الهدف دائما هو عمل فرقعة، أو عمل تريند أو عمل أضواء أو أى شىء يلفت النظر، وهنا أكثر من طريق، أقصرها طريق اختيار الجهة الغريبة والنقطة المختلفة، وأن يبدو الواحد أحيانا عارفا أكثر أو تافها بزيادة، وبالطبع فإن الأمر يعود ليدخل فى سياق تقديرات الرأى والرأى الآخر إلى آخر المناقشات العبثية التى لا تفيد ولا تنتج شيئا مفيدا، وهذا الأمر لا يتعلق بعصر الاتصال أو السوشيال ميديا، لكنه معروف منذ آلاف السنين، وإن كان قد تزايد فى السنوات الأخيرة مع انتشار وصعود أدوات التواصل بهذا الشكل، وهى عالم يحتاج إلى وقود فى كل لحظة ليظل مشتعلا.
وفى عالم الإنترنت والتواصل، تصعب التفرقة بين الجاد والهازل، العالم والجاهل، المدعى والصادق، الكل يكتب، ويصرخ ويصرح ويشتم أو يمدح، المهم أن يجذب عددا محترما من المادحين أو الشاتمين، ساعتها سيكون أدى الغرض، ويمكن أن يعتذر أو يبقى فى المكان المعروف، وطبيعى فى عالم بهذا الاتساع والضيق والهشاشة، أن تختلط الحقيقة بالنميمة، والشائعة بالوصفة الطبية، والرأى السياسى بالاستعراض والمزايدة، يصعب البحث عن حوار أو مناقشة، وسط زحام البث الذى لا يعطى فرصة للتفهم والتدبر، والتقاط الأنفاس.
ولا فارق فى عالم التريند بين إعلانات ملابس داخلية، والأجهزة الكهربائية وعروض التقسيط والعقارات والشقق، والأطعمة، مع الدراما والنكات والبرامج والـ«بودكاست والنود فاست والهاى كوبى والديب فريزر والدارك ويب والهوت دوج» فكلها تبحث عن مستهلك يشترى السلعة، أن يمدحها أو يلعنها.
نقول هذا بمناسبة «الفراقيع» التى تنطلق كل مدة وتثير الجدل وتنتهى بعد إثارة الجدل بصلح أو اعتذار أو أى كلام، فيما يتعلق بتصريحات المخرج عمرو سلامة التى قال فيها ان إسماعيل ياسين أسوأ ممثل، أو أن صلاح أبوسيف مخرج مبالغ فيه، والواقع أن الضيف كالعادة مع هذه الكاستات يقع ضحية أسئلة يريد مطلقها أن «يثير الجدل»، وبالطبع يمكن القول بكل سهولة إن هذا الذى يقوله فلان أو علان هو رأيه الخاص، وينتهى الأمر، لكن فى الغالب فإن الأمر كله يكون بقصد، وليس الهدف منه تعميق النظرة أو تقديم أى ميزة، فالغالب المقصود هو جذب الأنظار إلى برامج أو حلقات لا أحد يشاهدها إلا إذا كانت تتضمن رأيا مختلفا وغريبا وصادما، وهذه هى نظريات الإعلام التى تقوم على «الرجل الذى عض الكلب، هذا هو الخبر، بينما الكلب عندما يعض بنى آدم فهذا ليس خبرا».
فالواقع أن هناك زحاما ضخما من أنواع وأشكال البودكاست، التى هى نفسها الحوارات التى تعرضها بعض المواقع، ولا بد أن تتضمن آراء «شاذة»، تسب مرحلة تاريخية بسرعة، أو تهاجم زعيما أو مرحلة، ويتم هذا بسرعة وباقتضاب، ومن دون فرصة للمناقشة وإذا اتسعت الهجمات يمكن الاعتذار أو التوضيح، وطبعا فى كل الحالات بيتم تعليق لافتة «حرية الرأى الخاص»، وهى كلمة حق يراد بها «تريند»، ولا علاقة لهذا بالرأى.
بل إن نفس مقدم البودكاست استضاف الفنان أحمد فتحى فى برنامجه، وقال الممثل عمر متولى: «أرى أن شكرى سرحان نال شهرة ونجومية أكبر بكثير من موهبته»، طبعا رأيه أثار ردود أفعال وصلت إلى القول إنه ممثل بالواسطة، باعتباره ابن الفنان مصطفى متولى، وابن أخت الفنان عادل إمام، وأنه بلا موهبة، ونال الفنان أحمد فتحى من الهجوم جانبا، وصل إلى القول إنه يكرر أدواره ولا جديد لديه.
طبعا سواء ما قاله فلان أو علان يمكن اعتباره رأيا، لو قيل فى سياقات طبيعية ضمن حوار، لكنها عادة تصدر بسرعة وتحمل شكل الإهانة أكثر من الرأى، بجانب أنها بشكل عام تصنع التريند، وربما من نصائح خبراء علم النفس أنه لا يجب أن يأخذ مستخدم الإنترنت كل ما يقرأه أو يسمعه فى العالم الافتراضى ومواقع التواصل بجدية.
ثم إن عالم السوشيال ميديا مولد يزدحم بالكلام والضجيج، ويصعب فيه التفرقة بين رأى قيم أو جديد، وحتى التاريخ لا يسلم من حكايات مغلوطة، وقصص مفبركة، ولا فرق كبيرا بين بودكاست ينتقد مخرجين كبار ويسفه من نجوم، وبين عروس تسجد لعريسها، وسيدة تحتفل بطلاقها من زوجها ليتحول الطلاق إلى تريند مثلما كان الزواج قبل شهور.
هناك تفسير نفسى من علم «نفس الجماهير» منذ أسسه عالم الاجتماع الفرنسى جوستاف لوبون، أن الشخص المنخرط فى جمهور السوشيال ميديا ليس هو نفسه الفرد الذى يمتلك إرادته كاملة فهو يفقد جزءا من استقلاله وسط زحام الجمهور وصناعة التريند، وأضرب هنا مثلا بمثقفين وكتاب عقلاء مؤدبين عاديين، يفقدون كل هذا عندما يتحدثون من زاوية مشجعى كرة القدم يتحولون إلى متعصبين وأحيانا شتامين يفقدون أصدقاءهم بسبب التعصب.
وفى كتابى «السيبرانى» توصلت الى أن المستخدم يضحى بجزء من خصوصيته، فى عالمه الافتراضى، لا حدود للتريند، ولا قيمة للموت أو العشرة فى ظل غريزة الشهرة والتشهير، حيث يتم عرض تفاصيل حياة الأزواج والزوجات، و«أخص» خصوصيات العلاقات الأسرية، ومع الوقت يفقد الجمهور اندهاشه، ويطلب المزيد، والجمهور هنا ليس الجميع، لكنه العدد الكافى لصناعة التريند.
اندهش البعض عندما من شاب استعرض على حسابه بتيك توك مقاطع توثق وفاة والده من الاحتضار حتى الدفن، وبرر النشر بأن الفيديو «عمل مليون و600 ألف مشاهدة»، بل ويبدى دهشة ممن عبروا عن صدمتهم من تصرفه، ويراهم «ناس عجيبة» والأزمة لا تتعلق فقط بمجتمعاتنا، بل هى أمر يخضع لدراسات وأبحاث فى العالم كله، كيف تتحول الفضائح والعلاقات الخاصة إلى تريندات للفرجة، والهدف أن يصبح الشخص مشهورا أو حتى نصف معروف تحت الضوء؟ كل هذا يعنى أن التريند أصبح واقعا بلا خصوصية ولا رحمة، وأن هناك جمهورا يستهلك هذا، سواء بالمدح أو الذم.

تقرير أكرم القصاص فى عدد اليوم السابع الورقي