فى رحلة عبر الزمن، نلتقى بشهر طوبة، ذلك الشهر العريق الذى يحمل بين طياته قصصًا وأساطير شعب عظيم، فشهر طوبة ليس مجرد تقويم، بل هو جزء من هوية المصريين، جزء من تراثهم العريق الذى يمتد جذوره إلى عمق التاريخ، فالتقويم القبطى هذا النظام الزمنى الفريد، يشهد على عظمة الحضارة المصرية القديمة، ويُذكرنا بصلة الإنسان بالأرض والفصول، وبدورة الحياة المستمرة.
ويبدأ شهر طوبة، خامس أشهر السنة القبطية، اليوم الخميس الموافق 9 يناير، حاملًا معه نسائم البرد ونفحة من الماضى، لطالما ارتبط هذا الشهر بالطقس البارد والأمطار التى تغسل الأرض وتحييها استعدادًا لموسم الزراعة الجديد، فبعد أن يهدأ فيضان النيل وتنخفض درجات الحرارة، تبدأ الأرض فى الاستعداد لاستقبال بذور الخير.
ويستمر شهر طوبة فى التكشير عن أنيابه، فلا زال أمامه 30 يوما يصول ويجول فيها، وسيلجأ المصريون كالعادة إلى العدس، الفول السوداني، البرتقال واليوسفى، البطاطا المشوية، والسحلب والقرفة بالزنجبيل والشاى للدفء والهروب من قسوة البرد.
ومن أبرز الأمثلة الشعبية لشهر طوبة "طوبة تخلى الشابة كركوبة" فى إشارة إلى البرد الشديد فى هذا الشهر.
وفى شهر طوبة تبدأ الحقول فى الإزدهار والنماء بعد العواصف التى تأتى فيه، ويبدأ الزرع والمحاصيل فى تغطية الأراضى الزراعية حيث تتفق "أشهر طوبة وأمشير وبرمهات"، الثلاثة المتتالية على مبدأ السلف، وبينها يتم تبادل الأدوار، وما تتميز به من برد وزعابيب ودفء بنظام العشرات، فيضم كل منها 10 أيام من البرد، وأخرى زعابيب، وثالثة دافئة.
ولا يحتوى شهر طوبة على أعياد دينية كبيرة، ولكنه يرتبط بالعديد من العادات والتقاليد الشعبية، ويكون فى الفترة ما بين 9 يناير و8 فبراير من كل عام فى التقويم الميلادى، ويسبقه شهر كهيك المشهور بقصر يومه وطول ساعات ليله، ويعقبه شهر أمشير المميز بزعابيبه.
ولقب الأقباط (أو القبط) فى الأصل كان يُطلق على سكان مصر بوجه عام، منذ العصور الفرعونية، وقد عُرفوا بهذا الاسم نسبة إلى مدينة جيط (جبيتيو) عاصمة مقاطعة نتروى بصعيد مصر، والمعروفة حاليًا باسم قفط، وعندما فتح العرب المسلمون مصر عرف سكانها بالقبط، تجاوبًا مع اللقب الشائع لمصر آنذاك. ولما كان المصريون حينئذ يعتنقون الديانة المسيحية فقد أصبح لقب القبط خاصًا بمن يعتنق المسيحية من المصريين دون غيرهم، وقد احتفظ الأقباط بالنظام الفرعونى للتقويم المصرى على أساس السنة الشمسية ذات الأشهر الاثنى عشر، كل منها ثلاثون يومًا، يلحق بها أيام النسيء ؛ وعددها خمسة أيام فى السنين البسيطة، وستة أيام فى السنين الكبيسة، ولتحديد السنين الكبيسة، قسمت السنوات القبطية إلى وحدات، كل منها 28 سنة.
وتعتبر السنوات التى يكون أرقام الآحاد والعشرات فيها (3، 7، 11، 15، 19، 23، 27) فى كل وحدة سنوات كبيسة مقدار النسيء فى كل منها 6 أيام، وما عداها تعتبر سنوات بسيطة مدة النسيء فى كل منها خمسة أيام هذا، ولم يأخذ التقويم القبطى بتصحيح التقويم الجريجورى للتقويم الميلادى (كما سيأتى ذكره لاحقًا)، ما جعل ميلاد المسيح يوافق 7 يناير فى التقويم القبطى (25 ديسمبر فى التقويم الجريجوري).
وأشار تقرير للمعهد القومى للبحوث الفلكية أن التقويم القبطى احتفظ بأسماء الشهور القديمة التى عرف بها التقويم الفرعونى منذ الأسرة الخامسة والعشرين فى عهد الاحتلال الفارسى لمصر، وهذه الأشهر هي: (1) توت (2) بابة (3) هاتور ( 44 ) كيهك (5) طوبة (6) أمشير (7) برمهات (8) برمودة (9) بشنس (10) بوؤنة (11) أبييب (12) مسرى
ويعتبر التقويم القبطى التقويم الدينى الرسمى لطائفة الأقباط فى مصر حتى والجدير بالذكر أنه اعتبر تاريخ ولاية الإمبراطور الرومانى دقلديانوس حكم 29 ذلك بهم مصر بداية للتقويم القبطى، وذلك تخليدا لشهداء الأقباط، الذى ذكل الإمبراطور الوثنى لتمسكهم بعقيدتهم المسيحية، ورفضهم تأليهه وعبادته، وتخليدا لهذا العهد الدموى الرهيب فقد أطلقوا عليه "عصر الشهداء" وعرفوا تقويمهم القبطى بتقويم الشهداء، وقد تحددت بداية التقويم القبطى على هذا الأساس بيوم 29 أغسطس من عام 284 ميلادية ويقابل أول توت من ذلك التقويم، وبعد تصحيحات عدة فى التقويم الميلادى فى منتصف القرن السادس عشر صار 11 سبتمبر يقابل بداية السنة القبطية.