق.. ثم انتقل بعد ذلك – ربما بعد ثورة اهتمت بالمثقفين والفنانين فتراوح هذا الاهتمام بين التكريم والاعتقال والمصادرة – انتقل إلى وزارة «الإرشاد القومى» .. الإرشاد الذى لا يختلف كثيرا عن «المرشد» فى حركة الإخوان أو حتى فى إيران سوى فى نوعية الأفكار والقيم التى (يرشد) إليها والذى يعطى نفسه الحق بتصور أنه من حقه بل من واجبه أن (يرشدنا) ومن (التزاماتنا) أن نطيع (إرشاده).. أو نكره عليه بموجب قوانين تحوى ألفاظا مطاطة تخضع تماما لرغبة من يفسرها على هداه ممن يتولون منصب الرقيب أو من يؤثرون فى قراره.. وطبعا ساهمت الأجواء التى مرت بالوطن فى تباين سياسة الرقابة عبر الزمن بدءا من اختيار شخصية الرقيب وطريقة عمل الرقباء وتبعيتهم الوظيفية للدولة العميقة وانتهاء بفتح مجال (الحسبة) للأفراد والمؤسسات الحكومية والمدنية لكى ينزعوا أى حصانة عن شخصية الرقيب والتهديد بحبسه لو تجاوز أى حدود يرونها سياجا حصينا تمنع هدم المجتمع وتبديد قيمه الراسخه.
منع فيلم «لاشين» من العرض سنوات عديدة لمجرد أن الفيلم يتحدث عن «ملك فاسد» فى زمن قديم ولم تكن دلالة منع الفيلم الذى لم يكن يراه سوى أعداد قليلة (بحكم وسائل الانتشار وقتها) إلا الرعب من فكرة (إسقاط) الناس ما يشاهدونه على ما بدأ يتردد عن ملك فاسد يحكمهم.. وهو أمر يستعصى على أى فهم منطقى.. إذا ما الضرر فى فئات أو ألوف يرتادون دور العرض القليلة من رؤيتهم لفيلم سينمائى أيا كان موضوعه؟ وهل تخيل من اتخذ قرار منع العرض أن الناس سيخرجون من دار السينما فى مظاهرات حاشدة تطالب بإنهاء النظام الملكى الفاسد.. ولكن (جمال عبدالناصر) قائد ثورة 23 يوليو 52 هو من قال إن قراءته لقصة (عودة الروح) لتوفيق الحكيم كانت هى من حركت حاسته (الثورية) لإنقاذ الوطن..!! وهو الأمر الذى نبه هذه الثورة نفسها إلى أهمية تأثير الفن والثقافة على تراكم مشاعر (الثورة) فى نفوس أفراد الشعب.. وبما أن الثورة نجحت واستقرت فإن الحاجة تنتفى إلى كل من يؤجج رياخ لتغيير كما أن كثرة الأعداء الراغبين فى (إجهاض) الثورة المباركة والتشكيك فى رموزها لا بد أن يقابلها حرص زائد وعزيمة لا تلين على الإجهاز المبكر على حركة أو إعادة أو فكرة تدعو الى تأمل الواقع بهدف تغييره نحو الأفضل فى ظل عالم تختلط فيه الرؤى وتتباين الأفكار وتختلف الظروف فى كل دقيقة بما يلزم الجميع فى تطوير وسائله وإضاءة طرق تقدمه بكل فكر جديد ورؤية مختلفة..
جاء (الرقباء الجدد) للقائد جمال عبدالناصر برفض فيلم «شىء من الخوف» ظنا منهم أن صانعى الفيم يقصدونه شخصيا عبر شخصية الطاغية (عتريس)، فكان أن انتفض الرجل الذى آمن بنفسه كزعيم شعبى يحبه جمهور الشعب وقال لمن حوله «إذا كان الناس يظنون أن شخصية عتريس تمثلنى فأنا لا أستحق أن أبقى فى منصبى يوما واحدا» وأمر بالتصريح بعرض الفيلم. والتعليق على هذا الموقف يحتاج مجلدات.. وفى رأيى أن (الجوقة) التى أحاطت بالرجل والتى كانت سببا فى الهزيمة المذلة سنة 1967 كانت تعتقد فى أعماقها أنها فاسدة وأنها تحكم بالبطش والترهيب وهو ما لم يكن فى ذهن (البطل).. سليم النية والذى أدت سلامة نيته وإيمانه المطلق بنفسه إلى ما نعاين حتى اليوم من آثار 1967 وتبعاتها التى كان أهمها انتشار أفكار الإسلام السياسى التى ردت أسباب الهزيمة إلى (تركنا) للدين واتجاهنا للشيوعية...!! وليس إلى الفساد الشامل وسيطرة الفكر الواحد والعداء للديمقراطية وبالتالى للفن والثقافة.. وما حديث الشيخ الشعراوى عن اغتباطه بهزيمة مصر سنة 67 إلا دليل دامغ على ما نقول وما حدث فى انتشار أفكار السلفية الدينية التى روعت الوطن عندما استولت على السلطة وكادت – بالتعاون مع كل قوى التخلف والرجعية – أن تعيد الوطن إلى العصر الحجرى.
وفى أعقاب ثورة 30 يونيو العظيمة استطاع المصريون وجيشهم العظيم أن يخلصوا مصر من أكثر الأخطاء وأقدمها.. من سيطرة قوى الظلام والتخلف.. ومن تحالفات استعمارية عاونتها لتقسيم الوطن والمنطقة كلها عبر خلق واقع جديد تسيطر فيه قوى اليمين الغاشم وتفرض رؤاها وأفكارها على شعوب قديمة الحضارة هى أول من أرست قيم الحق والعدل والحرية.. وكان طبيعيا أن يصدر دستور 30 يونيو مبشرا بعهد جديد للمبدعين والمخلصين من أبناء الوطن.. نتأمل كل ذلك فى المقال القادم.