حازم حسين

فلسطين بين أُصوليتين جارحتين.. من الحوثى لنتنياهو ورسائل ترامب فى السياسة والحرب

الإثنين، 17 مارس 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لم يكن موقفها مُقنعا منذ اللحظة الأولى، وليس لبُعد المسافة واختلاف المذهب، ولا لدخولها مُتأخّرة على فضاء الأحداث، إنما لأنَّ قرارها لم يكُن مُستقلًّا، ودُفِعَت من طرفٍ آخر لتلعب دورَها الرسالىَّ المُدَّعى بالوكالة، والأهمّ أنَّ الذين خربوا أوطانهم لا يُمكن الاقتناع بصلاحيّتهم لإعمار أوطان الآخرين، ولا مُجرَّد إقالتها من العثرات.. على وفرة ما فى إقليمنا التَّعِس من الموارد والثروات، فإنَّ أضخم إنتاجاته تتركَّز فى المُفارقات الساخرة، هذا لو نحَّينا الفوضى والخراب وتسعير الحروب المجّانية من القائمة.

جماعة الحوثى الشيعيَّة خنجرٌ صَدِئ فى الخاصرة. صحيحٌ أنَّ اليمن السعيد لم يَكُن اسمًا على مُسمَّى طوال سنوات على عبد الله صالح، لكنه لم يكن بائسًا ومُثيرًا للبؤس والإشفاق كما هو اليوم. تحالفَ الرئيسُ السابق مع ألدِّ أعدائه، ثمَّ انقلب عليهم وانقلبوا عليه. كبَشَ النارَ طمعًا، وشربوا من دمه استهلالاً لحقبة فارسية فى أعرق معاقل العرب.

وضعتْ الميليشيا المذهبَ فوق الدين والدنيا، وعمائم الملالى قبل الوطن ورايته. كانت جزءًا من بلدٍ، وصارت قيدًا فى رقبته، وقاعدةً مُتقدّمةً لمشروع، آليفٍ فى الظاهر، جارحٍ فى الباطن، وساعٍ إلى ابتلاع الجغرافيا بقَضِّها وقضيضها، كحال كلِّ المشاريع الإلغائيّة.

دوّامةٌ لا تبدو جديدةً تمامًا. سبقَ أنْ كان اليمنُ مسرحًا للعبةٍ شبيهة، وفيما قبل انبعاث الثيوقراطيّة على رأس إيران. استثمرت الرجعيَّةُ الدينيّة وقتَها فى عمامة الإمام، وتصدَّت مصر للخطَّة وما ينطبع عليها من بصماتِ الامبريالية القديمة.

تكبّدنا وقتَها خسائر مُرهقةً للغاية، لكننا أفسدنا البرنامجَ المشبوه من جانب القوى الخارجية وذيولها فى المنطقة. دارت الأيّامُ دورةً كاملة، والذين تاجروا مع الشيطان احترقوا بناره، وجاء مُستثمرٌ آخر ليُوَظِّف الورقةَ الزيديَّة ذاتَها فى اختصام مُحيطها القريب. استوعب الخارجون من كهوف الزمن، لكنهم عجزوا عن إنجاز ما أنجزته القاهرة قبل عقودٍ.

الخبرةُ القديمة والجديدة على السواء، أنَّ ذَوى الهوى الأُصولىّ ينظرون للأُمور جميعًا من ثُقب إبرة، والتنظيمات الراديكالية منهم على وجه الخصوص لا يضعون اعتبارًا لبشرٍ أو حجر. يعبدون عناوين ضخمةً مُجوَّفة، قد تكون «أستاذيّة العالم» لدى الإخوان والخلافة عند غيرهم من تيَّارات السنة، أو المُقاومة والمُمانَعة وثأر الحسين المُعلَّق فى رقبة يزيد عند الشيعة.

الطرفان مُختلفان شكلاً ومُتطابقان موضوعًا، ويجمعهما اختطاف الدين، ابتداءً بتضييق واسعِه، ثم الاستعلاء به حتى على مُعتنقيه، وصولاً لاستحلال الدماء كلِّها من دون تمييز.. يصيرُ المُقدَّس فى أيديهم مُدَنَّسًا، لأنهم لا يحفظون له الجلالَ والوقارَ عملاً فى خدمته بما يستحقّ، بل يبتذلونه بالتوظيف الإذعانىِّ فى خدمة أغراضهم الدنيّة.

لا فارقَ بين إفراغ الحوثيِّين لبنادقهم فى صدور اليمنيِّين، وما فعله الإخوان بحقِّ المصريين لسنواتٍ عديدة بعد ثورة 30 يونيو. الجماعة كانت قد افتتحَتْ فاصلَ الدمّ مع بداية الربيع العربى، فاستعانت بالحماسيِّين لتقتحم السجون وتُثير الفوضى والهلع، وولغ فرعُها التونسىُّ فى دماء مُعارضين مثل محمد البراهمى وشكرى بلعيد.

بأصابعها فى سوريا، عملت جنبًا لجنب مع نظام الأسد على تحويل الغضبة الشعبية إلى حربٍ أهلية، وأشرفت على تدفُّق الإرهابيِّين والأسلحة للشام، ولم تكن بعيدةً من الفتنة اليمنية أيضًا.

حزب الله فى لبنان، وميليشيات الحشد الشعبى فى العراق، وحماس نفسها وقد استهلّت زمن الانفراد بحُكم غزَّة، على جثامين عناصر «فتح» الذين ألقتهم من أعالى البنايات أو سحلتهم فى شوارع القطاع.

على امتداد الخارطة، لا يُمكن أن تقلب صفحةً مُضمَّخةً بالدم فى ذاكرة العرب، إلَّا وللجماعات الإسلامية المُتطرِّفة سَهم فيها. والصورة إذ تبدو ناصعةً ووافرة التبيان من جهةٍ وطنية صافية، فإنها تلتبِسُ على الناظر من اتّجاه القضايا الخلافية، وعلى المشغول بعناوين كبرى، يُحسِنُ ببّغاوات الأُصوليَّة تردادها والاتجار فيها.

وعليه، فبضاعة تلك التيَّارات تبدأ من المنابر وتنتهى إلى العاطفة. لا يتوقفون عن الخُطَب وادِّعاء البأس، ولا عن المُغامرة بالقليل الباقى، لأجل التحويط على القلوب الساخنة والعقول السائلة.

لن تقبلَ من الحوثىِّ أن يُجوّع ملايين اليمنيين ويسرقهم، إنما ستصمت لو وضعَ الإقليم كاملاً فوق البركان. يُثيرُ الضيق أن تقتُلَ عناصرُ القسَّام فتحاويًّا أو أكثر، لكنك ستُهلِّل أو تخجل من النقد لو استدرجوا الموتَ لخمسين ألفًا. سيُسيئكُ اغتيال حزب الله للحريرى ولقمان سليم وآلاف اللبنانيين، وقد لا تتوقَّف لحظةً لو افتتح حربًا أفضَتْ لمَقتَل مئات أو آلاف الأبرياء.

والأُصوليّون بطبعهم تُجّار مُحترفون. لا يحفظون من الأَثَر إلَّا حديث «تسعة أعشار الرزق فى التجارة». باعةٌ ومُستوردون وبقّالون، ويصعُب أن تعثُر فيهم على مُنتِجٍ أو صانعٍ ماهر. والدِّينُ بضاعةٌ حاضرةٌ ووفيرة، ومشاعرُ الناس هيّاجة من أقلِّ انتحابٍ أو تقوى مُصطَنَعة، والقضايا العادلة مُغرية وتلمس أوتار القلوب دون مجهود.

وهكذا، لا أملَ فى شفاء الجروح الهُويَّاتية من سفالة العدو والصديق، الأوّل يضغطُ عليها للإرهاب والرَّدع والتثبيط، والثانى يعصرُها لاستحلاب ما فيها من إشفاقٍ واستعطاف. ولن نتحرَّر من أعداء الخارج، إلَّا لو تحرّرنا من أعداء الداخل أوّلاً.

اتَّخذت النكبة الأولى بكاملها هيئة المؤامرة، ولو أساء الفلسطينيون والعرب إدارة ما تأتّى عنها أو ترتَّب عليها. أما نُسختها الثانية فقد أتت تطوّعًا، وبدا منها كما لو أن الفصائل الغزية، ومحور المُمانعة من خلفها، مُسيَّرون نيامًا، أو يُقطِّعون نياط قلوبهم مجانًا. طوفان يحيى السنوار أزعج الصهاينة، لكنه استنفرهم وأمَّن لهم الذريعة، ودخول حسن نصر الله تحت لافتة «الإسناد والمشاغلة» أقام لبنان فى عين العاصفة، وعبَّد الطريق منه إلى الشام وصولا لإيران نفسها، والحوثيّون وضعوا رأسهم على المقصلة افتتانًا بالذات، وتعاميًا عن التوازنات.

دوائر القداسة مُسيّجة بالمذهب لدى الشيعية المُسلّحة. القدس مُجرّد شعار يُرفَع لأغراض السياسة والمناورة، ولم يُعرَف عن المراجع أنهم تأذوا من اعتراف إيران بإسرائيل قبل سبعة عقود. والحوثيون فرع من الشجرة، ولا يطرحون فاكهة مختلفة اللون والمذاق.

القضية الفلسطينية حجّة للدخول فى أحشاء الإقليم، والتشغيب على دوله ومصالحه. لا إسناد نصر الله منع عن غزّة الموت والدمار، ولا استعراضات عبد الملك أزعجت تل أبيب ورُعاتها، بقدر ما أضرّت أخلص الناس لفلسطين، مثل مصر التى نزفت مليارات الدولارات جرّاء المُغامرة.

عضّت القاهرة على جُرحها بصمتٍ بليغ، وما انتقدت نزوة وكلاء الحرس الثورى فى اليمن، ولا استجابت لدعاوى التصدّى لهم. فوّتت عليهم بحكمةٍ أن يُزايدوا عاطفيا على دول الاعتدال، أو أن يُثيروا غبار الدعايات فى سماء المأساة التى أوقدوها للمنطقة، مُتعاونين بغباء مع نتنياهو، أو مستسلمين برعونةٍ لأهدافه الحارقة.

ورغم كل المآخذ على المُمانِعين طوال الشهور الماضية، فليس أعجب من الرجوع للطرق الخاطئة، واعتماد الوسائل التى أثبتت فشلها مرّة بعد مرّة.. ارتدع حزب الله لأنه لا خيار لديه، ويُكابر الحماسيّون رغبة فى ترشيد خسائرهم، وقد عرفوا حجمها رغم إنكارهم لها. أمَّا الحوثيّون، فبعدما صمتوا اضطرارا أو بالأمر، عادوا للوَعيد بإملاء على ما يبدو، ومنحوا مُهلة أربعة أيام للاحتلال أن يُمرِّر المساعدات للغزّيين، وإلا سيعود للحرب مُجدَّدًا.

كانت رسالةً خاطئة فى الوقت والمضمون. وجاء الرد عليها سريعًا بضربة أمريكية فى صنعاء وعدد من الأنحاء، ويُتوَقَّع أن تتواصل العمليات لأيام أو لأسابيع. تبدَّل الزمان والمكان منذ الطوفان، وما تزال الحناجر المُمانِعَة على غرامها القديم، بذات النبرة والإيقاع، ومن دون استشعارٍ لفداحة المُتغيّرات المُحيطة بهم من كل جانبٍ.

الأرجح أن ترامب لم يتصدّ دفاعًا عن إسرائيل، ويعرف أنها قادرة بمفردها على كبح الحوثيين وإطفاء مخاطرهم. كان قد وجّه رسالة للمرشد الإيرانى من قناة الإمارات، دعاه للحوار وصولا إلى اتفاق بدلاً من الحرب. والعملية بحق الميليشيا اليمنية رسالة إضافية، تستكمل ثنائية «العصا والجزرة» بتمثيل عملانى، كما لو أنه يقول إمّا مصافحة اليد المتقدمة، أو احتمال ما ستُنزله الثانية.

يقف نتنياهو على أطراف أصابعه، ورجاله من اليمين الدينى والقومى على السواء يدقّون طبول الحرب. لديه رغبة فى إذكاء النار داخل غزّة مجددا، ويضغط على واشنطن لتُلاقيه على هجوم مباشر ضد إيران ومواقعها النووية. والأخيرة يبدو أنها حفّزت ذراعها الحوثيّة استثمارا لِمَا تبقّى من وسائل الرَّدع، وإضاءة للمصابيح الحمراء بشأن الملاحة وأمن الإقليم، وليس دفاعا عن القطاع أو دفعًا لإدامة الهُدنة بين حماس والاحتلال.

لدى ترامب موقف قديم تجاه الحوثى، وسبق أن صنّفهم تنظيمًا إرهابيا فى أواخر ولايته الأولى، وأعادهم مُجدَّدًا للقائمة بعدما أزالهم بايدن منها. وبضربته الأخيرة يُؤمِّن على سابق مواقفه، لكنه يستثمر فى أجواء الريبة والغموض أيضًا. قال إنه لا يُحب الحروب، ويسعى لوَقفها، بينما يُبادر اليوم إلى هجمةٍ قد تستدرج غيرها، وقد تتطوّر إلى مواجهة أكبر، وربما تنفتح على جبهات أُخرى فتصير حربًا.

إنه لا ينطلق من أيديولوجيا واضحة، ولا برنامج يقرأ منه. يحب حال الرجل غريب الأطوار، ويستثمر فى سردية الجنون غير مأمون العواقب، ليفوز بما يُحبّ بالرعب أو المساومة غير العادلة. الحوثيون استنفدوا أوراق قوّتهم وأقصى ما يقدرون عليه، والحزب تقهقر للوراء ولم يعُد قادرا على إسناده فنيًّا أو لوجستيا، وباتساع التوتّر فقد تنقطع خطوط الإمداد من جهة بحر العرب. إيران أمام خيار التوقف بتعقّل ورَويّة، أو مواصلة إحراق مراكبها والتضحيّة بما تبقّى لديها من أوراق قليلة.

تطويق الحوثيين بالنار يُحتَمَل أن يكون مقدمة للهجوم على الجمهورية الإسلامية، ويُحتَمَل أيضًا أن يكون مدخلاً لجَرّها إلى طاولة التفاوض. ترامب لا يريد الحروب لكنه قادر عليها، ونتنياهو راغب فيها لكنه عاجز عن خوضها بمُفرده. كأنها لعبة «شد الحبل» بين النازية الصهيونية والشيعية المُسلّحة، وتتحدَّد مآلاتها اتّصالا بالطرف القادر على استمالة شهوة الإدارة الأمريكية للأرباح السهلة. صراع بين أطراف كلهم سيّئون، إنما لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالحق والخير والعدالة والإنسانية وبقيّة القيم النبيلة، وبالتأكيد لا علاقة لها بفلسطين والفلسطينيين وحقوقهم العادلة.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة