حتى وقوع مجازر الساحل السورى، كان الفارق بين الرجلين فى الشكل لا الجوهر. بشار الأسد سفاح أراق دماء شعبه على امتداد سنوات الحرب الأهلية، وأبو محمد الجولانى إرهابى نحر أعناق السوريين وغيرهم، الأول بقوة السلطة وإغراءاتها، والثانى بوحشية الفقه المتشدد وانحرافاته، وكلاهما فُرضت عليه أمور واختار أمورا.
وفيما بعد استباحة العلويين فى اللاذقية وطرطوس وأنحائهما؛ فإن التمايز الظاهرى الوحيد تهشّم وسقط تماما، وتداخلت الدولة مع الميليشيا، وسلطان الشيوخ مع شيوخ السلطان، وتبدى التطابق الكامل بين الوجهين؛ رغم فوارق الشيطنة والأنسنة، ومحاولات الفرز فى ماضٍ أسود للاثنين، والتبشير بمستقبل لا إشارات عليه، والاستثمار المكثف للغاية من جهة بعض الأطراف فى الضبع الجديد.
لم يكن البعث السورى فى صدر نشأته، وعلى كل سوءاته، نائبا عن قوى خارجية. تعاظمت الضغوط على الأسد الأب منذ اختطافه السلطة؛ لكنه كان ماهرا فى صناعة التوازنات، وفى المقايضة وتحصيل المنافع لحساب دمشق؛ حتى من الولايات المتحدة نفسها، كما فى حال انتزاع الإقرار بوصايته على لبنان.
دعمَ الراحلُ البعيد إيران خلال حربها مع العراق؛ إنما ظل مستقلا عنها نسبيا، وشريكا لا تابعًا. خطؤه الأكبر فى إعادة إنتاج النزوة الأموية، عندما ورّث معاوية ابنه يزيد. اضطر حافظ لاستدعاء بشار من لندن، بعدما مات «باسل» فى حادث مفاجئ.
ومع طبيب العيون الهزيل؛ حتى كأنه لا يقنع ملابسه ولا يملأ عينها أصلا، تبدّلت الحسابات الدقيقة. انحلّت عقدة العقل عن رأس الدولة، تصاغر فى الخطاب والممارسة، استعدى المحيط الإقليمى بكامله، وألقى رايته المستقلة داخلا فى دين الجمهورية الإسلامية، وخادما لأجندتها فى تذخير المذهب، وإعلان حربها على العرب تحت لافتة الشيعية المسلحة.
الجولانى جذبته نداهة الإرهاب مبكرا. عبر الحدود إلى العراق بعد الغزو الأمريكى، بايع تنظيم الدولة وصار إرهابيا مع سبق الإصرار.
قتلَ وسُجِن وعاد للوحشية والقتل بعد الإفراج عنه، وتنقَّل كلاعبى الكرة المحترفين من داعش للقاعدة؛ ثم إلى مشروعه الإرهابى الميليشيوى المستقل، وأعاد إطلاقه عدة مرات بمسميات وهياكل متنوعة، كما لو أنه يدير يُكيّف منتجا تجاريا وفق احتياجات السوق، وظل على قلق كأن الريح تحته إلى أن استقرت مفاتيحه فى لوحة العثمانية الجديدة، وصار ذراعا فى جسم أخطبوط آخر.
باختصار؛ ثمة تشابه جديد مع الغريم: ديكتاتور قصر الشعب عاش سنواته الأخيرة جنديا فى الحرس الثورى، ووريثه المعمم يبدأ مما انتهى إليه؛ إنما ملتحقا بالخدمة فى جندرمة الأناضول، وتحت أطلال «الباب العالى» وأحلام استعادته من مزبلة التاريخ.
دفع السوريون فواتير باهظة ليتحرَّروا ويُحرروا بلدهم؛ إنما الخروج من مستنقع الدم لم يكن إلا حصيلة تفاهمات عابرة للحدود. ما انتصرَ الجولانى ولا هُزِمَ الأسد؛ بل قرّر رُعاة الطرفين، أو بعضهم، أن يُبرموا اتفاقًا من فوق الرؤوس.
لولا إسناد طهران وروسيا ما بقى النظام كل تلك السنوات، ولولا الاستثمار فى هيئة تحرير الشام وتوظيفها لخدمة دول أجهزة أمنية إقليمية؛ لما تمكّنت من البقاء حربًا وتهدئة، وصولا إلى القفز على مقعد الحُكم.
على غشم بشّار وقلّة عقله؛ فإنه كان واعيًا لحقيقة الواقع، وأن بقاءه حصيلة توازنات لا يد له فيها، وربما لهذا كان طيِّعًا عندما تلقّى أمرًا بالروسية أن يصعد للطائرة، وأن يتحضّر لعُمر مُقبل فى مناخ موسكو البارد. والجولانى يبدو ذكيًّا، أو على الأقل هو أذكى من سلفه، ويعرف يقينًا أنه لا رئيس ولا مَن يحزنون، وليس له من أمره شىء. جاء نائبًا عن آخرين، ويعلم أنهم يملكون الخلاص منه فى أية لحظة، ويعيش بجُرحه وطموحه والتزاماته التشغيلية بين نارين أو أكثر.
إن انقلب على مُشغّليه فقد يتبدّد مع هيئته بأسرع مِمَّا يتصوّر، والمآل نفسه تقريبًا إن ظلّ مُتعاليًا على إرادة السوريين ورغباتهم، ومستهينًا بالضيق الذى قد يُؤجِّج مشاعرهم كلما اختلّت مهمّة الانتقال، أو استشعروا ارتباك الدولة المأمولة، وتضييع طريقهم إلى المستقبل.
يطيب لكُثر من الشام وخارجه، الرهان على حُسن النوايا، وتعليق آمالهم العِراض على أكتاف الجولانى ورسائله المُنمّقة. ولا يُعرف على أى شىء يؤسِّسون مرهقتهم البيضاء، أو ماذا رأوا من الإرهابى التائب ليستبشروا أن يكون سياسيًّا رفيقا بالزمن والناس، وخليقًا بالبناء ومُداواة الأبدان والأرواح. يبدو المشهد مقطوعًا من ملهاة إغريقية ساذجة؛ إذ تتدفق المدائح المبتذلة على قاطع الطريق؛ لكنها لا تفجر الضحك.
لن تعدم الإشارات على طول الشهور الماضية. يقول الرجل شيئًا ويفعل ما يُخالفه، ويُسمع ضيوفه ما يُحبّون سماعه، ويهزّ خاصرته على الإيقاع الذى يُفضّله جمهور الرقص الرخيص. تحدث عن الانتقال من الثورة للدولة ولم يفعل، وعن حل الميليشيات وما تزال قائمة بأجساد مُتكلّسة، قال إن سوريا للسوريين ثم احتكرها من الشعر لأخمص القدم، وتحدث عن حوارٍ موسع ومفتوح لكنه أداره مع تيّاره فحسب، وعن عدالة انتقالية وتسامح من دون ثأر؛ إنما عاث رجاله فسادًا فى الساحل وقتلوا المدنيين على الهُويّة.
تكلم ثلاث مرات تقريبًا بعد المذابح؛ أنكر تمامًا فى الأولى، ثم تحدث فى الثانية عن «الأسرى» لا عن مواطنين موقوفين وفق اعتبارات قانونية، وأخيرًا اضطرّ للاعتراف بالتجاوزات؛ وإن عَمَّى عليها بمسألة الفلول، وتعهّد بمحسبة المسؤولين المباشرين مهما كانت صلتهم به، ومن بعدها سرّبت منصّات قريبة من النظام الجديد أن فصيلى «العمشات» و»الحمزات» يتحملان كُلفة الدم العلوىّ المُراق، ما يعنى أن الجريمة ارتُكبت من داخل ائتلاف الإرهاب الأصولى الحاكم، وأن الحديث ما يزال عن ميليشيات لا عن جيش مهنى أو مؤسسات وطنية منضبطة بالقانون وأعراف الدُّوَل.
وبالآلية نفسها جاء الإعلان الدستورى الأخير، وهو نكتةٌ بائسة فى أفضل التوصيفات المُمكنة. أخذ الرجل أسوأ ما كان من نظام الأسد، مخلوطًا بأسوأ ما يُمكن أن تتوقّعه من ميليشيا تتطلّع لإرساء ركائز دولة دينية ثيوقراطية مستقبلاً، ورتّب لنفسه جدولا زمنيًّا يسمح بتجذير نظامه فى التربة السورية بأريحية وبُطء، ومن دون أية التزامات أو أدوات للرقابة والمُساءلة.
حكم بشار ثلاث عشرة سنة وعدة أشهر بعد اندلاع غضبة مارس 2011، جُلّها انقضى فى أجواء الحرب الأهلية. ويُريد الجولانى أن يظل نصف هذه المُدّة سِلمًا، ومن دون انتخابات، ولا إشراكٍ للناس فى أى شىء يخص الحاضر أو المُستقبل؛ حتى أنك لا تعرف على أى خلاف كان الاشتباك مع الأسد الابن طوال تلك السنوات، طالما أن البديل سيُدير بالشمولية نفسها، وبحق إلهى مُطلق مثلما كان للملوك والأباطرة فى العصور الوسطى!
الجولانى مُخادع، وقد تبدّى ذلك منذ اللحظة الأولى. تحدث عن حكومة مؤقتة لثلاثة أشهر، وقد انقضت المُدّة وما تزال قائمة. والحوار الوطنى كان مسخرة لم تنطلِ على طفلٍ صغير، وصبّت مُخرجاته كما كان مُتوقّعًا فى تثبيت هيمنة التيارات الأصولية، بعدما احتكرت الحُكم والأجهزة الأمنية، وشكّلت لجنة تابعة لها بالكامل؛ فكتبت إعلانا دستوريًّا بمثابة عقد استملاكٍ للبلد ومَن عليه، وقطيعة مُبكّرة للغاية مع المدنيّة من كل زواياها؛ حتى نسختها المُعتلّة التى عِرِفَت فى العقود السالفة.
يستند زعيم هيئة تحرير الشام إلى فداحة عهد الأسد، وأن فريقًا من الناس تتأجج مشاعرهم حزنًا وانتشاء؛ فيعتقدون أنهم لن يعيشوا أسوأ مِمَّا عاشوه. وبعدما أطلق رجاله لصُنع الأُمثّولة الدامية فى مناطق العلويِّين؛ فقد اكتملت صورة «أهون الضررين» بجناحيها: كل شرّ يصغُر أمام المُقارنة بزمن البعث، وعلى من يفكّر فى التمرُّد أن يستعد لمذبحة كالتى رآها فى جبلة وبانياس وغيرهما.
أخد حاكم الأمر الواقع البيعة من رجاله فحسب، فشكّل لجنة للحوار قالت ما أراد قوله، وأخرى للإعلان الدستورى كتبت ما يتطلّع إليه ويصبّ فى مصلحته، ومنحته كامل الصلاحيات الكفيلة بابتلاع الدولة من أطرافها. يُمثّل الإعلان منصّة لاستعراض القوّة، وأداة احتيال وسحرٍ لعيون الناس؛ إذ من جهةٍ يُعبّر عن الهيمنة والوصاية وانتصار سُلطة الأمر الواقع، ومن الثانية يُقدِّم وعودًا ويسحبها فى الوقت نفسه، فلا يكون بمقدور الناس إلا أن يضحكوا ظاهرًا على الوعد، ويكتموا دموعهم رعبًا من الوعيد.
نصّ الإعلان على أن يكون الرئيس مسلمًا. سيقول المُدافعون إنه شرط من زمن الأسد؛ لكن بعيدًا من الرطانة فإنه لا حاجة له أصلاً فى نص انتقالى مؤقت، يُكتب فى وجود الرئيس المٌشار إليه. وأغلب الظنّ أنه يتقصد المذهب ضمنيًّا لا الدين، لا سيّما فى وجود مادة مَعيبة ومفجّرة للسخرية والهلع، بشأن مرجعية «الفقه الإسلامى» فى التشريع، ما يعنى الأئمة الأربعة جنبًا لجنب مع ابن تيمية وابن القيم والوهابية وسيد قطب والمقدسى، وأى مُختلٍ يتسلّط على منبرٍ لميليشيات سوريا أو غيرها. ولا حاجة للتذكير أنّ مَن نُحِروا على الساحل الشمالى الغربى مُسلمون، ومن نافلة القول أنهم غير مشمولين بمادة ديانة الرئيس، وليس لهم التفكير فى الرئاسة أصلا.
تناقض عميق بين راديكالية الجولانى ومرجعياته من جهة، واستهلاك لُغة حداثية من دولاب الدولة وثقافتها المدنية، كالدستور والقانون والسلطة التشريعية وغيرها. والفجوة الواسعة بين الأفكار الرجعية والوقائع المتصادمة معها تُرَمَّم بالتلفيق، وخلط الأوراق، وتشويه المعانى والمفاهيم.
تتحدّث اللجنة بتبجّح عن الفصل بين السلطات، بينما عَمليًّا تمنح الجولانى رئاسة السلطة التنفيذية ومجلس الأمن القومى، وحق تعيين مجلس الشعب كاملاً بشكل مباشر أو غير مباشر، وتعيين المحكمة الدستورية العليا، وتمنع عزله إلا من خلال البرلمان الذى عيّنه، كما تحلّ الأحزاب وتعلّق عملها وتكوينها لحين وضع قانون، من دون تحديد أى مدى زمنى؛ اللهم إلا خمس سنوات للانتقال يكون فيها الداعشى السابق ملكًا مُطلق السلطة، لا رادّ لقضائه ولا رقيب على نزواته أو ما ينصبّ عليه من إملاءات خارجية.
والمشهد مُلغز مزعج؛ إذ يبدو كأن عصابة اختطفت المجال العام من دون نيّة لإعادته، بل تريد قطع الطريق على أية مُحاولة للاستعادة. الانتقال بالمنطق والوظيفة بمثابة جسرٍ بين مرحلتين، والحال أن الجولانى ورجاله أعدّوا طبخة مُلفقة من القديم والجديد، من أسوأ ما فى البعث مع أردأ ما لدى الميليشيات. الانتقال مؤقت ويسعون لتأبيده، وبدلا من كتابة دستور دائم يحبسون المجتمع فى إعلانٍ مُشوَّه ومُشَوِّه؛ بحيث تصير كثير من نصوصه المفخّخة قدرًا مع الوقت، وتنتقل بالاعتياد والملل إلى الوثيقة الدائمة حالما يُتَوَصَّل إليها بعد سنوات.
من واجب فترات الانتقال أن تُظهِّر التناقضات لا أن تكتمها؛ لأنها أقرب إلى مرحلة استكشاف تتعرّف فيها المكونات على أنفسها والآخر، وتختبر المساحات المُشتركة بغرض التعايش المُتكافئ، لا هيمنة لون على آخر.
وما يفعله الجولانى أنه يُحاول الإيحاء بالإجماعية زورًا، ويكبح الأصوات المناوئة وتلاوينها الثريّة. إخفاء التناقضات يُطفئ حرارة الاجتماع، يُعثّر الانتقال، ويُغيّر التوازنات ويُعيد بناء المُعادلات الاجتماعية على قاعدة مُحرّفة بقوّة السلطة وسلطة القوّة، وبهذا تنحرف الدساتير والسلطات والعملية السياسية عن مهامها الأولى؛ ألا وهى إنجاز ميثاقية وطنية ضامنة للفئات الهشّة.
الأغلبية محميّة بعددها؛ أما الأقلّيات فإنها فى حراسة الدولة والدستور، وعندما يحدث العكس فإنها لا تكون دولة ولا دستورًا؛ بل عملية اختطاف مليشاوية فى حراسة النصوص.
يتربع الجولانى على رأس سوريا، حاكمًا فردًا كأباطرة العصور الوسطى. رئيس السلطة التنفيذية، ويُعين التشريعية والقضائية، وبطبيعة الحال فإن من له حق التعيين، يُملك الإقالة والإحلال. سُلطات إلهية لا تليق بزمن الانتقال، وتجعله عرضةً للاختلال والذهاب إلى المجهول. سيُقال كان الأسد هكذا؛ لكن القائل سيتجاهل أنه لو صحّ نموذجّا للقياس لَمَا كانت الثورة عليه. الخطر على سوريا من داخلها، دون إنكار خطورة تشغيب الخارج أكان صهيونيا أو شيعيا أو عثمانيا؛ إنما العِلّة كُلّها فى الإدارة المُستتبعة، وفى نخبة تبتلع ألسنتها، وشارعٍ يتصبّر بمآسيه القديمة، وسيفيق عمَّا قريب على نفاد صلاحية الرعب القديم للتبرير، وعلى تكراره على وجه أشدّ توحُّشًا وعمالة.
لا يستقيم الظلّ والعود أعوج، والنظام العفىّ لن ينبت فى تُربة طائفية، كما الدولة المدنية لن تُورِق فى مستنقع الدم والإرهاب. وإذ تدلُّ البعرة على البعير؛ فإن مواد الوثيقة الانتقالية لا تُبشِّر بدستورٍ يصلح لسوريا ويُصلِحها. كتبه الجولانى بالدم والاحتيال، ويُطلّ الأسد برأسه من ثنايا نصوصه، ويبدو أن الشام على موعدٍ مع قصة البعث نفسها إنما من بطولة الضّباع.