حازم حسين

طبخة نتنياهو الجديدة فى غزة.. فخ منصوب للمعارضة والممانعة والإدارة الأمريكية

الخميس، 20 مارس 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

على فاصلٍ من المأساة تنجلى الصورةُ قليلاً. ما يزالُ الدم طازجًا، والعيون نوافير ساخنةً تصهر جلود أصحابها. سُحِقَت غزَّة لحمًا وعظامًا، خسرت فى البشر والحجر، وفى المعنويَّات والشعور الوطنى أوّلاً وأخيرًا.


خذلها السلاح والسياسةُ وميادينُ القتال، خذلتها رومانسيّةُ الفصائل ورهاناتها العاطلة، وتربَّح العدوُّ على شرفِها بأضعاف ما كان لديه أو يحلم به.. على فاصلٍ من المأساة ينتحِبُ المنكوبون هنا، ويملأ القاتل شِدقَيه بالضحك هُناك، ونتأسَّى فى كلِّ مكانٍ آخر، وتتكشَّف للعاقل والغافل فداحة ما جناه المُغامرون على البلاد والعباد.


عاد نتنياهو بالأوضاع إلى ما كانت عليه قبل شهرين تقريبًا، بفارقِ أنه قلَّص منسوب الاعتراض داخل بِنيَة الدولة، ووطَّد دعائم ائتلافه الحاكم فى تلّ أييب وواشنطن على السواء، وكسَّحَ الخصومَ المُباشرين جميعًا بكلِّ الصور المُمكنة والعسيرة. انتفع أكثرَ من الحماسيِّين بالتأجيج الذى أوقدوا شرارتَه، وبالهُدنة التى زحفوا إليها على بطونهم حتى وصلوها لاهثين، ويتحرَّشُ بهم مُجدّدًا كما لو أنه ما توقَّف عن الحرب ساعةً واحدة، ولا تبدَّلت أهدافُه عَمَّا كان مُعلَنًا منذ «طوفان السنوار».


التجأ العجوزُ الماكر لاتفاق وقف إطلاق النار اضطرارًا، فلا كان مُقتنعًا به ولا راغبًا فيه. فُرِضَ عليه فَرضًا؛ لرغبة من ترامب فى تعميد إدارته الجديدة بإنجازٍ ملموس، ورأى زعيم الليكود فى المسألة فرصةً لوَصْل المَودّة بينهما من جديد، والتقاط الأنفاس، وإفساح حَيِّزٍ للعب فى إعدادات البيت الأبيض، وتطويعه لخدمة السرديَّة اليمينيَّة المُستجَدّة.


صحيحٌ أنهما عملا معًا قبل أربع سنوات، لكنَّ الأنهار تغيَّرت بمائها والجُثث الطافية على سطحها، وطموحات الدولة العِبريَّة تضخّمت كثيرًا كثيرًا، وخيالها الجيوسياسى تجرأ على أشدِّ حالاته انفلاتًا، ويتطلَّع إلى شَرقٍ مُنقَلِبٍ على ذاته القديمة بالكامل.


صار القتال موظّفًا فى دولاب الحكومة؛ بأكثر من كونه سلاحًا لنصرة الدولة وحَسم نزاعاتها مع الخارج. والحرب باعتبارها صورة خَشِنَة للسياسة؛ فإنها أداة مثالية لتطويق المُعارضة وكَتم أصواتها، وتدفيع الناس فى قناة الإجماع جبرًا، لا سيما مع بيئة تربَّت أنها تعيش دومًا على «حَدّ السكين»، ولا معنى للهدوء لديها سوى الاستعداد لجولة تالية من الفوضى.


عاد العدوان على غزّة بغتةً قبيل فجر الثلاثاء بقليل، وفى غضون ساعات عاد وزير الأمن القومى المتطرف، إيتمار بن غفير، إلى المنصب الذى غادره اعتراضًا على الهُدنة أواخر يناير الماضى. فكأن الأسابيع الماضية كانت خصامًا عابرًا بين المُحبين، أو خطّة مُتَّفَقًا عليها مُسبقًا للمناورة وتقطيع الوقت.
لطالما تعلَّل نتنياهو فى التشدُّد بحلفائه التوراتيِّين. وقد أمَّنوا له فرصة سهلة للتهرّب من الالتزامات، أو التنكّر لتعهداته قبل أن يجف حبرها. ويُحتَمل أن «بن جفير» غادر الحكومة ضمن اتفاقٍ مُضمَر؛ ليكون قيدًا عليها من الخارج، وحائلاً دون اضطرارها لمزيد من التنازلات، وأداة ترويض لخصومه فى يمين الوسط؛ لا سيما أنهم تعهّدوا سابقًا بمنحه «شبكة أمان» لتمرير أية صفقة تستعيد الرهائن من غزّة.


التصعيد الأخير ليس إعلانًا صريحًا بالحرب؛ لكنه ليس مُجرَّد رسالة عابرة. كما يتّصل بباقة المُتغيرات الإقليمية المُتشابكة. يعود «هتلر الليكود» إلى سياسته السابقة بشأن التفاوض تحت النار، ساعيا لانتزاع مُكتسبات من حماس فيما يخص تبادُل المُحتجزين، وإخراج الحركة من مشهد الإدارة والأمن فى القطاع؛ إنما يضع فى حسبانه اعتبارات الرفض والتمرُّد من جانبها، بما توفّره من ذرائع لمواصلة التسخين، وربط الجبهات ببعضها، وإبقاء المنطقة بكاملها فى فوهّة البركان.


فُصِلَت الجبهات عن بعضها فى الممارسة العَملية، ومن جانب دُعاة «وحدة الساحات» والمُتاجرين بها؛ لكنها ما انفصلت فى وعى الصهاينة، ولا جزّأوا استراتيجيتهم العسكرية بينها. كان الطوفان فاتحة خير عليهم؛ إذ يسّر لهم الإجهاز على حزب الله، وقطع طريق الشام عليه وعلى بقيّة محور المُمانَعة، وصولاً إلى اختصام إيران رأسًا، وإدارة المُحرَّكات استعدادًا لمواجهة لطالما تطلّعوا إليها، ومُنِعوا عنها بإملاءٍ أمريكى لا يخفى على أحد.


من صالح إسرائيل أن تُصفَّى الحسابات الإقليمية مرّة وللأبد، أو هكذا يتصوّر صقور الإدارة اليمينية شديدة الأُصوليّة والتوحُّش.. ما عاد بإمكانهم التصالح مع غزّة بالحال التى كانت عليها، ورغبة تغيير الأوضاع حُرِّفت إلى أطماع شرسة لإخلاء الأرض من ساكنيها، لا سيّما بعدما فجّر ترامب قنبلة مشروعه العقارى فيها، وبدا أن حلم ابتلاع ما تبقّى من فلسطين أقرب من أى وقتٍ مضى، وبإمكان السلطة الراهنة أن تُحقِّق ما عجز عنه جيل الآباء.
لا يُمكن السعى لإعادة هندسة القطاع ديموغرافيًّا فى أجواء تهدئة، أو ضمن نكبةٍ مُحتمَلة ويُعرَف آخرها.


إشعال المجمرة مُجدَّدًا يتقصَّد لوجستيات حماس ومقاتليها من جانب، وعاطفة الغزّيين وثباتهم بين الركام والأشلاء من جانب آخر؛ لكن غايته الأكبر أن يكون التنكيل فيه عاملاً حفّازًا للخطأ خارجه؛ بمعنى أن يرتبك حلفاء الفصائل المُسلَّحة ويقدّموا الذرائع المطلوبة، أو تتعثر خُطى محور الاعتدال ويصطدم مع البيت الأبيض، وفى كليهما ما يخدم خطط الصهاينة بشأن التهجير.


كان الحوثيون قد هدَّدوا فى وقت سابق بالعودة إلى حلبة المواجهة، أكان باستهداف القطع البحرية فى المجرى الملاحى، أم بالتصويب مباشرة على الاحتلال فى أرض فلسطين التاريخية ما بين النهر والبحر. والحال؛ أن موقف الميليشيا الشيعية الرديفة ضمن محور المُمانَعة تأسَّس على تقويض جهود الإغاثة، وخنق تدفقات المساعدات على مئات آلاف المنكوبين فى غزّة، فماذا لو انتقل الأمر من التجويع فحسب، إلا القتل بالجوع والنار دون مُراعاة لحُرمة رمضان؟!
أغلب الظنّ أن الجماعة اليمنية لن تصمت، بجانب أن الولايات المتحدة وضعتها على رأس أولوياتها بالفعل، وخاطبت فيها طهران من دون مُوارَبة، مُعتبرة أن أية رصاصة من جانبها تُسأل فيها الجمهورية الإسلامية. وهكذا صارت المُطاردة ثلاثية؛ فالحوثى استمدّ شرعية مُغامراته طيلة الشهور الماضية من مظلومية غزّة، وليس فى إمكانه التعامى عنها اليوم، عاصمة المُمانَعة تتطلّع لاستنقاذ ما تبقّى من أوراق قوّتها ودفاعاتها المٌتقدّمة، لكنه لا تستطيع التسليم بالارتداع مجانًا، أما إدارة ترامب فيبدو أنها فصلت الساحات والوقائع عن بعضها، ولن تقبل الجمع بينها حربًا أو سِلمًا.


يحشد الأمريكيون فيما يشبه الاستعداد لأمرٍ جَلَل. تقضى الاستراتيجية المُعتمدة بكفاية التمركزات البريّة الحالية للوفاء بالتزاماتها فى المنطقة، مع الإبقاء على حاملة طائرات واحدة. وفى أشدّ حالات الريبة بعد الطوفان وصلت بالعدد إلى حاملتين، عندما كان حزب الله زاعقًا فى التهديد وإيران مُنتشيةً بقوّة أذرعها الرديفة. اليوم تدفع بثلاث حاملات، ما يشى بالتحضير لمسألة أكبر من تطويق خطر أو ردع ميليشيا، ويُنذر بالاستعداد لحربٍ وشيكة، أو الاحتياط لاندلاعها المُباغت على الأقل.


يضغط نتنياهو على أعصاب حماس للتسليم له بما يُريد؛ وإلا فإن عليها إجابته فى دعوة الرقص، ومواصلة المُناوشات معه بالإيقاع الذى يُحدده، وإلى المدى الذى يُقرّره بإرادة فردية خالصة. واندلاع المأساة من جديد إمَّا أن تُجبر بقيّة المُمانعين على الانخراط فى مناوشات هنا وهناك، أو تمنعهم من التلاقى على توافقات هادئة مع الإدارة الأمريكية، وفى الحالين سيظل التوتر عنوانًا للإقليم، وفرص الصدام فى أعلى مستوياتها المُمكنة.


داخليا، تخلّص زعيم الليكود من وزير دفاعه السابق يوآف جالانت، ودفع رئيس الأركان إلى الاستقالة اضطرارا، ثم استعاض عنها بالجنرال إيال زامير الممتلئ شُكرًا وولاء له، ويُكرر الأمر مع بقيّة الأجهزة الأمنية، لا سيما بمساعيه لإقالة رئيس الشاباك رونين بار لصالح بديل ينتمى إليه شخصيا، لا للمؤسسة ولا مصالح الدولة العُليا.


والطموح نفسه يقوده تجاه المستشارة القضائية للحكومة، وهى المدعى العام أيضًا؛ فكأنه يُعيد هندسة المجال العام بكامله من أجواء الحرب، ويوظِّف الصراعات المشتعلة وراء الحدود لإبقاء الداخل على حالته السائلة، وتأمين حظوظه فى البقاء إلى نهاية ولايته أواخر العام المقبل، وربما لاقتطاع ولاية جديدة بعدما يُعيد ترتيب منظومة الإدارة والقانون بما يُحقق مصالحه السياسية.


قد لا تكون حماس مسؤولة عن تجدد العدوان خلال الأيام الأخيرة؛ لكن الدراما لا تُؤخَذ بالقطعة، ولا يصح النظر فى النتائج بمعزلٍ عن المُقدِّمات. نشأت الأزمة بكاملها عن مُقامرة الطوفان، واستفحلت بأثر الرخاوة فى إدارة الحديث، ثم فى التعاطى مع ارتداداته، وأخيرا المُكابرة فى الاعتراف بالخطأ، وبطبيعة الحال غياب التصحيح لأن الحركة لا ترى خطاياها من الأساس.


لم تكن اللحظة تتطلّب عَملاً استفزازيًّا بحجم هجمة الغلاف؛ لا سيما أن حكومة الليكود كانت فى أسوأ حالاتها، وتواجه ضغوطا داخلية توشك أن تُطيح بها. أقصى المنافع المأمولة أن تُدير صفقة تبادل أسرى؛ لكن طابع العملية وحجمها ضاعف أعداد المعتقلين الفلسطينيين، وخصم استباقًا من أية مُبادَلة مُحتملة مع الاحتلال. وبعيدًا من ذلك؛ فلا فائدة تُذكَر سوى تعطيل محور التطبيع بين الرياض وتل أبيب، ومحاولة نفخ النار على امتداد الإقليم، بما يضع كل الأطراف فى صدامات جّزئيّة وكُليّة مُتشابكة.


قُدِّمت هدية حماسيّة مجانيّة لنتنياهو بالطوفان. قُمِعَت موجة المعارضة الداخلية تحت ضغط الامتحان الوجودى للدولة، وبُنِيَت حالة إجماعية وراء قيادته، وتجنّد الغرب لخدمته، وفاز من البيت الأبيض بأضعاف ما كان يتمنّاه، لا سيما أن علاقته كانت متوتّرة أصلاً بإدارة بايدن. وحتى بعدما تكشّفت الخطيئة؛ ما اعتذرت الحركة ولا بادرت للتصويب، ولو من جهة المبادرة إلى إطلاق الرهائن وسلب ورقتهم من يد الاحتلال، خصوصا أن بقاءهم لم يُحقّق أية مكاسب، بقدر ما وفّر الذريعة اللازمة للانقضاض على القطاع بلا انقطاع.


التنحّى عن المشهد أفضل ما بإمكان الحماسيِّين أن يقدّموه لبيئتهم وقضيتهم العادلة. نتنياهو لن يتوقّف عن ممارساته الإبادية، والغول الأمريكى يُشرف له على المحرقة وينفخ فى النار دون حَرَج. الأسرى سيموتون أو يعودون لذويهم، والسجون الإسرائيلية لن تُبَيّض من المُعتقلين، وسلاح القسّاميين وشعاراتهم لا يحمى العُزّل المنكوبين، ولا يُخلّى السياق خالصًا من الوَصْم والدعايات.


لا حاجة للتذكير بأن القضية أبقى من أصحابها وغاصبيها، ولا أن إسرائيل نازىّ وقح، وحكوماته جميعًا ولغت فى الدماء بتفاوتٍ غير بعيد، ولن تتوقّف عن غرامها الآسر بالقتل والترويع. المقاومة العاقلة أن تكسب أرضًا أو معنويات، وألا ترتدّ شبرًا للوراء.
ليست كل المقاومة رصاصًا ونزوات انتحارية، ولا كل السياسة خنوعا وتفريطًا. إن واجهت ذئبا جائعا فلا شجاعة فى تحدّيه أو مصارعته، وغاية الحكمة والاقتدار أن تفلت من مخالبه. وعلى الفصائل اليوم أن تستدرك ما فاتها طيلة الشهور الماضية، وأن تُفسِح المجال لبدائل واحتمالات غير ما جرّبته وخسرت به طويلاً.


إذا كانت الهزيمة حاضرة فلا عقل فى إنكارها، وإن كان القادم أسوأ فلا دين أو إنسانية فى المُكابرة، لا سيما لو كانت تخدم العدوّ المجنون، ولو كان مُصرًّا على جنونه، وكل الظروف تلعب لصالحه وتقطع بأنه لن يتغيّر فى القريب.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة