حازم حسين

عداء نتنياهو ولاهوت حماس.. عن وحشية الاحتلال وخفة النضال بلحم الأطفال

الإثنين، 24 مارس 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لعلّها أوّل حربٍ تنتهى عمليًّا قبل أن تبدأ، وليس ذلك لفارقِ القوّة بين المُتقاتلين فحسب، ولا لاختلافهما الحدّى العميق ظاهرًا؛ بل لاتفاقهما فى الجوهر بأكثر مِمَّا يلحظ الناظر من الخارج، وما يتخيّل كلٌّ منهما عن ذاته والآخر الغريم. ناران يختصمان فى لحمِ المنطقة وعظامها، والنار تأكلُ نفسَها بطبيعة الحال؛ إن لم تجِد ما تأكله، على ما قال المتنبى قبل ألف سنةٍ أو يزيد.


تكشّف من سيرة الإخوان بعد عقود طويلة أنها كانت صنيعة الاحتلال بدرجة أو أخرى. سعى حسن البنا وراء الفكرة بضميرٍ أو خسّة، وحرّكَه الإملاءُ أو التطلُّعات الشخصية، المهمّ أنه بدأ من مقاهى الإسماعيلية بنفرٍ قليل من الحِرَفيِّين غير المُتعلّمين، وفى غضون سنواتٍ صار يحكم الآلاف، ويتربَّع على ثروة طائلة، ويُقَسِّمُ المجتمع الناهض أُفقيًّا وعموديًّا، حتى بدا أنه فى خصومةٍ مع الثوّار بأكثر مِمَّا يختصمُ المُستعمِر.


يُنظَرُ للجماعة على أنها كانت الخنجرَ المسموم فى خاصرة الحركة الوطنية. أراد الإنجليز أن يلعبوا فى إعدادات الهُويَّة، ويُسيِّدوا عنصرًا على آخر، وأن ينفذوا من المُقدَّس الذى لا يقبلُ النقاش والجَدَل، إلى اختزال الحياة كلِّها فى العقيدة، وإعادة المصريين قرونًا للوراء فكرًا ووَعيًا، ولو تقدَّموا فى الزمن وتغيَّرت الأحوال من حولهم. باختصارٍ، كانت هجمةً مُخطَّطة لسرقة الحاضر والمستقبل، تحت ستار الماضى ومثاليّته المزعومة أو المُتوهَمَّة.


شبهات عِدّة تطال علاقتها بالقصر والمُحتلّ، وحكايات عن دعمٍ مالىٍّ مباشر من شركة قناة السويس الفرنسية وقتها، وأعمال عنفٍ وتصفيات جسديّة أُديرت تحت سمع البريطانيين وبصرهم، أو تقاعسوا عن النظر فيها والتصدِّى لها. اختصمت الجماعة كل الأطراف إلا العدوّ، وما عُرِف عنها النضال للاستقلال.


وما يجرى على المركز لا تنفلت من أحكامه الأطراف. سعت الجماعة لعبور الحدود مبكرا، وتسارعت خُطاها بعدما اصطدمت بالدولة مرّة إثر أخرى، ودفعت بطابور من رعيلها الأول إلى النزوح هربا من المساءلة. وبمنطق الانفلات من النظام والقانون، ونفسية المُطارَد المُعادى لبيئته، تشكّلت صورة الجماعة فى الخارج، وصيغت أقنيتها الجديدة بين تنظيم دولى وأجنحة قُطرية، وانتقلت العِلّة بتمامها من الجذر للفروع. فصيل انعزالى يُدخل السياسة فى القداسة، يتعالى بالدين، ويكره الآخرين، ولا كرامة لديه لفكرة أو معتقد إلا بقدر ما يخدمان مصالحه. عين الدائرة، هكذا يرون أنفسهم، وكل ما عداهم هوامش وسقط متاع.


لا دين أُهين من أتباعه مثلما جرى مع الإسلام. من القرن الأول دخلت فيه الأهواء والمطامع، وانقسم الناس فيها شيعا وفرقا وجماعات على قاعدة القبيلة أو المصلحة. الإخوان جسّدوا صورة عصرية من فتن الماضى، وسعوا بكل جهدهم إلى تعميمها على امتداد الخرائط كلها، وما استنكفوا أن يخدموا الغريبه العدو نكاية فى القريب المختلف، وهكذا تمتلئ سيرة الجماعة منذ الستينيات بالانحطاط، وازداد عندما اختطفت الحكم فى غفلة من الناس بعد 25 يناير 2011، ثم إرهابها المفتوح على المصريين بعد ثورة 30 يونيو، وقد استعانت فيه ببعض أفرعها الخارجية، وأُعينت بإقبالٍ عظيم منهم؛ ولو على حساب قضاياهم الوجودية.


لا ينسجم الفهم الأُصولى المُتحجّر للدين مع فكرة الوطنية فى الدول الحديثة. وهو إن كان عاجزا عن التعايش مع رابطة تستند لذاتها حصرا، ولا تُؤسس لقدسيتها على اللاهوت والغيبيات؛ فإنه أعجز بالمنطق عن التجنّد لخدمتها أو الدفاع عنها. يصعب أن ينظر للجغرافيا بمعزل عن صورة ديار الإيمان وديار الكفر، وعن التصور القديم لفكرة الجهاد، والخلط فيه بين الدفع والطلب، لا سيما فى سياق أزمة ومع هوية تختنق بتناقضاتها الداخلية، وبالإغارة عليها من الخارج.


تاجر «الإخوان» بالقضية الفلسطينية منذ بدايتها، وعليهم علامات فى جمع التبرُّعات وتسيير المتطوعين، والتقاط السلاح من الميدان لتكديسه على ضفاف القناة؛ تمهيدا لاستخدامه ضد الدولة والمصريين.. التقى أمين الحسينى بهتلر، وتوسَّط لجمعه مع حسن البنا. بدت الجغرافيا ما بين النهر والبحر بقرة ذهبية لاستدرار حليب العاطفة، وما يزال الأُصوليون حريصين على إبقائها فى عُهدة الوظيفية المفروضة عليها، وحصرها فى دور منصّة المُزايدة، وأداة تأجيج المشاعر، وماكينة إنتاج المكتسبات السهلة وزهيدة التكاليف.


ما كانت الجغرافيا خلوًا من النضال قبل النكبة وبعدها، وما كان الإسلاميون بعيدين من الحركة الوطنية. لعب عزّ الدين القسّام دورًا فى التمهيد للثورة، وسار على دربه آخرون. كانت طبيعة المرحلة، وبقيّة من رواسب الدولة العثمانية الساقطة. الرعيل الأول لم يفرض عمامته على البلد، وما استبدّ بالمسألة بحثًا عن شرعيّة ذاتيّة أو منافع تنظيمية. وأخذت التجربة مداها حتى تبلورت، وتخلّصت من كل راسب يُشغِّب على الصفة الوطنية الصافية، فانحلّت خلفيات المؤسسين فى فتح، واتّخذت منظمة التحرير طابعًا عابرا للأيديولوجيا والهّويّات الجزئية، ووقع المشروع التحرُّرى على هيئة وعنوان مُناسِبَين تمامًا.


ليست مصادفة أن تتأسَّس حماس فى أواخر الثمانينيات، وبعد اندلاع الانتفاضة الأولى بغضبة شعبية عارمة، تحت راية عرفات ورفاقه فى المنظمة. ظلّ إخوان غزّة صامتين عقودًا من دون كيان نضالىٍّ، ثم قفزوا على حقول الآخرين، وسعوا لحصد ما لم يزرعوه. كانت الحركةُ أقرب إلى البحث عن الغنائم قبل تأمينها، بل وقبل الانتصار فى المعركة من الأساس.


عاش الحماسيون قرابة العقدين تحت السقف، وقد كان عيشًا إجباريًّا لا اختياريًّا؛ إذ ما كان لهم أن يُنازعوا ياسر عرفات فى زعامته، ولا أن يُقنعوا الجمهور بقدرتهم على ملء مكانه. كانت أول خدمة إسرائيلية لها فى تصفية الرجل، ثم فى تأمين انقلابها على السلطة والانفراد بحُكم غزّة، والاستثمار المُكثّف فيها لسنواتٍ طوال، أكان بتدعيم رمزيتها بالصفقات والحروب الخاطفة، أم بتعبئة خزائنها بحقائب الدولارات العابرة من مطاراتها.


قدّمت «حماس» لإسرائيل ما لم يُقدّمه أى فصيل. بدءًا من التشغيب على اتفاق أوسلو بالعمليات الانتحارية، وكانت أكثرها صخبًا بالتزامن مع إطلاق المبادرة العربية فى العام 2002. بدا كأنها تحالفت مع اليمين الصهيونى ضِمنيًّا، وقد أسفرت علاقة التخادُم بينهما عن تقوية مراكز الفريقين فى بيئتيهما، ولدى الداعمين الخارجيين.


ولا هدية أكبر من «طوفان السنوار»؛ ليس لأنه بُولِغ فى حجم العملية دون مقدرة على جنى عوائدها، أو التحسُّب لارتداداتها المتوقَّعة؛ إنما لأن نتنياهو كان قاب قوسين أو أدنى من الاختناق، وأُلقى عليه طوقُ النجاة استخفافًا وتطوّعًا. وما تزال الهدايا تترى عليه؛ لأنه ما من طرفٍ يطلب استمرار الحرب أكثر منه، وما من خاسرٍ معها سوى الفلسطينيين.


أفسد الضبع اتفاق الهُدنة كما كان يتمنّى منذ بدايتها؛ إنما أُعين على نواياه بخلل ظاهر فى مُقاربات حماس. تقول الحركة للوسطاء إنها جاهزة لإخلاء مرافق غزّة والنزول عن إدارتها لبديل وطنى غير فصائلى، ثم تُفاوض واشنطن فى الدوحة على بقائها. يُردّد ساستها ما يبدو أنهم عاجزون عن إنفاذها، ويُقرّر مقاتلوها فى الأنفاق ما يُثقِل كاهلها ويقصم ظهر القضية وأهلها من دون استثناء.


السياسة بمنطقها المادىّ تخضع للفحص، وتُوجِب المُساءلة؛ إنما الجهاد من منظور عقائدى لا يحتكم سوى للنص حمّال الأوجه، وللسماء فى يوم القيامة. وبهذا؛ لا تجد الفصائل حاجة للإقرار بالخطأ، ولا للاعتذار عنه أو السعى لتصويبه. إنها تنطلق من انغلاقية حركيّة وفكرية، ومن ثَمّ فلا تعنيها خسائر الآخرين، ولا أن ترى ما يرون. بل ويصح فى نظرها أن تزعم النصر؛ لأنها فسطاط مستقلّ بذاته عن المجموع الوطنى، ولا هزيمة إلا إن أقرّت بالانهزام، ولا قيمة للحجر والبشر طالما ظلّت رايتها الخضراء مرفوعةً، أو رؤوسها الساخنة مُختبئة فى باطن الأرض.


العقلية الانتحارية تلك، لا تستنكف أن يخرج قائدها الرفيع خالد مشعل ليقول إن بحيرات الدم وتلال الأشلاء مجرد خسائر تكتيكية، ولا أن يُردِّد آخرون من داخلها وخارجها أنهم سيُقاتلون بلحم الأطفال. تفقد الأبدان معناها وقيمتها، وتُصبح منصّة لاستعراض القوّة: القاتل يُشكِّل منها طقوسه فى الإعاب وكىّ الوعى، والمُقاوم يُثبِّت من خلالها سرديّة أنه غير قابل للانكسار، ولا تعنيه الأرواح والجُثث مهما تراكمت.


وبينما كانت الشرارة الأولى مُقامرة ساذجة؛ فإن ما تلاها يبدو مقصودًا لذاته. كما لو أن الفصائل أرادت الضغط على عصب الاحتلال؛ فإما يبلع الصفعة ويُبرم الصفقة، أو يُنكِّل بالمدنيين، فيسخر دعائيًّا ورمزيًّا. والمقايضة على هذا المعنى تُهدر المادىّ اكتفاء بالمعنوىّ، وتعزل القضية عن مجالها الحيوىّ الوحيد، والذى لا قيمة لها من دونه، ألا وهو البشر.


يعرف نتنياهو كيف يفكر الحماسيّون؛ لأنهما من طينة واحدة. عند نقطة معينة يفقد الضغط أثره وقيمته، ومثلما كانت ضخامة «الطوفان» مانعًا من تكرار صفقة شاليط، أو الهروب من التداعيات كما جرى فى خمس حروب سابقة؛ فإن كثافة العدوان على القطاع أفقدت الحركة قدرتها على التقييم واستيعاب مقدار النكبة التى تسبّبت فيها؛ لكن الأخطر أنها مرَّت فظائع الصهاينة بأقل قدرٍ من الآثار الجانبية، وما تزال تُهدِّد بالمزيد.


وافق الكابينت على استحداث إدارة جديدة للعبور الطوعى، أى التهجير. قطاع من المنكوبين يتمسّك بالأرض؛ لكن آخرين قد يقبلون فكرة الرحيل. ثلاث عشرة مستوطنة فُصِلت فى الضفة الغربية لتستقل بذاتها، والضمّ وشيك. وزير الدفاع يسرائيل كاتس يُهدد باقتطاع أراضٍ من غزة، والقسّام تُطلق قذائف هيكلية فارغة المضمون فتُجدِّد الذرائع.


لا معنى لاستهانة حماس بالنقطة التى وصلت إليها القضية، سوى أنهم يعيشون مرحلة من الإنكار، أو لا يضعون فلسطين فى الحسبان أصلاً. اختتم السنوار حياته بصورة تُرضيه؛ لكنه أورث الناس من بعده محنةً لا رادّ لها، والجالسون على مقعده يُقدّمون رجلاً ويؤخرون الثانية، ويفتقدون شجاعة الإقرار بجنايتهم، والبحث عن لإنقاذ البلد مِمَّا أحدثوه به. لا معنى للتراخى سوى افتقاد الرؤية، أو الرغبة، أو أنهم ينتظرون مُعجزةً لا أمل فيها على الإطلاق.


ما أُضيرت القضية بشىء أكثر من تديينها، واعتماد سردية الوقف الإسلامى فى صراع سياسى وأخلاقى وقانونى. لا سخف أكبر من الرقص بين مفهومى النصر والهزيمة، ولا وقاحة أفدح من رفع الجماعة فوق الجميع، التضحية بالبشر يأسًا أو طمعًا فى ترجمة الدماء دعايات. نتنياهو يقتل لمنفعةٍ خاصّة، له أو لدولته النازية المُلفّقة؛ إنما دفاع حماس عن وجودها لا يصبّ لصالحها ولا للقضية، ويخدم العدوّ بأكثر مِمّا يسوؤه. ولا أمل فى الحرية، قبل أن يتحرَّر المناضلون من لاهوت النضال المفروض عليهم بإرادة فوق أرضية؛ لكنها ليست سماويّة على الإطلاق.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة