حازم حسين

الغباء يحكم تل أبيب وغيرها.. عن نتنياهو وحلفائه وخصومه كما رآهم أينشتاين

الأربعاء، 19 مارس 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

الغباء أن تفعل الشىء نفسه وتنتظر نتيجة مغايرة، على ما يقول أينشتاين. المؤكد أنه ما أنتج نظريته النسبية، ولا أى إنجاز فى حياته العلمية البازخة من المرّة الأولى، لكنه قطعا كان حريصا على اجتناب التكرر المُمل، وعلى القطيعة مع النزق والمغامرات غير المحسوبة، وربما لهذا رفض رئاسة إسرائيل عندما عُرضت عليه فى أوائل الخمسينيات، وكان ناقدا لفكرتها منذ البداية، ورافضا لتأسيسها أصلا، وقال عنها: «ما يسبب لى حزنا عميقا أن أرى الصهيونية تفعل بالعرب الفلسطينيين أكثر مما فعلته النازية باليهود».

مقولة الفيزيائى الألمع تنطبق على نتنياهو تمامًا. إنه رجل غبى، متوحش، له روح شيطان وسويّة ضَبعٍ، ويُكرِّر خطاياه فى كل مُنعطفٍ كأنه يُجرّبها لأول مرّة. تتسلَّط عليه صورته المُتوهَّمَة عن الذات، وتغريه المفازات السهلة بمواصلة المسير فى حقل الألغام. يقرأ فى الوقائع خلاف ما تستبطن من معانٍ، ويُفسِّر الإشارات بأكثر مِمَّا تحتمل، ويهرب من البلل إلى الغرق.

عاد زعيم الليكود إلى جبهة الحرب. كان قد اضطُرّ فى أواخر يناير الماضى إلى إبرام هُدنة من ثلاث مراحل مع حركة حماس، ولم يتوقّف من يومها عن محاولات إفساد الاتفاق، والخروج منه بالتزامن مع الانتقال بين محطتيه الأولى والثانية. لم يكن مُقتنعًا بالتهدئة؛ لكنه أُجبِر عليها ترضيةً لترامب، وعونًا له فى رغبته أن يفتتح ولايته الرئاسية الثانية بكسبٍ معنوىٍّ.

سلَّم العجوز الماكر بشروط اللحظة؛ إنما ما توقَّف عن تقليبها على كل الوجوه المُمكنة، واختبار فرص الارتداد بواشنطن مُجدَّدًا إلى ميدان القتال. لديه أزمات فى الداخل، وعليه التزامات، وبقاؤه فى الحُكم مسألة وجودية؛ أقلّه لحين تصفية قضايا فساده المفتوحة راهنًا، أو ترتيب أوراق «الطوفان» وإخفاقاته، بما يُغيِّب المُساءلة عنه، أو يُعلِّق أجراسه فى رقاب الآخرين.

بُوغِت الغزّيون مع فجر الثلاثاء. فتح الاحتلال نوافذ الجحيم عليهم، وصبّ ناره ليُحرق الخيام وساكنيها. كان القصف مُفاجئًا؛ لكنه لم يأت من خارج التوقعات تمامًا. يُقدَح الشَّرر منذ إنفاذ اتفاق وقف إطلاق النار قبل نحو تسعة أسابيع، وما توقف الائتلاف الحاكم عن قرع الطبول ونفخ الأبواق، ولا أقلع صقوره عن التوعُّد بارتداء القفّازات وتفجير نوافير الدم من جديد.

ينطبق الغباء على حماس أيضًا؛ إذ لم يسترع انتباهها أنها خرجت من ضيقٍ إلى اختناق، وأن رخاوة الإدارة الديمقراطية فى البيت الأبيض، استُعيض عنها باختلالٍ كامل، يزيد فى الدعم لإسرائيل عمَّا كان من بايدن، ويقل فى النقد، ولا تشغله الاعتبارات الإنسانية والقانونية من أية زاوية. هامش المناورة انقضى تقريبًا، وتآكلت الأوراق، والبيئة تدمَّرت وصارت خرابًا، وكان على الحركة أن تعود للرُّشد الذى فارقته تحت قيادة يحيى السنوار.

جوهر المقاومة أن تظلّ حيًّا أصلاً لتُقاوم. والفصائل مارست حقّها المشروع؛ لكنها جارت من طرفٍ خفىٍّ على حقوق الآخرين، ولا معنى للقول إنه العَرَض الجانبى، أو الخسارة غير المقصودة. سُحِق القطاع لحمًا وعظامًا، وعاد إلى ما دون الصفر بكثير، وبدلاً من البحث فى التحرُّر أو تحسين شروط الحياة التى كانت قائمة، صارت المهمَّة أشدّ بدائيّةً من ذلك؛ ألا وإنها الدفاع عن مُجرَّد الوجود فحسب.

نزلت يدُ إسرائيل الثقيلة على ليل الغزيين، من دون رحمة أو إنسانية، وبالمُخالفة لكل بنود الاتفاق النافذ نظريًّا وعَمليًّا حتى الساعة. قضت التفاهمات بمواصلة التفاوض بين المراحل إن تعذّر الانتقال، وشهدت الأيام الماضية فعلاً لقاءات عِدّة بين القاهرة والدوحة، وقدَّم المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف اقتراحًا.

وبعيدًا من الرفض والقبول والاختلاف فى التفاصيل؛ فالأصل أن القنوات ما تزال مفتوحة، ولدى العُزّل المنكوبين فى غزّة ما يُشبه عهد الأمان، أمَّا اختراقه المفاجئ فجرًا، من دون إنذار أو تمهيد؛ فإنه لا يُعبِّر إلا عن إصرار على استهداف المدنيِّين وترويعهم. لن يزيد انتصار الاحتلال شبرًا بذبح مزيد من الأطفال والنساء، كما لا تحتاج هزيمة حماس لدليلٍ إضافىّ؛ لكن جرائم الحرب المٌمارَسة أمس واليوم تتجاوز الحركة إلى الشارع، وتشتغل بدأب على «كَىّ الوعى»، واستعادة صورة الرَّدع بالإرهاب والإفراط فى التقتيل.

يتطلّع نتنياهو من وراء العدوان لأهداف سياسية مباشرة، داخليًّا وخارجيًّا. يضغط على أعصاب الفصائل الغزيّة؛ فإمّا تُجاريه أو تُهادنه، وفى الحالين سيتوصّل لغاياته المطلوبة وفاقًا أو غَصبًا. وفيما وراء المواجهة الأصيلة، يسعى إلى تصليب ائتلافه المُتداعى، وإعادة هندسة المستوى الأمنى بما يتناسب مع طموحاته السياسية، الأهم استنقاذ سرديّته الشخصية، هربًا من الوَصْم والنهاية المأساوية، بعدما كان يُرتِّب لنفسه أن يبقى فى الذاكرة الجمعيّة كآخر ملوك اليهود، وأعظمهم على الإطلاق.

ومُفتتح البشائر أن شهادته أُلغِيَت فى محاكمات الفساد أمس. صحيح أن القضايا الثلاث ما تزال مفتوحة، وسيعود عاجلاً أو آجلاً إلى قاعة القضاء؛ لكن المعنى أن الحرب تُوفِّر له طوق الإنقاذ من معارك السياسة والقانون، وكُلَّما تأججت نار القتال، تخبو نيران استهدافه أو التصويب عليه، وتتعطل المؤامرات القائمة، وقد تُزهَق غيرها مِمَّا يُعَد فى الخفاء.

اختبر رئيس الحكومة مخاطر الاصطدام بالشارع. كان قد تعهّد لحُلفائه التوراتيِّين بالتزامات أفضت إلى عودته للسُّلطة، وتبعها إعلان مشروعه للإصلاح القضائى مطلع العام قبل الماضى، ما أثار غضب الساسة والجمهور، وأشغل موجة احتجاجات مدنيّة وعسكرية. أقال وزير دفاعه السابق يوآف جالانت ثم تراجع مُضطرًّا، وخسر المواجهة فى النهاية، ويُنظر لها اليوم على أنها كانت من أسباب «طوفان السنوار»، وأنها أربكت الدولة وشغلتها، بما عطَّل قواها، ويسّر لمُقاتلى القسّام أن يخترقوها كما لو كانوا فى نُزهة برّيّة.

وما عزّ عليه مع «جالانت» سابقًا، تحقّق له تحت راية الحرب. فضلاً على دفعه رئيس الأركان للاستقالة، وتغيير قيادة المنطقة الجنوبية ولواء غزّة وعدد من الوجوه الأمنية البارزة. يُجيد الرقص تحت النار؛ فيقتل الأغيار فى غزة والضفة ولبنان وغيرها، ويُسقط المُناوئين فى تل أبيب.

هكذا استدعى بينى جانتس وجادى آيزنكوت للائتلاف عقب الطوفان، مُوحيًا بالإجماع وصلابة الجبهة الداخلية، ثم تخلّص منهما عندما استتبّت له الأمور. والحال نفسها مع وزير الأمن القومى إيتمار بن غفير، فقد وظّفه لابتزاز الجميع، واحتمل مُزايداته طويلاً لحسابات نفعيّة واضحة، ثم انقلب عليه وأطاحه من الحكومة بعدما أحلَّ بديلاً عنه، والمفارقة أن البديل كان خصمًا حتى وقت قريب، إذ نافسه على رئاسة الليكود ثم انشقّ ليُؤسِّس حزبه الخاص.

يرقص «بيبى» على كل الأحبال، ويتلوّن فى الأيديولوجيا والخطاب، وهذا ما درج عليه منذ بدايته، وما تشرّبه من النشأة والعائلة. الجد من أتباع جابوتنسكى، والأب مُزوّر تاريخ مُحترف، والأخ ضابط فاشل قُتل بنيران صديقة فى عنتيبى. حرّض على رابين وولغ فى دمه، وعبّر مُبكّرًا عن أفكاره النازية الإلغائية فى كتاب ذائع؛ لكنه اضطُرّ لمُداهنة أوباما بحديث رمادى عن حل الدولتين. يكره التوراتيين ويُحالفهم، ويلعق أعتاب واشنطن ويتعالى عليها، ويخدع اليهود قبل غيرهم، ولا يُحبّ أحدًا سوى نفسه.

منح لحماس أضعاف ما كانت تحلم به منذ انقلابها على السلطة. مرَّر لها حقائب الدولارات دون حصرٍ أو قيد، وعزّز مركزها المعنوى بخفّة مقصودة فى صفقة شاليط. استثمر فيها، وكان يشيع عنه أنه يعتبرها زُخرًا استراتيجيًّا لإسرائيل، ويُصدّق فى أنها مُرتدعة وغير مَعنيّة بالحرب، وتضع مصالحها المالية والسلطوية فوق القضية وواجبات النضال. انكشفت أوهامه فى الطوفان، وانكشف غباؤها فى الرقص معه، رغم معرفتها بأنها لولاه ما وصلت إلى ما كانت عليه.

أخفقت الحركة فى العملية من البدء للمنتهى. زعمت فى البداية أنها فاتحة التحرير الكامل؛ ثم صارت أقصى أمانيها أن تعود لِمَا قبل السابع من أكتوبر، وآلت مطالبها إلى مُجرّد إبقاء أنفها عائمًا فوق خط الماء. ربما أرادت تكرار صفقة 2011؛ لكن الضربة كانت أكبر من الاحتواء، والإيلام تجاوز الصفقات إلى الاستفزاز. وبدا عمليًّا أن الأوراق عندما تزيد عن حدِّها تفقد قيمتها، وهكذا عجزت بأكثر من مائتى وخمسين أسيرًا، عن إنجاز ما تحقَّق لها بأسيرٍ واحد.

دُفِع دم غزير فى مُغامرة فُرِضَت على الناس، وما انتفعت منها الفصائل. وإذا كان كُتلة الرهائن الكبيرة فى بادئ المواجهة لم تمنع نتنياهو من نازيته، ولا رشّدت نار الحرب، فالمنطق أن القليل المُتبقّى من الأحياء والأموات لن يُغيِّر المعادلة، ولن يُؤَمِّن لحماس ما عَزّ عليها فى السابق. ما يعنى أنه كان عليها انتهاج مسار مُغاير فى بحث الهُدنة، وتقليب الاحتمالات على الوجوه كافة، واختيار الأقل سوءًا؛ لأنه لا شيء جيد فى هذا السياق من الأساس.

المعضلة أن الحماسيِّين يقبضون على سرديّة النصر من دون هامشٍ للتعقُّل، وينتظرون أن يجنوا المكاسب، ولا يعدّون خسائر الغزّيين من جُملة حساباتهم. كل ما رفضوه سابقًا عادوا ليقبلوه مُضطرّين، أعادوا الأسرى بأقل مِمّا كانوا يحلمون، وبمقابل أغلبه مِن ضحايا الطوفان ومَن اعتُقلوا بعده. صار القطاع خرابًا، ومع كل جولة إضافية سيُخرَّب أكثر، وسيقبلون لاحقًا بعدما تكون النكبة قد تضاعفت.

نتنياهو غبّى لأنه يتخيّل أن ما عجز عنه طوال الشهور الماضية، سيتحقق بمزيد من التوحُّش وأعمال الإبادة.. غبىّ لافتراضه أن القضية الفلسطينية مُختزلة فى حماس، مثلما تتوهّم الحركة عن نفسها، وأن تصفية التنظيم سيشطب الصراع أو يعينه على إنفاذ مخطّط التهجير.

وفصائل غزّة غبيّة أيضًا لأنها لم تتعظّ مِمَّا فات، وتضع راياتها فوق عَلَم فلسطين، ومصالحها قبل البشر والحجر. ولا معنى لإصرارها على البقاء فى الصورة، بعدما تأكد أن بقاءها يستجلب الموت لحاضنتها، إلا أنها تصرّ على وراثة الأرض بمَن عليها، ولا ترى لغزّة قيمة إلا لو ظلّت فى عصمتها.
لن تعود الحرب بمعناها الكامل؛ لكن المُناوشات لن تنقطع. الغباء حاضر بثقله على الجانبين: فى مقر الحكومة العِبرية، وفى خنادق الحركة الأُصولية. ومثلما تخادَم اليمين هنا وهناك على جثث رابين وعرفات ومنظّمة التحرير وبقايا أوسلو، فإنهما يتخادمان بغباوتهما وتكرار الخطايا نفسها، ويضعان المنطقة بكاملها فى عين العاصفة.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة