دائمًا ما كانت الدراما المصرية مرآةً تعكس نبض المجتمع، وتنقل تحوّلاته الاجتماعية والثقافية، وتسهم في تشكيل الوعي الجماهيري تجاه القضايا المصيرية، ومن بين أبرز القضايا التي تناولتها عبر العقود، تبرز صورة المرأة كعنصرٍ محوري يعكس مدى تطور المجتمعات وتغير مفاهيمها؛ فقد شهدت هذه الصورة تحولات جذرية في السنوات الأخيرة، متأثرةً بالتغيرات الاجتماعية ودور المرأة المتنامي في مختلف المجالات، فلم تعد محصورة في الأدوار التقليدية التي جسدت لسنوات طويلة المرأة الضعيفة أو التابعة، بل باتت المسلسلات الحديثة تقدم نماذج نسائية قوية، ملهمة في مختلف القطاعات، قادرة على صنع القرار وتحمّل المسؤولية، سواء في الحياة الأسرية أو المهنية. وبهذا التطور، أصبحت الدراما المصرية لا تكتفي بعرض قضايا المرأة، بل تحوّلت إلى منصة تُمكنها، وتُعيد صياغة صورتها لتليق بمكانتها الحقيقية في المجتمع.
وقد ركّزت الدراما المصرية في الماضي على تقديم المرأة كمجرّد تابع للرجل، حيث جاءت الأدوار النسائية نمطية في الغالب، مقتصرة على صور الأم الحنون، الزوجة المضحية، أو الفتاة المستسلمة لظروفها، وكأن وجودها مرتبط فقط بمن حولها، لا بكيانها المستقل وطموحاتها، ومع مطلع الألفية الجديدة، بدأت ملامح التغيير تتسلل إلى المشهد الدرامي، فبينما حافظت بعض الأعمال على القوالب التقليدية، ظهرت محاولات جادة لإبراز نماذج نسائية أكثر عمقًا وتنوعًا، تعكس واقع المرأة المصرية بمختلف أدوارها.
فقد ظهرت محاولات أكثر نضجًا لإبراز نماذج نسائية حقيقية من واقع المجتمع، تجسد شخصيات أكثر استقلالية وتأثيرًا، كطبيبة تنقذ الأرواح، قاضية تحكم بالعدل، محامية تدافع عن الحق، صحفية تبحث عن الحقيقة، وسيدة أعمال تشقّ طريقها وسط التحديات، وقد تأثرت الدراما المصرية في السنوات الأخيرة بالحراك الاجتماعي والثقافي العالمي الذي دعم قضايا تمكين المرأة وسلط الضوء على دورها في بناء المجتمعات، فانعكس ذلك بوضوح على الأعمال الدرامية، التي لم تعد تكتفي بتقديمها كعنصر ثانوي، بل أصبحت البطلة التي تحمل الأحداث على عاتقها، تواجه الصعاب، تصنع قراراتها، وتجمع بين نجاحها المهني والاجتماعي، مع حفاظها على توازنها العاطفي والأسري.
وهذا التطور الدرامي لم يأتِ من فراغ، بل هو انعكاس مباشر لواقع المرأة المصرية، التي أثبتت حضورها القوي في مختلف الميادين، وأصبحت عنصرًا فاعلًا في جميع القطاعات، وبذلك، لم تعد صورة المرأة في الدراما مجرد انعكاس تقليدي، بل تحولت إلى مرآة تعكس قدراتها الحقيقية، وتقدمها كنموذج يُلهم الأخرين وصورة حية للنجاح، مما ساعد في رسم صورة أكثر إنصافًا وواقعية للمرأة المصرية، المرأة القوية، الطموحة، القادرة على التغيير وإحداث الفارق.
وقد شهدت الدراما المصرية في هذا العام 2025 تطورًا ملحوظًا في تناول قضايا المرأة، حيث برزت أعمال درامية تعكس بعمق وتعاطف واقع المرأة المصرية، مسلطة الضوء على تحدياتها، ونضالها، ونجاحاتها في مختلف مناحي الحياة، هذه الأعمال لم تكتفِ بتقديم المرأة كعنصر داعم، بل جعلتها محورًا رئيسيًا في السرد الدرامي، تجسيدًا لدورها المحوري في بناء المجتمع.
ومن أبرز بعض هذه الأعمال مسلسل (عايشة الدور)، الذي قدّم صورة مؤثرة للأم المطلقة في المجتمع وما تواجهه من تحديات حياتية جسيمة، خاصة في تربية أبنائها بمفردها، وسط نظرات المجتمع وأحكامه المسبقة، ولم يقتصر المسلسل على إبراز معاناتها، بل سلط الضوء على رحلتها في استكمال تعليمها الجامعي، في خطوة جريئة لاستعادة شغفها بالحياة وفتح آفاق جديدة أمامها، هذه القصة ألقت الضوء على قوة الإرادة والإصرار لدى المرأة في مواجهة الصعاب، والسعي الحثيث نحو تحقيق الذات رغم التحديات.
أما مسلسل (لام شمسية)، فقد تطرق إلى واحدة من القضايا المجتمعية الأكثر حساسية وتأثيرًا، وهي التحرش الجنسي بالأطفال، مسلطًا الضوء على الدور المحوري والحاسم، الذي تؤديه المرأة في حماية أسرتها والدفاع عن حقوق أبنائها في مجتمع قد يتغافل أحيانًا عن هذه الأزمات أو يواجهها بالصمت والخوف؛ فقدم العمل نموذجًا للمرأة القوية، التي لا تهاب العقبات، بل تخوض معاركها بشجاعة وعزم، متسلحةً بالوعي، والإرادة، والإصرار على كشف الحقائق، وإحداث تغيير حقيقي في محيطها، وقد نجح المسلسل في إبراز الجانب الإنساني للمرأة، حيث ظهرت كحامية، ومرشدة، وصوتٍ للعدالة، تصارع من أجل توفير بيئة أكثر أمانًا واستقرارًا لأطفالها، وللمجتمع بأسره، مما جعل العمل صرخة درامية مدوّية تفتح باب النقاش حول ضرورة كسر حاجز الصمت، ومواجهة هذه القضايا بكل حزم ووعي.
ويعالج مسلسل (حسبة عمري)، قصة امرأة تواجه تحديات الحياة الزوجية بعد سنوات طويلة من الزواج، مما يجسد عمق دور المرأة في الحفاظ على كيان الأسرة، وسط التقلبات العاطفية والاجتماعية، ويبرز صمودها في مواجهة التحديات التي قد تهدد استقرار حياتها الزوجية، أما )أثينا(، فينقل المشاهد إلى عالم الصحافة، حيث تسعى البطلة، وهي صحفية شغوفة بالبحث عن الحقيقة، إلى كشف غموض انتحار شقيقها، لتجد نفسها متورطة في صراعات لم تكن في الحسبان، فتنطلق في رحلة محفوفة بالمخاطر، مدفوعة بروح التحدي والإصرار على تحقيق العدالة، مما يعكس شجاعة المرأة في مواجهة التحديات المهنية والشخصية، وسعيها الدؤوب لإثبات ذاتها في مجتمع لا يخلو من العوائق.
وبمسلسل ناقص ضلع يتم مناقشة قضايا تتعلق بالمرأة المصرية، مسلط الضوء على التحديات التي تواجهها في المجتمع الحديث، مما يعكس تنوع تجارب المرأة المصري، وكذلك مسلسل ظلم المصطبة يعكس معاناة المرأة في الريف المصري، حيث بسلط الضوء على قضاياها وتحدياتها في المجتمع الريفي في سبيل تحقيق ذاتها، وتعكس هذه المسلسلات التنوع في تناول قضايا المرأة المصرية، وتبرز دورها المحوري في المجتمع، سواء في الحياة الشخصية أو المهنية، مما يعكس تطور الدراما المصرية في تسليط الضوء على قضايا تمكين المرأة وتحدياتها.
ونجد أن مسلسل (ناقص ضلع(، يناقش مجموعة من القضايا الشائكة التي تمس واقع المرأة المصرية، مسلطًا الضوء على التحديات التي تواجهها في المجتمع الحديث، من صراعها مع الأعراف والتقاليد، إلى كفاحها في ميادين العمل، مما يعكس تنوع تجارب المرأة المصرية وإرادتها الصلبة في تخطي الصعاب ومواجهة التحديات والتغلب عليها وأثبات الذات، وعلى الجانب الآخر، يأتي مسلسل )ظلم المصطبة( ؛ ليقدم صورة واقعية لمعاناة المرأة في الريف المصري، حيث يسلط الضوء على التحديات القاسية التي تواجهها، بدءًا من بعض العادات الاجتماعية السلبية الموروثة، وصولًا إلى نضالها لتحقيق ذاتها وكسر القيود التي تحدّ من طموحاتها.
ومن خلال هذا الطرح وبعد رصد بعض الأعمال الدرامية الهادفة، يتضح أن الدراما المصرية الحديثة باتت أكثر نضجًا ووعيًا في تناول قضايا المرأة، فلم تعد تقتصر على الأدوار النمطية، بل أصبحت تقدمها ككيان مستقل، قادر على المواجهة والنجاح، متسلحة بالعلم والإرادة والعزيمة، وهذا التحول الدرامي لا يعكس فقط التطورات الاجتماعية، بل يسهم أيضًا في إعادة تشكيل الوعي المجتمعي تجاه المرأة، وإرساء صورة أكثر إنصافًا لدورها الحقيقي.
وجدير بالذكر أن الشاشة الفضية باتت منبرًا يُبرز نضالات النساء، طموحاتهن، وتحدياتهن، مع تسليط الضوء على القضايا القانونية والاجتماعية التي تؤرقهن، مما أثار نقاشات جادة حول ضرورة تعديل بعض القوانين، ودعم حقوق المرأة في مختلف المجالات، ونؤكد أن نجاح هذه الأعمال الدرامية وغيرها لم يكن مجرد نجاح فني، بل كان خطوة مؤثرة في كسر الصور الذهنية النمطية، ودفع عجلة التغيير نحو مجتمع أكثر وعيًا بقدرات المرأة ودورها في بناء المستقبل.
وبفضل هذا التطور الملحوظ، لم تعد الأعمال الدرامية مجرد قصص تُروى على الشاشة، بل أصبحت مصدر إلهام للنساء في الواقع، تفتح لهن آفاقًا جديدة من الطموح والأمل والإصرار، وتُنمي ثقتهن بأنفسهن وبقدرتهن على تحقيق أحلامهن، ومن ثم باتت الدراما المصرية اليوم مرآةً تنبض بواقع المرأة المصرية، تعكس نضالاتها، وتجسد أحلامها ومعاركها، مما يمنحها صوتًا أقوى في الساحة الفنية والمجتمعية على حد سواء، وأصبحت الشاشة الفضية منبرًا للتمكين، لا تكتفي برصد التحديات فحسب، بل تدعو إلى التغيير، وتنادي بضرورة إعادة تشكيل المفاهيم الاجتماعية حول أدوار النساء في المجتمع، فتغدو بذلك رسالة الفن أعمق أثرًا، وأكثر التصاقًا بالواقع.
_____
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر