حازم حسين

إعادة إعمار السردية أوّلاً.. عن سُلطة الوهم وعبء الدعايات من فلسطين إلى لبنان

الثلاثاء، 18 مارس 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تضاءل النصرُ فى قاموس المُمانِعين؛ حتى اختُزِل فى العاطفة فحسب، على ما يرى الأمينُ العام الجديد لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، فى حديثٍ أخير؛ إذ لا قيمةَ للوقائع الماثلة، ولا لحقائق الميدان، والأهمّ فقط هو ما يشعر به الحزبيِّون فى نظرتهم لحصيلة الشهور الماضية.


الموتى مُجرّد أرقام، والخراب العميم سيجد من يتكفَّل بإعماره؛ أمَّا الشيعيَّةُ المُسلَّحة فتكتفى من الغنيمة بالإياب، وتغنيها البطولاتُ المُتوهَّمَة عن البلد والناس. إنها حالةٌ عِصابيَّة وعُصابيّة معًا، تنكيلٌ مجّانىٌّ بالذات، ولعنةٌ دافقة على الحاضنة الشعبية، وهدايا مجَّانية للعدوِّ أوّلاً وأخيرًا.


لا يخلو المشهدُ من إهانة مُضمَرَة؛ إذ لا معنى للتفاخُر بالفاجعة سوى أنَّ المُتسبِّبين فيها يتعالَون على مواجع البشر، يرونهم أُضحياتٍ على مذبحهم قبل مذابح الصهاينة، ويخبزون فطيرةَ الدم لغاياتٍ يضعونها قبل الوطن وبَنِيه.


وما فاتَ فيما يخصُّ الرسالةَ العامة؛ أمَّا فى الخاص فيتولَّدُ الانزعاجُ فكريًّا وتنظيميًّا عن كُلفة الإنكار، والاستغراق فى الوهم بحيث لا يعود الواقعُ حاضرًا فى المُقاربة، ولا يتأمَّن الواقعون فى أَسْر الميليشيات الأُصوليَّة من تكرار مُغامراتهم. الطبيعى أن يُحِبَّ المُنتصرُ تكرار انتصاراته، وما لم يقتنع بالهزيمة، ويستميت فى القطيعة معها؛ فالأقرب أن يُنزِلَ ببيئته مزيدًا مِمَّا اعتاد صَبَّه على أُمِهات رؤوسهم.


وما يجرى من الحزب، يتكرر على الجبهة الجنوبية، وقد كانت مفتتح الجولة القائمة وشرارة النكبة الفلسطينية الثانية. إذ ما تزال حركة حماس مقيمة فى دوّامة الفخر والإنكار: ادّعاء لنصرٍ لا يُرى عليه دليل، وإنكارًا لمأساة تُترجمها تلال الركام والأشلاء، وتلتمع معانيها على وجوه ما تبقى من الأحياء الجوعى.


لا مِراء فى توحُّش العدوِّ ودمويّته، ولا اختلاف فى حقيقة أن الصهيونية شكل من النازية، وتختزن طاقة شرٍّ عظيمة، ويُمكن مطابقتها فى التعريف مع كل الأفكار الوحشية والإبادية القديمة والحديثة، وما لم يخطر على مخيال آدميين أو حيوانات ضارية؛ إنما السؤال عمَّا إذا كانت تيَّارات المُمانَعة تجهل ذاك، أو أنها كانت تعرفه يقينًا، واختبرته غير مرَّة؛ لكنها قررت باستهانة غريبة أن تتخطَّاه، وأن تُلقى بناسها فى محرقةٍ تعرف مداها!
وإزاء السلوك الاعتيادىِّ من جانب الدولة العِبريَّة، والخبرة المُكتملة لدى محور المُمانَعة بكل تيَّاراته، أو التى يُفتَرَض اكتمالُها من وفرة التكرار؛ فإنَّ مدحَ المُقاومة والإقرار بحقِّها المشروع، وقدحَ الاحتلال وعدمَ الصمت على سرديَّاته الزائفة، لا يُغيِّران من حصيلة المُغامرة التى دخلاها معًا بقَصدٍ مُسبَقٍ أو تمنيَّاتٍ لاهثة، وخرج منها العُزَّل الأبرياء منكوبِيْن مع قضاياهم.. كأنهما توافقا ضِمنيًّا على القَضْم من الخزَّان البشرى المُستباح، بدلاً عن تبادُل «عَضّ الأصابع» فيما بينهما بشكلٍ حصرىّ.


يُحَرَّفُ الصراعُ عن مواضعه بالتباسٍ مُغرِض، ويُلبَسُ فيه الحقّ بالباطل، والمظهرىّ بالجوهرى. وفيما يتبدَّى أنَّ ضباع تل أبيب تخوض اللعبة عن بيّنة، ولأهدافٍ مُحدَّدة فى رأسها ومُتَّصلةٍ بديمومة مشروعها خارج الأيديولوجيا والأفراد، تُساقُ حِملان الشيعيَّة المُسلَّحة زُمرًا من دون تدبُّر، أو ربما لغايةٍ خَفيّة لا تتَّصل بقضاياها المُباشرةِ أصلاً. تضَعُ الخاصَّ فوق العام، والوطنىَّ دون العقائدىِّ، وتتورَّطُ فى السرديَّة المُضادّة من سِكَّة غير مُباشرة؛ حتى لكأنها تُحقِّقُ للغريم اللدود مُبتغاه عن سَبقِ إصرار.


والأزمةُ مع إسرائيل فى جوهرها سياسيَّة قانونية، تنسحب على الأخلاق بمعناها الضميرىِّ فى عموميته الأُمَميَّة ومُشتركه الإنسانى. ومن مصلحة الدولة المُلفَّقَة أن تُعيد هندسة أسباب المُنازعة، وتُكسِبها وجهًا على خلاف حقيقتها. إنها تُحبِّذُ تديينَ المسألة الفلسطينية من دون شكٍّ، ثمَّ تعبئتها فى قارورةٍ مذهبيَّة، ويُوافِق هواها أن يقبِضَ أعداؤها على سرديَّة النصر، بعدما روَّعت الملايين منهم وذبَّحَتْ عشرات الآلاف؛ فكأنهم يغسلون يدَها من الجريمة بادِّعاء البأس والتكافؤ الميدانىّ، ويَمُدّون مزيدًا من الذرائع لحديثها عن عدم اكتمال المهمَّة، ورغبتها فى إعادة تأجيج القتال مُجدَّدًا.


مليونان ويزيد فى غزة حُبِسوا دون اختيارٍ منهم تحت الراية الحماسيَّة. صار الكلامُ عن الحركة وحدها، فى التفاوض والهُدنة، وفى «اليوم التالى» وما وراءه من مستقبلٍ غامض. شُطِبَ على البشر لصالح كيانٍ اعتبارىٍّ مُؤَطّرٍ فِكريًّا وموصومٍ لدى قطاعاتٍ واسعة فى الإقليم والعالم. مثلما طُوِيَت أكثر من 10 آلاف كيلو متر مُربَّع تحت عمامة حسن نصر الله، واستُعِيض عن كامل لبنان بضاحية بيروت الجنوبية خصمًا، وبجنوبىّ نهر الليطانى حلبةً للنزال والترويع. تُسرَقُ القضايا من أصحابها مَرَّتين: الأُولى بتقزيمها، والثانية بإعانة السارق على المسروق.


عندما قال «نصر الله» عقب حرب العام 2006 «لو أعلم ما خطفت الجُنديَّيْن» لم يكن يعتذر على وجهٍ واضح؛ لكنه أقرّ بالخطيئة من باب جانبىّ. وما يُفهَم من الاعتراف أنه لن يُلدَغ من الجُحر مَرَّتين؛ أما وأنه لُدِغ بالفعل، فكل ما وراء الاعترافات الصريحة والإيحائية يفتقد معناه تماما، ولا يعود سوى خديعة تُمارَس على حاصنته اللصيقة أوّلاً، ثم على القضايا الوطنية وجماهيرها من كل الأطياف. ثم لا حصانة من تكرار الإخفاقات، ومن تلبيسها عمائم غير ما يليق بها ويعبِّر عنها فعلا، وتلك أزمة الأصولية الدينية على التحديد.


خاضت حماس نزاعات متفاوتة القوّة مع إسرائيل؛ لكنها منذ العام 2014 سعت إلى إبقاء الأمور دون الصدام الكاسر، وأوحت فى جملة ما غازلت به الصهاينة، بأنها مُرتدعة وتُرتِّب الاقتصاد فوق السياسة والنضال، وتنشغل بتأبيد سلطتها على غزّة بأكثر مِمَّا يعنيها اتخاذها رافعةً للمشروع الوطنى الضائع. باختصار؛ اكتفت الحركة بالجزء عن الكُل، وقطعت الوشائج مع الضفة الغربية بمثل ما قطعها الاحتلال؛ بل شهدت على عِدّة مناوشاتٍ جمعته بـ»الجهاد الإسلامى» ولم تتدخَّل.


بدا فى الأُفق أن شيئًا من البراجماتية الإخوانية يحكُم الفصيل الغارق فى أدبيات التنظيم إلى منخاريه. صفقة شاليط غذّت لديهم غُدّة السياسة من باب القُدرة على إنجاز عمليات خاطفة بأثمان باهظة، واستثمار نتنياهو فيهم لم يكن مُزعجًا لهم على الإطلاق، بل رأوا فيه فرصة لتعزيز قدراتهم المالية واللوجستية، والتمتُّع بحقائب الدولارات العابرة من الرُّعاة الخارجيين عبر مطارات العدوّ. ورغم ما قد يراه البعض من انتهازية فجَّة، فالمسلك ذاته يحتمل العقلانية أيضًا؛ لكن الافتراضات كُلَّها تسقُط للأسف دفعةً واحدة، ومع قرار غبىٍّ من ديكتاتور واحدٍ بالانتحار فى الطوفان.


ما عاد التكرار صالحًا لتعليم الشُطَّار، كما تقول الأمثال، ولا الذاكرة تضطلع بدورها حافظةً للمواقف والخبرات. تفقد الدروس قيمتها، وبمعنى آخر تُهدَر التضحيات القديمة باستسهال جارح. إن كل ارتداد للوراء يدوس على دمِ شهيد أو قلب يتيم، ولا معنى لارتكاب الأخطاء الساذجة ذاتها، سوى أنك لا تحترم أرواح من قُدتَهم لحتفهم سابقًا، أو تسترخص دماءهم بقدر ما يسترخصها القاتل وأكثر.


خُرِّبت السرديَّات العادلة بالتديين والتطييف، وبلعبة المحاور والأحلاف بنزاعاتها السوداء ونزوعاتها فوق الوطنية. والحال؛ أن الدمار فى النفوس يتخطَّى كثيرًا دمار الجغرافيا والعمران، وأن مهمَّة التعافى وإعادة الإعمار تحتاج للتشغيل فى المعنوىِّ قبل المادىِّ، أو بالتوازى؛ مع العلم أنها الأصعب والأكثر كُلفةً وتأثيرًا.
والفصائل التى افتتحت مقامرة الطوفان، وقُبِرَت فيها؛ إنما تُدافع عن وجودها بسرديّة النصر، وتتغافل عن احتمالية أنها تجور على القضية التى تنوب عنها، أو تدّعى النيابة فى تمثيلها. تضع تثبيت حاضنتها فوق مُداواة الضحايا وترميم قلوبهم.


الاعتراف بالهزيمة لا يعنى الانسحاق أمام العدو أو التسليم؛ بل يُطمئن الجميع إلى أن إنسانيّتهم لم تتلوَّث بعد، وأنها ما زالت قادرة على احترام هشاشتها، والإقرار بها من دون خجل. الاتّضاع علامة على الحيوية، وضمانة لاستيعاب العِبَر واجتناب التكرار، والأهم أنه ينطوى على وعى جاد بارتباك السرديّة، وبحاجة القضايا إلى الإنعاش وتجديد العافية، بما يعنى انقضاء فاعليّة السياق القديم بالصورة التى كان عليها، والحاجة لسياق أكثر طزاجةً واستجابةً للمُتغيّرات.
فلسطين قضية أهلها أوّلاً، ثم كل داعمٍ أمين فى النظر للقضية بمعزلٍ عن الهوى والمنافع الذاتية. سبق أن استُخدِمَت للنكاية أيّام جبهة الصمود والتصدِّى، ثم لعب خطاب المُمانَعة وما تفرَّع عليه من أجندات الشيعيَّة المُسلَّحة ذات اللعبة بحذافيرها، وانقسمت البيئة على ذاتها، وضيّع أهلها البوصلة، فضاعت منهم الطريق.


وفى لبنان، كما فى ساحات أخرى غيرها، دُفِّع الناس فواتير باهظة من مُقدّراتهم جيلاً بعد جيل. من النكبة وحرب 1948، إلى اتفاق 1969، ثم الاحتلال واقتحام بيروت ودوّامة النار المُشتعلة إلى اليوم. لم تنتفع غزّة من «حرب الإسناد» الأخيرة؛ لكن اللبنانيين تضرّروا. ولم يعُد مُقنعًا أن تقبض ميليشيا طائفية على سلاحٍ خارج الدولة، وتُوظّفه لخدمة مشروع الجمهورية الإسلامية أو غيرها، بالضبط كما يطرأ الآن فى الشام، وتتعالى مخاطر أن يكون الجولانى نُسخة من الأسد؛ إنما باتخاذ العثمانية الجديدة قبلة بديلة عن الشيعية الفارسية.


وكما تصدَّى الرئيس جوزيف عون للخلل القائم، وشدَّد فى خطاب القسَم على حصرية السلاح فى يد الدولة، وأنه لا أحد ينوب عن الوطن سوى مؤسساته الرسمية. فإن فلسطين فى حاجة لمسار شبيه، يبدأ من السلطة أو منظمة التحرير أو أى بناء توافقى آخر؛ المهم ألا ينتهى إلى الأصولية والتديين وفرز البيئة وتقسيمها بحسب اللون والولاء، وكلاهما يتطلّع للخارج لا إلى ما بين النهر والبحر.


يحتاج جنوب لبنان للإعمار، وتحتاج غزة لإعادة بناء من مستوى الصفر. إنما السردية فى حاجة للنظر والاشتغال عليها قبل هذا. أن يرتدّ الحزب عن عقيدة أنه لواء فى الحرس الثورى، أو ثغرة خمينية مخبوءة فى جدار العرب، وعلى حماس الانصراف عن دينها الإخوانى، وعن وكالتها لرُعاة الإخوان ومَن يُموّلونهم ويُشغّلونهم على امتداد الإقليم. يجب أن يكون الوطن مُعتقَدًا ونصًّا مقدسًا لديهما، وأن يدخلا فيها دخولا توحيديًّا من دون شريك، وبدون أن تتأسَّس أيديولوجيتهم التحرُّرية على شىء سوى الجغرافيا والديموغرافيا والرابطة المشتركة بينهما.


وهم النصر صار حاكمًا مُتسلّطا على ميليشيات المُمانَعة، وبعدما كانت تكذب اختيارًا، قد تتورّط فى الأمر لدرجة التصديق، مع ما يترتّب على ابتلاع الكذبة من اختراع مآسٍ ونكباتٍ لا حصر لها. والدعايات المُتفاخرة أمام عدوٍّ نازىٍّ مسعور، تهين الضحايا وتبتذل فواجعهم، وتُمدِّد حبل الميلودراما ليبتلع المسرح كاملا، ويسدّ أى أُفق لاستخلاص الحكاية من دوّامة الدمع والدم.


خسر محور الشيعيّة المُسلّحة جولته، ولمصلحته أن يعترف بالهزيمة، ولمصلحة القضايا التى يُتاجر بها أن ينزل عن الشجرة، وأن يفتح الباب للآخرين كى يُعيدوا إعمار السرديّة التى حرّفها، ويسَّر للأعداء تخريبها؛ لأنه لا حياة له وغيره، ولا أمل فى الحقوق الضائعة، من دون روايةٍ عَفيّة ومُتماسكة، والأهم أن تكون وطنيّة جامعة، وصافية من الألاعيب والمُزايدات.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة